بقلم محمد الحباسي
تعيش تونس على وقع المرحلة المتقدمة من الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها بتاريخ 6 أكتوبر من العام الجاري وقد أعلنت الهيئة “المستقلة” للانتخابات عن قبول ملفات ثلاثة مرشحين فقط (الرئيس الحالي ومرشحين إثنين آخرين) ورفض ملفات عشرات المرشحين المحتملين وهو ما يؤكد صحة الموقف الطاعن في مشروعية وشرعية هذه الانتخابات التي تأتي كحلقة متقدمة من مسار انقلابي يهدف إلى تركيز دعائم الحكم الفردي المطلق سياسيا والحفاظ على مصالح المنظومة التي حكمت تونس منذ تاريخ الاستقلال الشكلي إلى اليوم وتتمّ هذه الانتخابات في مناخ سياسي وقانوني يسوده الانحياز التام للرئيس الحالي ومحكوم بسمات التخويف والترهيب.
ورغم كل ذلك، يواصل شق من التيار المحسوب تاريخيا على اليسار التمسك بموقفه الداعم للرئيس الحالي قيس سعيد، وتبرر هذه الجماعة موقفها هذا بكون قيس سعيد ينحدر سياسيا من خارج المنظومة التي حكمت تونس ويعتبر بديلا لها ويمكن التعويل عليه لإنقاذ تونس وشعبها من تداعيات الأزمة الشاملة التي أفضى إليها تطبيق الخيارات السياسية والاقتصادية القديمة. وللوقوف على مدى صحة هذا الرأي سنحاول تحديد المصالح التي يعبر عنها قيس سعيد كمقدمة للإجابة عن السؤال التالي: هل أن قيس سعيد أتى لإنقاذ تونس وشعبها أم لإنقاذ المنظومة الحاكمة في تونس؟
إن تحديد الطبيعة الطبقية لسياسة قيس سعيد تتطلب منا أولا الوقوف على مفهوم المنظومة.
يعدّ مفهوم المنظومة من قبيل المفاهيم الأكثر سجالية. وانطلاقا من القاموس العلمي يمكن تحديده بكونه يتعلق بمفهوم واسع يتطابق تقريبا مع المفهوم الاشتراكي للبنية الاجتماعية. والمنظومة تتضمن جملة من العناصر المحددة والأساسية على غرار نمط الإنتاج والعناصر الثانوية والأقل أهمية وهي المحددات الفكرية والنظام السياسي والنظام الفلسفي والقيمي والأخلاقي. تتأسس إذن المنظومة على جملة من العناصر والخيارات المرتبطة والمتداخلة والمتكاملة التي تتأسس على قاعدة اقتصادية معينة وتتلاءم مع نظام سياسي ونظام اجتماعي وثقافي / فكري ونظام أخلاقي (مجموعة القيم اليومية الاجتماعية السائدة) تنسجم معه هذه القاعدة الاقتصادية / المصالح الطبقية، وظيفيا للحفاظ عليها وإضفاء مشروعية متجددة تبرّر استمراريتها.
لقد سادت في تونس منذ الاستقلال السياسي إلى اليوم منظومة رأسمالية تابعة وهي السمة الثابتة للمنظومة الحاكمة في تونس رغم تنويع التطبيقات والواجهات التسويقية الخطابية والدعائية إذ شهدنا في السنوات الأولى للاستقلال اتجاها نحو تبني الخيار الليبرالي الدستوري، ثم اتجهت المنظومة الحاكمة إلى اعتماد خيار رأسمالية الدولة التي أطلق عليها الاشتراكية الدستورية في ظل سياقات دولية وإقليمية مباركة ودافعة قبل أن يتم الإعلان عن تصفية هذه التجربة والعودة منذ السبعينات مع حكومة الهادي نويرة إلى اعتماد الخيارات النيوليبرالية التي تعطي الأولوية للقطاع الخاص وللاستثمار الخاص الخارجي والداخلي مع التقليص والتحديد أكثر فأكثر في دور الدولة وتدخلها.
تواصلت نفس الخيارات بعد الثورة في ظل حكم الإسلام السياسي (البرنامج الاقتصادي والاجتماعي للنهضة يتضمن 360 نقطة تتبنى الخيار الرأسمالي الليبرالي المتوحش) وفي ظل حكم الائتلاف الدستوري / الإسلامي وهو ما يؤكد أن ديمقراطية تونس هي ديمقراطية واجهات حافظت في مضمونها وعمقها على نفس المصالح الاجتماعية للأقلية الطبقية الحاكمة.
إن الخيارات الاقتصادية أو القاعدة الاقتصادية للمنظومة وهي خيارات تؤسس للتبعية والحيف الاجتماعي، الطبقي والجهوي هي الثابت الجامع لكل الحكومات التي تولّت زمام الأمور في تونس (منذ 1956 إلى يوم الناس هذا).
