الرئيسية / صوت الوطن / أوت 1924: تاريخ صنع التاريخ أو صورة أوت 2024 في مرآة أوت 1924
أوت 1924: تاريخ صنع التاريخ أو صورة أوت 2024 في مرآة أوت 1924

أوت 1924: تاريخ صنع التاريخ أو صورة أوت 2024 في مرآة أوت 1924

بقلم جيلاني الهمامي

“إذا أردتم أن تشتغلوا بسعر مرسيليا فاذهبوا إليها” هكذا ردّ محافظ الشرطة الفرنسية على مطلب من مطالب عمال الرصيف بميناء تونس يوم 13 أوت 1924 في جلسة تفاوض جمعته بممثلي العمال. وكانت الجلسة انعقدت للنظر في لائحة المطالب التي رفعها عمال الرصيف بميناء تونس وهي :

“1 – جعل الأجرة اليومية 24 فرنكا للجميع بلا فرق كما ذلك لعملة رصيف مرسيليا

2 – زيادة خمسين في المائة في أيام الأعياد

3 – زيادة ثمانية وثلاثين في المائة في خدمة الليل

4 – دفع 4.50 للساعة الواحدة من قانون (8 ساعات) في اليوم”.

وانتهت الجلسة دون الاتفاق بين الطرفين. ومن ثمة تقرر الدخول في إضراب. وقد استمرت المفاوضات من 12 جويلية 1924 إلى غاية يوم 12 أوت أي استغرقت شهرا كاملا ولم تتوصل إلى اتفاق. لذلك فرض قرار الإضراب نفسه إذ لم يكن هناك بدّ منه. ولم يكن هو الأول من نوعه فمنذ بداية العام أضرب عمال الرصيف خمس مرات متتالية واضطرّوا في كلّ مرّة إلى العودة مهزومين وصفر اليدين أو بمكتسبات طفيفة غير ذات بال.

وقد اتخذت احتياطات كثيرة (سنعود إليها في مكان آخر) كي يكون هذا الإضراب مختلفا عمّا سبقه. وكان واضحا منذ البداية أن تصميم العمال على النجاح هذه المرة أقوى من أيّ وقت مضى فما الصبر على طول المفاوضات وطول النفس طيلة شهر من الزمن إلا مؤشرات على أن المعركة القادمة ستكون نزالا من نوعية خاصّة. وقد جاءت الأحداث فيما بعد لتؤكد فعلا أنّه كان إضرابا من نوع خاص ومحطّة جديدة سترسم معالم تاريخ نضال الطّبقة العاملة التونسية ومستقبلها.

تفاصيل مهمّة

يمثّل عمّال الرصيف في مواني تونس وبنزرت وسوسة وصفاقس جزءا مهمّا، من الناحية العددية وحتى النوعية، من الطبقة العاملة التونسيّة الناشئة. وكان العاملون بميناء تونس يمثلون مركز الثقل في حركتهم النضالية. ومع تقدم الزمن ازداد عددهم، نتيجة تطور حركة التصدير والاستيراد، وأخذ وزنهم ثقلا أكبر وصار لتحركاتهم صدى وتأثير.

