في خطوة انتظرها الكثير من المراقبين والفاعلين، لم تمكّن هيئة بوعسكر إلا إثنين فقط من الراغبين في الترشح إضافة إلى قيس سعيد. وبهذه الخطوة تكون ملامح “الانتخابات” القادمة قد برزت للعيان من الآن. لقد أكدت الشعبوية اليمينية المحافظة منذ تربّعها على منظومة الحكم في بلادنا أنها معادية للديمقراطية، وأنها متماهية مع الفكر الفاشي الذي لا يرى في الانتخابات إلا آلية لبلوغ الحكم، وبعد ذلك تصبح آلية منبوذة وغير معتمدة لأنها قد تحمل إمكانية التغيير غير المرغوب فيه. لقد ركزت الدعاية الشعبوية على فساد هذه الآلية فسادا مبدئيا واختلطت أهداف اليمين بأفكار يسراوية ربطت بشكل مطلق وكلي الانتخاب بالمال وبمصالح اللوبيات الفاسدة، بما انتهى إلى رفض الآلية الانتخابية بتمامها وكمالها، كما انتهت المقاربات الشعبوية سواء التي عبّر عنها رئيس الدولة أو مريدوه، بكون صندوق الانتخابات هو آلية قاصرة لأنها يمكن أن توصل إلى مواقع القرار فاسدين أو عملاء أو أعداء الشعب. لقد عبّر سعيد بوضوح يوم 6 أفريل 2023 في المنستير بكونه لن يسلّم الحكم إلا لوطني، بما يعني أن الآلية الانتخابية في فكره هي آلية مشروطة، فإذا صعّد الصندوق من يرى سعيد أنه غير وطني فلن يسلمه دفة الحكم. وبقطع النظر عن دلالة الوطنية فإن هذا المنطق يعني في الواقع مشروعية احتكار الحكم بمجرد بلوغه، والتعلل بكل الحجج لوضع اليد عليه مثلما فعلت كل أنظمة الاستبداد في الشرق والغرب. إن هذا الفكر السياسي ينهل من فكر قروسطي ظلامي يعتبر الانتخابات مثل عود الثقاب لا يشتعل إلا مرة واحدة، والمقصود بالمرة الواحدة هي المرة التي تحمل ذلك الحاكم إلى كرسي الحكم. إنها فكرة التيارات الظلامية التي كفّرت الديمقراطية والانتخابات إلا إذا أوصلت “مسلما صالحا”، أي إخوانيا، كما ذهب إلى ذلك خاصة سيد قطب وأبو الأعلى المودودي، الذين يشكلان المرجعية الفكرية للتيارات الظلامية.
إن فكرة شعبويينا حول الصندوق هي فكرة تتطابق مع “نظرية عود الثقاب”، لذلك يسود في الوسط الشعبوي منذ مدة كثير من الضجيج والتوتر خوفا من مفاجآت الصندوق من جهة، ونزوعا من أجل اتخاذ كل ما يمكن وما لا يمكن لتحويل الاستحقاق الانتخابي إلى تزكية لا غير. ويستنفر “العقل الشعبوي” كل طاقاته لتبرير التعسف والتلاعب وتوظيف المرفق العام وشيطنة الخصوم والدوس على أبسط حقوقهم المواطنية واعتماد خطاب المغالطة لدغدغة المشاعر الوطنية والاجتماعية في الوقت الذي يستمر فيه التنفيذ المتفاني لخيارات التبعية والتفقير.
لقد لعبت الشعبوية الحاكمة على تسريب أنماط من التفكير السياسي ذات المضمون الاستبدادي البدائي الذي يبخس الحرية والحقوق ومبادئ المواطنة وقيمها ويحقّر النخب السياسية والفكرية لحساب فكرة الملهم والمنقذ والمخلص، وهي أفكار منافية للعقلانية وحتى للقيم الإنسانية التي حفلت بها الأنوار والحداثة البرجوازية فما بالك بالقيم والمبادئ التي حملها الفكر الاشتراكي وعبّر عنها. إن هذه الموجات الفاشية هي تعبير مكثف على الأزمة العميقة التي تهزّ الدولة والمجتمع ومنظومة الحكم بعد الثورة والتي جلبت للحكم تيارات متهافتة وشعبوية وغير ديمقراطية فلوّثت المناخ ودمّرت شروط تطور الديمقراطية في حدودها السياسية الدنيا، وهو ما عزّز شروط صعود الشعبوية الحالية التي قطفت كل الثمار الفاسدة لديمقراطية بارونات التهريب والتهرّب والطبقات الطفيلية المستفيد الأساسي والأول من تحولات شكل السلطة في تونس دونا عن مسّ طبيعة الدولة القائمة كجهاز سيطرة طبقية في خدمة الخيارات اللاوطنية واللاشعبية التي لن تغطيها شعارات المغالطة التي يرددها ديكور السلطة وحزامها.