تختلف المنظومة عن النظام السياسي ونظام الحكم. فالنظام السياسي هو الذي يعنى بشكل السلطة أكان ديمقراطيا أم غير ديمقراطي ويستوعب النظام السياسي الهندسة النصية والمؤسساتية ويتجاوزها إلى عناصر أخرى واقعية تهتم بالمشروعية والمقبولية وتقييم السياسات العمومية والأداء والأخذ بعين الاعتبار المعياريات النصية ومعياريات الحكومة الرشيدة. أمّا طراز الحكم أو نظام الحكم فنعني به الصيغة المتوخاة في هندسة العلاقة بين السلطات سواء كانت هذه الصيغة مرنة (نظام برلماني) أم صارمة (رئاسي) أو صيغة وسطية معدّلة (شبه رئاسي شبه برلماني).
وبعد 2011 طرأ تغيّر على شكل السلطة السياسية في الدولة أو النظام السياسي حيث انتقلنا من نظام سياسي دكتاتوري إلى نظام سياسي ديمقراطي تؤطره الدساتير الصغيرة ثم دستور 2014.
ومع التغيير الحاصل في أعلى السلطة السياسية منذ 25 جويلية 2021 شهدنا تراجعا عن المكسب الوحيد الثورة وهو الحريات والنظام السياسي فقد استولى رئيس الدولة قيس سعيد على كل السلطات وعلق البرلمان بالاعتماد على الجيش قبل أن يحله ويلغي كل المؤسسات التقليدية والتعديلية المنبثقة عن دستور 2014. ولقد استند قيس سعيد إلى ترسانة من المراسيم لتعبيد الطريق للاستحواذ على كل السلطات وتركيز مقومات نظام تسلطي فردي قبل أن يضع دستورا جديدا للبلاد (2022) ليؤسس نظاما دكتاتوريا يهيمن فيه رئيس الدولة على السلطة السياسية ويحوّل كل السلطات الأخرى إلى مجرد وظائف تعمل تحت إمرته وإشرافه، دستور غير ديمقراطي يقرّ شكليا الحقوق في مستوى النص ولكنه لا يوفر ضمانات ناجعة لحمايتها من التعسف.
فكيف يمكن القول إن قيس سعيد هو خادم المنظومة ومنقذ لها ولا صله له بأهداف الثورة وتطلعات الشعب التونسي في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والسيادة الوطنية؟
سياسيا: نظام استبدادي شعبوي يخدم أعداء الحرية والتقدم
شكل منعرج ما بعد 2011 تحوّلا هاما في تاريخ الشعب التونسي فقد تمت الإطاحة برأس النظام وفرض الشعب التونسي بفضل نضالاته وإسهام قواه الحية المدنية والسياسية إصلاحات هامة في مستوى النظام السياسي. ولئن عاقت عدة عوامل وشروط تحقيق تغيير جذري على المنظومة باستبدال المنظومة / التشكيلة الاجتماعية الرأسمالية التابعة وإقامة أسس منظومة جديدة وطنية ديمقراطية شعبية فقد حققت معركة/ ملحمة 2011 (معركة في مسار كامل طويل ومعقد) إصلاحات ذات بال على شكل السلطة والنظام السياسي ومنظومة الحقوق والحريات في بلادنا.
فكيف تعتبر الديمقراطية مقوّما أساسيا لاستكمال المسار الثوري وتجذيره؟
الديمقراطية من خلال إقامتها نظام الفصل بين السلطات ومقومات دولة الحق والقانون تتيح للشعب ولقوى الحرية والتقدم الإمكانية لإضعاف السيستام. فنظام الرقابة والتوازن بين السلطات التقليدية والمستحدثة (في كل الاتجاهات) يمكّن الشعب من ضمانات إضافية للحرية وفضح النظام.
إن نظاما يقرّ الحرية ويعززها بضمانات فعلية يتيح للشعب الإمكانية الدائمة لمراقبة الحكام ومحاسبتهم، والحق في الاحتجاج بشتى الطرق والوسائل للمطالبة بحقوقه وهو نظام يجعل من الحرية والحق ببعديهما الكوني والشمولي الهدف في حين تكون السلطة مجرد أداة لا يتجاوز مبرّر وجودها تحقيق وخدمة هذه الأهداف، كما أن نظام الحرية يتيح للشعب المقارنة بين كل الأطروحات والبرامج ويمكّن قوى التقدم من تقديم البدائل لإقناع الشعب بها وهو ما يشكل أفضل مدرسة لتطور وعي الشعب عبر التجربة والمراكمة واختبار كل القوى السياسية وللوقوف على طبيعة كل منها وحقيقة المصالح التي تعبر عنها، فدون نظام سياسي يضمن الحرية ومناخ ديمقراطي حقيقي لا يمكن الوقوف على طبيعة السلطة ووطنيتها من عدمها وفهم طبيعة خياراتها الاجتماعية ولا يمكن للشعب الاهتداء إلى المقاربات والأطروحات البديلة، لا حرية دون سيادة ولا سيادة وطنية دون حرية. إن التطور الفكري والسياسي كما واقع الأشياء يؤكد أنه ثمة ترابط وثيق لا انفصام لعراه بين الحرية والسيادة الوطنية والعدالة الاجتماعية.