كان أغلبهم سبق له أن انضوى في النقابات الفرنسية “الكونفدرالية العامة للشغل” CGT التّابعة للحزب الاشتراكي الفرنسي و”الكونفدرالية العامة للشغل الموحدة” CGTU (1) القريبة من الحزب الشّيوعي، ثم انسلخوا بسبب ما اعتبروه تمييزا ضدّهم مقارنة بزملائهم العمال من أصول فرنسية وأوروبية. ولئن لم يجنوا من انخراطهم في النقابات الفرنسية فائدة كبيرة فإن خروجهم منها جرّهم أيضا إلى التشتت والعزلة وزاد في مصاعبهم وأتعابهم رغم أن البعض حاول الاستعاضة عن النقابات الفرنسية بأطر جديدة مثلما فعل عمال التبغ والوقيد وعمال سكك الحديد الذين بعثوا جمعية “الاتفاق الودادي”. ومع ذلك لم يكفّ العمال عن تحسّس طريق تنظيمهم الخاص بمناسبة الإضرابات التي شنّوها من وقت إلى آخر. ففي كل إضراب اهتدوا إلى أشكال تنظيمية بدائية مثل لجنة الإضراب التي تلعب دور النقابة وتضطلع بدور القيادة. وفي كل مرة كانت الاتحادات الإقليمية التابعة للمنظمات النقابية الفرنسية العاملة في تونس تستغل الإضراب لمحاولة استيعاب المضربين واستقطاب العناصر البارزة في النضالات. وهو ما حصل خلال هذا الإضراب الذي تنقّل الأمين العام للكونفدرالية العامة للشغل ليون جوهو Leon JOUHAUX بنفسه إلى تونس بقصد إقناع قادة الإضراب بالدخول في النقابات التابعة لمنظمته الـCGT والحيلولة دون انبعاث منظمة نقابية وطنية مستقلة عن النقابات الفرنسية.

لنعود إلى تفاصيل اندلاع الإضراب.

كانت آخر جلسة تفاوضية جمعت ممثلي العمال بممثلي الشركات التي تستغل ميناء تونس يوم الأربعاء 12 أوت في مقر “مشيخة مدينة تونس” وبحضور “مدير المحافظة” وانتهت بالفشل. ولخص “مدير المحافظة” الفرنسي “كمبانا” موقفه بقوله “إذا أردتم أن تشتغلوا بسعر مرسيليا فاذهبوا إليها” فردّ عليه عضو الوفد المفاوض حمودة الزغواني بقوله “قد ذهبنا إلى مرسيليا واشتغلنا بها مدة من الزمن. ولمّا ظهر لهم الاستغناء عنا قالوا لنا ليذهب كل أجنبي إلى بلده وقد أتوا بي مخفورا بأعوان الضّبط إلى مرسى تونس كمجرم أو سجين. فإذا كنت تحسن صنعا فآمر أن يذهب كل الأجانب من هنا إلى بلدانهم أيضا وعندها يمكنني وأنا في بلادي أن أخدم ولو بستّين فرنكا في اليوم”. (2)

وعند الخروج من جلسة التّفاوض الفاشلة تمّ الإعلان مباشرة عن انطلاق الإضراب. وانتخب العمّال لقيادته البشير بودمغة ومساعده البشير الفالح ثم بعد مدّة تمّ تجديد لجنة الإضراب بتركيبة جديدة من محمد الخياري (رئيس) وحمودة الزغواني وأحمد المؤدب ومحمّد الصالح بلحسن. كان الإضراب حضوريّا في الصّباح على عين المكان وفي المساء يجتمع العمّال في نادي الاجتماعات بنهج الجزيرة حيث تجري النّقاشات ويتداول الخطباء على الكلمة لتحليل الأوضاع ومستجدّاتها.

كان الإضراب مواجهة طبقيّة ضارية يلجأ فيها كل طرف لشتى الأعمال والأساليب والحيل لمباغتة الخصم أو لتفكيك وحدته أو زرع الخوف في صفوفه عبر اللّعب على أشكال متعدّدة من الضّغط بالتّرهيب والوعيد.

على هذه الحال خاض عمّال الرّصيف إضرابا دام 23 يوما (من 13 أوت إلى يوم 7 سبتمبر 1924) كان كلّ يوم من هذه الأيام واقعة طبقية تجتمع فيها كل أشكال المناورة والصّدام. فكان البوليس الفرنسي وفرقة من عساكر الخيالة تعمد كل يوم إلى غلق الطّرق المؤدّية إلى الميناء لمنع العمّال من الوصول إليه. وجرت كلّ الأشكال لاستفزاز العمّال لخلق ذرائع الهرج والفوضى التي يستغلها البوليس للتدخّل واستعمال العنف. ومن هذه الأشكال أن تمّ استقدام مجموعة من العمال “الورقلية” من الجزائر والذين لا يحسنون عادة غير مهنة الحراسة ليتولّوا أعمالا ليست لهم بها أيّة دراية والغاية منها محاولة تفكيك وحدة العمّال وجرّهم إلى العودة للعمل صاغرين خائفين على مواقع شغلهم.