لقد حاولت كل الحكومات التي أتت بعد الثورة التأقلم مع المعطى الديمقراطي باعتباره أمرا واقعا فرضه المسار الثوري وموازين القوى الاجتماعية والسياسية، لا يمكن التنكر له أو المساس منه. وقد عملت هذه الحكومات سواء تعلق الأمر بحكومة الباجي أو حكومة النهضة أو حكومات التوافق الدستورية الإخوانية، على الاعتراف قولا بالثورة والالتزام شكليا بالمطلب الديمقراطي ولكن عملت على غلق القوس بالاكتفاء بالأدنى الليبرالي المحقق وأطالت تركيز المؤسسات المنبثقة عن دستور 2014 خوفا من توسّع نطاق الثورة ومساحاتها وعلى مصالح المنظومة.
أما النظام السياسي الذي تلا فترة 25 جويلية 2021 فقد حرص من خلاله مهندسه قيس سعيد الذي تم انتخابه على أساس دستور 2014 في الانتخابات الرئاسية 2019 على التراجع عن المكسب البسيط للثورة وهو المكسب الديمقراطي بضرب الثورة في مقتل ونسفه نسفا كليا يعود بنا إلى مربعات الاستبداد السياسي. في الطريق إلى ذلك استغل قيس سعيد ككل الشعبويين أزمة الديمقراطية التمثيلية القديمة المتجددة وفشل حكومات ما بعد الثورة بكل عناوينها السياسية في تلبية الأدنى الاقتصادي والاجتماعي من تطلعات الشعب مما خلق حالة استياء وإحباط تحولت إلى يأس ومعاداة لفترة ما بعد 2012 من قبل الطيف الشعبي الواسع، ذلك أن الأغلبية الشعبية التي تردت أوضاعها على كل المستويات اعتبرت أن الثورة لم يغنم منها إلا النخب السياسية التي تمكنت من التعبير على نفسها واستغلال الديمقراطية والمحطات الانتخابية للاستثمار السياسي لحسابها الخاص مع إدارة الظهر للثورة واستحقاقاتها. كما أن استفحال مظاهر الفساد السياسي والإداري والاقتصادي والمشاحنات السياسوية والانتخابية مقابل الخواء المضموني والحصية الكارثية لأداء كل حكومات ما بعد الثورة، كل ذلك خلق مزاجا شعبيا عملت دعاية الثورة المضادة على شحنه ضد الثورة. وبدل معادة القوى التي استفادت من الثورة وتوصلت إلى الحكم من خلال مكاسبها لتعمل لا حقا على التنكر لها وبدلا من ذلك، عملت أجهزة الدعاية المنظوماتية المختلفة بقديمها وجديدها على تحويل الاستياء ومشاعر الخيبة لدى الأوسط الشعبية ضد الثورة والديمقراطية، وهو ما استغله الشعبوي قيس سعيد ليخرج على الشعب المحبَط بخطاب طهراني أخلاقوي يدغدغ العواطف ويستهدف منظومة الحكم لما بعد 2011 بالمعنى الواسع بنخبها وحكامها ومعارضتها وأجهزتها الدعائية عبر خطاب شعاراتي سيادوي واجتماعوي شعبوي تعبوي ودغمائي عاطفي لا يقوم على مشروع بل على مقترحات سياسية واجتماعية تنبني على فكرة التنظيم القاعدي وهي فكرة مغلوطة وشعار زائف استُغل مطية لضرب الأجسام الوسيطة الحقيقية بقديمها وجديدها السياسية منها (البرلمان، السلطة القضائية) والمدنية والنقابية (الاتحاد، الجمعيات والمنظمات) والإعلامية والاستعاضة عنها بمسخ جديد هو عبارة عن هياكل مفسخة ولا قيمة لها ( المجالس المحلية والجهوية، الأقاليم) ليتبين أنها مجرد مساحيق وأجهزة محض إدارية تعزز الفراغ السياسي من خلال غياب المشروع المترابط سياسيا واجتماعيا، وتحويل الشعب إلى شتات أفراد ليتم ملء هذا الفراغ بالحضور المسرحي المتواصل للرئيس، الحاكم بأمره، السلطة الوحيدة والموظف الأعلى الذي تخضع له كل الوظائف في الدولة وصاحب كل الصلاحيات الذي يطلق يده في شؤون البلاد والعباد دون حسيب أو رقيب مثلما يقتضيه نص دستوره/ فلسفته الذي صاغه بنفسه ولنفسه وعلى مقاسه لخدمة أهداف المنظومة في القضاء على الحرية وكبح تطلعات الشعب في التقدم والعدالة الاجتماعية.
لقد قدم قيس سعيد خدمات جليلة للمنظومة الطبقية الحاكمة للحفاظ على مصالحها من خلال خلق مناخ سياسي يقمع الحرية وينشر الترهيب والتخويف (المرسوم 54) ويستهدف أذرع ووسائل الحرية المؤسساتية والمجتمعية لتنتهي المسرحية لانتخابات مهزلة كل عناصرها القانونية والسياسية تجعل منها انتخابات معلومة النتائج مسبقا ولا تشبه الانتخابات الديمقراطية في شيء.