وقد تمّ دفع هذه العناصر الدّخيلة للقيام بحركات استفزازية أدّت يوم 28 أوت إلى اشتباكات عنيفة بين جمع من المضربين وجماعة “الورقلية” سالت فيها الدماء وخلفت جرحى فاستغل البوليس تلك الواقعة ذريعة لإيقاف بشير بودمغة ومضربين اثنين آخرين لم يطلق سراحهم إلا تحت الضغط. وعلى غرار هذه الحادثة جدت كذلك “حادثة باب جديد” وهي مواجهة عنيفة بين المضربين وفرق من البوليس يوم 5 سبْتمبر خلّفت جرْحى من الجانبين وإيقاف 5 مضربين ولكن في المقابل من ذلك أجبرت العناصر التي أوتي بها لإفساد الإضراب (الورقلية وغيرهم) على الفرار والانسحاب من الرصيف. وقد حوكم الموقوفون على سبيل الاستعجال وصدرت في شأنهم ابتدائيا أحكام بالسّجن لشهرين بالنّسبة إلى البعض وبأربعة أشهر بالنسبة إلى البعض الآخر وأيّدت محكمة الاستئناف بالجزائر هذه الأحكام حيث قضى الموقوفون محكوميتهم هناك.

وتجدر الإشارة إلى أنه رغم كل هذه الأحداث الأليمة التي تنشب بين الحين والآخر طوال مدة الإضراب فقد ضبط المضربون منذ البداية “استهداء برأي النابهين من بني جلدتهم” كما يقول الطاهر الحداد، استراتيجية تقوم على الاحتراس من كل ما من شأنه مخالفة القانون “التي يتربص لها خصماؤهم للتنكيل بهم والانتقام منهم”. وقد تواصلت الاتصالات مع “مشيخة المدينة” و”مدير المحافظة” والسفارة وهيئة ممثلي المؤجرين بغاية التوصل إلى حلّ ذلك أن طول الإضراب بدأ يخلّف آثاره في معيشة المضربين وعوائلهم وبالتالي في قدرتهم على الاحتمال والصمود. وربما لو لا الدعم المادي الذي كان يصلهم بفضل الدور الذي لعبه قادة “جمعية التعاون الاقتصادي التونسي” في تنظيم حركة المساندة الشعبية للإضراب لما كان له أن ينجح على ذلك النحو.

من “جمعية التعاون الاقتصادي”

تحوّلت وجهة الأحداث بسرعة وبشكل مفاجئ. فمحمد على الحامي مهندس تأسيس “جامعة عموم العملة التونسيين” لم يكن في الأصل نقابيا لا من حيث المعارف ولا من حيث التجربة والخبرة ولا أيضا من حيث التوجهات والقناعات وإنما ساقته أحداث تلك الفترة إلى تغيير الوجهة من جمعية ودادية إصلاحية إلى نقابة طبقية وذات نفس ثوري جلي.

عاد محمد علي من ألمانيا في شهر مارس 1924 بعد مدّة طويلة من الغربة قادته إلى القسطنطينية (اسطمبول) ومنها إلى ليبيا ومصر والسعودية وألمانيا في آخر المطاف، جولة كوّن من خلالها تجربة وحصل فيها على معارف سياسية واقتصادية ونسج فيها علاقات كثيرة ومتنوعة. ومعلوم أن محمد علي كان قضّى في نهاية هذه المدّة سنوات في مدينة برلين بألمانيا حيث درس العلوم الاقتصادية. وتتضارب الأخبار بخصوص طبيعة الشهادة الأكاديمية التي حصل عليها في خاتمة هذه الدراسة (3). وقد تعرّف محمد علي من خلالها على الأوساط الاشتراكية الديمقراطية الألمانية وتلقّن دروسا في نظريّاتهم الاقتصادية (4) وخاصّة أطروحة التعاضديات التي تأثّر بها ورأى فيها الحل الملائم للأوضاع في تونس فعمل على تطبيقها إبّان عودته إلى أرض الوطن.

يقول الطاهر الحداد “لقد جاءنا لأول مرة بأفكار لا تتسع لها البلاد فارتأى تأسيس شركات تعاونية زراعية وصناعية وتجارية ومالية في أهم نقط المملكة يكون على رأسها الشبان الوطنيون الذين يتفقون في روح الإخلاص والغاية ليمكن تحضير هذه الجمعيات المستقلّة بقوّة نموّها التدريجي إلى الانضمام لبعضها فتشكل إدارة عامّة تنظر في التوازن العام وتسييرها لغاية متفقة…” (5)

وقد قام محمد علي وهو، كما قال الحداد، يتفاوض ويبحث مع ثلّة من المناضلين والمفكّرين، بالاطّلاع على تجربة عديد الجمعيات الأخرى في العاصمة (الجمعية الخيرية الخ…) بما جعله كما يقول الحداد أيضا “يعدّل في تصوّره” بعد أن أيقن أنّ الأوضاع غير ملائمة لتطبيق رؤيته الأصليّة. لذلك “انتهى الأمر إلى تأسيس جمعية التعاون الاقتصادي التونسي لتتناول في بدئها التجارة فقط في المعاش وحاجات المنازل” (6).

وانطلقت الأعمال التأسيسية للجمعيّة دون انتظار ويذكر الحدّاد أنّ من أبرز من ساهم فيها إلى جانب محمد علي كل من الحبيب جاوحدو والعربي مامي والطاهر بوتورية والطاهر صفر والطاهر الحداد. وانعقد المؤتمر التأسيسي للجمعيّة يوم 29 جوان 1924 في قاعة الخلدونية الكبرى برئاسة الشيخ الطيب بن مصطفى ومساعديه محمود بورقيبة وعثمان الكعاك. وكان الطاهر الحداد أوّل المتدخلين ثمّ الطاهر صفر وختم محمد علي الحامي الاجتماع وتولى شرح مبادئ المشروع وأهدافه وفوائده ووضع الحضور في الإطار لفهم التمشي المتدرج ابتداء من “شركات التعاون الاستهلاكية” وهي تعاضدية تنبني على مساهمات منخرطيها وصولا إلى تعميم نظام التعاضد على كل فروع النشاط الاقتصادية والتجارية في كل أرجاء البلاد. وكان الحضور الكثيف للمتابعين لهذه الدينامية الجديدة التي بعثها محمد على في أوساط الحاضرة يؤشر إلى حظوظ النجاح التي يمكن أن يبلغها المشروع الاجتماعي الجديد في عموم البلاد.

وقد عقبت هذه الجلسة التأسيسية جلسة أخرى يوم 6 جويلية خصّصت للنّظر في نصّ القانون الأساسي والمصادقة عليه واختيار لجنة وقتية يرأسها محمد علي تعنى بقبول الأسهم ومسكها. وانطلقت اللّجنة في العمل الذي تركّز في الأيام الأولى من عمر “الشركة التعاونية الاستهلاكية” على التعريف بها والدعاية لها في أوساط العمّال (بما في ذلك عمّال الرّصيف) والتجّار الصّغار وأصحاب الحرف لحثّهم على الاشتراك فيها ولقيت الفكرة استحسانا كبيرا وإقبالا واسعا.

وكما يقول الطاهر الحدّاد “خطى المشروع في الدعاية له خطوة كبيرة وكاد أن يصل دور إنجاز العمل لو لا ما اعترض ذلك من حدوث اعتصاب برصيف العاصمة…” (7).

إلى “جامعة عموم العملة التونسيين”

اختطف إضراب عمال الرصيف منذ انطلاقته اهتمام الجميع وتحول بسرعة كبيرة إلى مركز ثقل كل الحركة في البلاد. قد يكون ذلك بسبب الإضرابات المتتالية التي نفّذها عمّال الرصيف من قبل حتى بات إضرابهم يشكل الحدث الأبرز في الحياة العامة أو ربما لأن إضراب يوم 13 أوت تمّ الإعداد له طيلة “شهر التفاوض” بحيث كانت الأجواء مهيّئة لاحتضان هذا الحدث.

لكن الأمر الأكيد أن جولة الاتصالات التي قام بها محمد علي ورفاقه بالجمعيات والفعاليات الاجتماعية المتواجدة على الساحة والتي تناسبت مع سعي عمّال الرّصيف إلى كسب تعاطف النّاس وهم بصدد التحضير للإضراب وفر له فرصة الإشعاع لا فقط على مراكز العمال التونسيين (تونس بنزرت…) وإنما أيضا على كامل المجتمع التونسي.

كانت الاتصالات بين لجنة الإضراب وهيئة قيادة “جمعية التعاون الاقتصادي” حثيثة ومتواصلة منذ انطلاق الإضراب وطيلة أيامه. وقد تولت الجمعية تنظيم أعمال الدعم للمضربين وعائلاتهم وإلى جانب ذلك التفّ حول الإضراب ثلّة من نخبة العاصمة بقيادة “الجمعية” ومحمد علي شخصيا وعدد من المناضلين السياسيين والنقابيين أمثال احمد بن ميلاد واحمد المدني ومختار العياري وغيرهم. وقد ساعدت أعمال التنسيق على الإحاطة بالإضراب وتوفير المساعدة للمضربين لمدة لا بأس بها من أيام الإضراب الذي بدا عليه الإرهاق مع تقدم الزمن وطول المدة، خصوصا وأن المحاولات والاتصالات مع كل الأطراف لم تؤت أكلها بما في ذلك بعد اللجوء إلى الحكومة والسفارة الفرنسية وإدارة الداخلية والحضرة العلية (قصر الباي بقرطاج).

وحيال انسداد كل الآفاق أصدر المضربون يوم 4 سبتمبر ما سمي آنذاك “البلاغ الأحمر” ومن جملة ما جاء فيه “ثلاثة وعشرون يوما مضت ولم نستعمل في خلالها إلا بعض وسائل شرعية للدفاع عن حقنا الحيوي… فإليكم جميعا يا من أعنتمونا على الحياة نوكل الحكم على هذه الحالة. وأمام هذه الحكومة التي تريد قتلنا شرا عزمنا على الدفاع للحصول على قوت أبنائنا ولو أدى ذلك إلى ضياع حياتنا. ولذا نرجو منكم أن تكونوا معنا ضد المتسببين في مجاعتنا أعداء الإنسانية” (8).

وواضح من نبرة “اليأس” أن مناورات السلط الاستعمارية والمحلية التابعة لها ستضع حدا لملحمة الإضراب وهو ما حصل فعلا حيث كما يقول الطاهر الحداد “يوم 6 سبتمبر اجتمعت لجنة العمل مع لجنة المساعدة حيث لم يمكن في ذلك الحين عقد اجتماع عام وقررنا باتفاق أن الحالة لم تعد قاضية بالاعتصاب” (9).

وعلى قدر حجم الألم الذي خلفه حل الاضراب ومشاعر الخيبة والانكسار التي صاحبته وازته بشائر أمل أخرى عبّرت عنها الحركة الاضرابية التي هّزت منطقة بنزرت وانتشرت في قطاعات مختلفة منها. ففي يوم 15 أوت، أي بعد يومين من اندلاع إضراب عمّال الرّصيف بتونس، دخل عمّال الرّصيف ببنزرت في إضراب مماثل. وتبعه إضراب معمل الآجر بمنزل جميل وإضراب عملة جبل خروبة وعملة عربات النقل سيدي احمد الخ… وقد تمخّضت تلك الحركة الإضرابية في صائفة 1924 القائضة عن بزوغ فكرة “النّقابة الوطنية المستقلّة” عن النّقابات الفرنسية وميلاد “جامعة عموم العملة التونسيين” عنوان وحدة النّقابات التي ظهرت هنا وهناك حيثما شٌنّ إضراب أو حتى من دون ذلك في أكثر من موقع ومكان.

أوت 1924 – أوت 2024

ولكن الفكرة النقابية التي ولدت في الألم وتضاعفت آلامها جرّاء الخيبات والانتكاسات سنوات 1924 – 1925 ثمّ ازدهرت وعانقت العنفوان في فترات لاحقة بلغت اليوْم من العمر قرْنا كاملا، نعم 100 سنة يوما بيوم. ويفترض أنها قد أدركت اليوم أسمى درجات النّضج والكمال. غير أنّ ما يجري على الساحة النقابية التونسية في شهر أوت 2024، أي بعْد قرْن من حياة التّجربة النقابية التّونسية، وهي الأقدم عربيا وإفريقيا، جدير بأن يكون موضوع سؤال وتحليل وجدل. لا فقط من منطلق أن نؤدي لمحمد علي الحامي ومختار العياري والطاهر الحداد ومحمد قدور وبشير الفالح ومحمد الغنوشي والبشير بودمغة واحمد الدرعي ومحمد الخياري والطاهر عجم ومحمد الكبادي وحمودة الزغواني وأحمد بن ميلاد، وغيرهم كٌثْر، تحيّات الاعتراف والإجلال وإنّما كي نؤدّي واجب صوْن الأمانة وحماية ما تركه لنا الأجداد من إرث.

هؤلاء جميعا وقوافل أخرى من المناضلين الرّموز من جيل خلّد التاريخ ذكراهم ودوّن لنا البعض من فضائلهم وخصالهم “البروليتارية” الحقّة، يعود لهم الفضل في زرع بذرة الكفاح العمالي الأولى وأشاروا بالاتّجاه الذي ينبغي أن تسير عليْه الأجْيال اللاّحقة. وقد أنْجبت حركة نضال العمّال في تونس سلسلة مترابطة على امتداد أجيال متلاحقة من المناضلين والقادة النقابيين الذين لا يقلّون مجدا عن قادة وزعماء تجربة “جامعة عموم العملة التونسيين” أمثال فرحات حشاد وأحمد التليلي والحبيب عاشور وحسن الكوكي وسعيد قاقي وغيرهم.

وقد ظلت الحركة النقابية التونسية تنْهل من ذاك المعين الذي لم ينضب فاستمرّت ولم ينطف مشْعلها ولم تتوقّف مسيرتها رغْم كلّ ما حيك ضدّها من مناورات ومؤامرات وما مورس عليها من قمع وتعسّف. ونحن اليوم، أبناء هذا الجيل، مدينون للمؤسّسين واللاحقين بهذا الإرث العظيم الذي بين أيدينا اليوم متمثّلا في الاتحاد العام التونسي للشغل الوريث الشرعي لنقابة محمد علي الحامي ورفاقه وحشاد وقاقي والكوكي وكل الشهداء الذين قضوا دفاعا عن نقابة العمّال المستقلة عن العدو الطّبقي سواء كان مستعمرا أجنبيا أو محليّا من أبناء جلدتنا. فإلى أيّ مدى حفظ نقابيو اليوم الماسكون بزمام القيادة في الاتحاد الأمانة ونهجوا نهج الأجْداد؟

إن الإجابة عن هذا السؤال وأسئلة أخرى كثيرة تتطلّب عملا بلْ أعمالا من البحْث والدّرس والتّحليل سنكتفي هنا بالقول إنّ حال المنظمة الشغيلة اليوم ليس على أحسن ما يرام وأن الأزمة التي تتخبط فيها منذرة بكثير من المخاطر أقلّها أنْ تسقط مجددا تحت حذاء المستبد وتتحول إلى أداة من أخطر أدوات تبرير استغلال العمّال وقهرهم أكثر من أيّ وقت مضى.

ومن النّزاهة بمكان الاعتراف بأّن هذه الأزمة ليست من صنع “الآخر” ولم يقع فرضها على الاتحاد فرضا بقدر ما هي أزمة داخلية ناجمة عن مسار طويل من هيمنة المنهج البيروقراطي في تسييره وإدارة شؤونه. وقد وفّرت “للآخر”، للعدو الطبقي، فرصة لتدبير اختراقه وبث معاول الهدم في صفوفه من داخله كما من خارجه. ولا نرى في المقابل من ذلك وعْيا بأن تصْحيح أوضاع الجبهة الدّاخلية المتصدّعة هو المدْخل السّليم لمواجهة الخطر القادم من الخارج.

إن الانتصارات الوهمية التي يخيل للبيروقراطية النقابية أنها أحرزتها وأنها بفعل ذلك ازدادت قوة وعنجهية سرعان ما تتهاوى أمام أبْسط هجْمة من طرف السلطة ما لمْ تكنْ هذه الانتصارات المحْرزة لا تستند إلى وحدة داخلية عمادها الديمقراطية واحترام إرادة الهياكل والقواعد.

وريثما نعود لهذا، نأسف شديد الأسف أن نقول شتّان بين رموز وقادة أوت 1924 وقادة و”رموز” أوت 2024 ولا يتعلّق الأمْر هنا، فقط بتعيير “رموز” اليوْم بمعايير أوت 1924 وخصال رموز جيل التأسيس وإنما أيضا بمعايير استحقاقات اليوم في وجْه المأساة التي انتهت إليه ثورة 17 ديسمبر – 14 جانفي ونكوص التاريخ إلى ما يشْبه عصْر ما قبل أوت 1924.

وقريبا لنا عودة لنسلّط الضّوء على ما يجري في الاتحاد.

جيلاني الهمامي

أوت 2024

ـــ

هوامش

  1.  الكنفدرالية العامة للشغل منظمة نقابية فرنسية تأسست سنة 1895 وكانت قريبة من الحزب الاشتراكي SFIO بعثت أول صحيفة ناطقة باسمها “صوت الشعب” سنة 1900 وعدد آخر من الصحف تباعا “الحياة العمالية التي كان يرأس تحريرها واحد من أبرز النقابيين الثوريين الفرنسيين بيار موناط Pierre MONATE وقد عرفت سنة 1921 انشقاق العناصر الثورية التي بعثت “الكونفدرالية العالمة للشغل الموحدة” CGTU وفي سنة 1936 اتحدت المنظمتان من جديد تحت لواء التسمية الأم “الكونفدرالية العامة للشغل” CGT.
  2.  الطاهر الحداد: العمال التونسيون وظهور الحركة النقابية في تونس، ص 68، أنظر على الرابط التالي: تحميل كتاب العمّال التّونسيّون و ظهور الحركة النّقابية pdf تأليف الطاهر الحداد – فولة بوك (foulabook.com)
  3. أنظر دراسة منظمة فريديرش ايبرت ص. 19، بعنوان Muhammed Ali à Berlin : Une étude de Gerhard Höpp, Éditée et complétée par Joshua Rogers et KathrinWittler
  4. المصدر السابق ص. 21
  5. المصدر السابق – ص 45
  6. المصدر السابق – ص 46
  7. المصدر السابق – ص 57
  8. بلغ أصدره المضربون يوم 4 سبتمبر 1924 ونشرته جريدة “النهضة” من الغد بتاريخ 5 سبتمبر وقدمت له كالاتي: منذ مدة وقع اعتصاب عملة الرصيف بالحاضرة ومرسة بنزرت وأخذت قضيتهم طورا كان من اللائق أن لا تصل إليه. وقد وقع اعتقال بعض زعمائهم ثم أطلقوا، ومهما ذهبوا إلى مرجعا إلا وجدوا الأبواب موصدة في وجوههم بما اضطرهم إلى نشر البلاغ الآتي”. المصدر السابق – ص. ص. 78 – 79
  9. المصدر السابق – ص. 81
إلى الأعلى
×