بقلم محمد الحباسي
بعد أن استعرض الجزء الأوّل من هذا المقال في العدد الفارط من “صوت الشعب” الحصيلة السياسية لحكم قيس سعيد، نخوض في هذا العدد حصيلة حكمه على باقي المستويات.
اقتصاديا واجتماعيا: حصيلة الخواء والثرثرة الفارغة
لم يتقدم رئيس الدولة قبل انتخابه سنة 2019 أو بعد 2021 بمشروع اقتصادي واجتماعي من شأنه أن ينهض بأوضاع البلاد ويلبي مطامح الشعب ويضع حدا لمشاكله ومآسيه.
بل اكتفى بترديد سنفونية المؤامرة واتهام الأطراف التي تعمل في الغرف المظلمة وتحت جنح الظلام لتعطيل مسيرة ما أسماه معركة التحرر الوطني والانعتاق الاجتماعي التي تجري في إطار معركة طويلة الأمد وبعيدا عن الشعارات وحمولتها الثورية الزائفة فإن الحصيلة في الواقع كانت سلبية وكارثية.
“فمع انتهاء السنة الثالثة من الحكم المنفرد لقيس سعيّد بعد تطبيق ما أسماه الإجراءات الاستثنائية في 25 جويلية 2021، تبين الأرقام الرسمية الصادرة عن مختلف المؤسّسات العمومية على غرار البنك المركزيّ والمعهد الوطني للإحصاء وعدد من الوزارات ذات العلاقة بالشأن الاقتصادي والمالي عن حصيلة هذه الحقبة.
فالمؤشرات الاقتصاديّة تبرز تواصل حالة التدهور الاقتصاديّ واستمرار ثنائيّة تطوّر العجز وتراجع النموّ. حيث انخفض معدّل النموّ الاقتصادي سنة 2024 إلى 0.2% مقابل 2% خلال الثلاثي الثالث من سنة 2021. أمّا الدينار التونسي فلم يتمكّن من تجاوز أزمته المتواصلة منذ أكثر من عشر سنوات، ليتراجع سعر صرفه مقابل الأورو من 3.307 في جوان 2021 إلى 3.365 في شهر جوان الفارط، لينطبق نفس الأمر وإن بدرجة أكثر حدّة مقابل الدولار الأمريكي. حيث انتقل سعر الصرف خلال نفس الفترة من 2.821 إلى 3.115. مناخ اقتصاديّ متردّي تمتّ مواجهته بمحاولة كبح جماح نسبة التضخّم التي بلغت 10.4% في مارس 2023 قبل أن تتراجع إلى 7.4% في مارس 2024 بثمن باهظ تمثّل في الرفع المستمّر لنسبة الفائدة المديرية من 6.25% سنة 2021 إلى 8% في جويلية 2024. لكّن هذا ”المُنجز“ أثّر بشكل سلبي على النموّ الاقتصادي عير تقليص الاستهلاك المرتبط بارتفاع أقساط القروض الاستهلاكيّة وتراجع نوايا الاستثمار، إضافة إلى زيادة تكلفة القروض المخصّصة للاستثمار. ما ينتج حالة شبيهة بالركود الاقتصادي الناجم عن كبح نسق الدورة الاقتصاديّة.
أمّا المؤشّرات التّي ”تطوّرت“، فشملت البطالة التي تفاقمت من 15.3% سنة 2021 إلى 16.2% سنة 2024، كما ارتفع عجز الميزان التجاري من 16210 مليون دينار إلى 16543 مليون دينار في نهاية سنة 2023 إضافة إلى تواصل عجز الميزانية العمومية عند مستوى 7.7%” [مقال بمجلة نواة تحت عنوان الحصيلة الاقتصادية لحكم قيس سعيد: “سنوات الخواء” للخبير الاقتصادي سميح الباجي عكاز]
وكنتيجة لسياسة غلق باب الانتظار تتواصل هجرة أصحاب الشهادات والأدمغة إلى الخارج وتعمقت مأساة الشعب التونسي من خلال تدهور أوضاعه المعيشية نتيجة تثبيت الأجور مقابل الزيادة الجنونية في الأسعار وانعدام أو ندرة العديد من المواد الأساسية وأزمة الشح المائي وشبح العطش الذي يخيم على كامل مناطق البلاد من جنوبها إلى شمالها وقطع التيار الكهربائي دون وجود أي استراتيجية حقيقية لمواجهة هذه المعضلات عدا خطاب المؤامرة والتهرب من تحمل المسؤولية.
وحافظت نسب الفقر على معدلات مرتفعة (أكثر من 16%) وهو ما يفسر تنامي معدلات الجريمة المنظمة وغير المنظمة وإقبال الشباب على المخدرات كملجأ للهروب من أوضاعه المزرية وتنامي مظاهر العنف المجتمعي بكل أنواعه.
ويعتبر مؤشر الحيف الجبائي مؤشرا قوياً على تواصل نفس الخيارات الاقتصادية والاجتماعية للمنظومة الحاكمة في العهد السعيد إذ تبين قوانين المالية لسنة 2022 و2023 و2024 التي أعدها قيس سعيد، تواصل اعتماد الميزانية على الجباية التي يتحملها الموظفون وعموم الكادحين وبسطاء الناس بصفة أساسية مما يعمق الحيف وانعدام العدالة الجبائية، فقد بلغت المداخيل الجبائية لسنة 2024 ما يناهز 44050 مليون دينار، بنسبة تطوّر 11.6%، ما يمثّل 89.6% من مداخيل الدولة. فيمَا تُحافظ المداخيل غير الجبائيّة على نفس المستوى الهزيل بـ 4760 مليون دينار، متأتّية بالأساس من الهِبَات والأملاك المُصادرة والمساهمات العمومية وتسويق المحروقات، إضافة إلى عائدات عبور الغاز الجزائري. تماما كما حدث في سنة 2023، عبر الرفع من مداخيل الأداءات غير المباشرة بنسبة 15.2% مقارنة بسنة 2022. كما تمّ الترفيع في مردود الأداء على القيمة المضافة بـ 1253 مليون دينار. أما الترفيع في المعلوم على الاستهلاك فضخّ في خزينة الدولة ما قيمته 4231 مليون دينار أي بزيادة تقدّر بـ 601 مليون دينار مقارنة بسنة 2022، نتيجة الترفيع أساسا في المعلوم على الاستهلاك الموظّف على منتوجات التبغ والوقيد والزيادة الخصوصية الموظفة عليها. أمّا في سنة 2022، فنصّت ميزانية الرئيس على الرفع من إجمالي المداخيل الجبائية لتبلغ 14570 مليون دينار أي بزيادة تقدّر بنسبة 10.3% مقارنة بسنة 2021. ليتحمّل الأجراء والموظّفون النّصيب الأكبر من جهود التعبئة، حيث تمثّل الضريبة على الدخل التي تشمل رواتب الموظّفين والأجراء 72.7% من حجم الأداءات المباشرة بقيمة جملية تناهز 10459 مليون دينار وبزيادة تقدّر ب 949 مليون دينار مقارنة بالسنة السابقة. في نفس السياق، بلغت قيمة الأداءات المفروضة على الشركات البترولية وغير البترولية 4112 مليون دينار بزيادة لن تتجاوز 408 مليون دينار، أي أقلّ من نصف المردود المنتظر من الضريبة على الدخل.
أمام تعمق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية للبلاد والشعب لم تقدم الشعبوية سوى مقترحات بائسة دون تأثير على أحوال البلاد والناس رغم المنسوب العالي من الشعارات والوعود التي لطالما سوّق لها خطاب الرئيس كحل لأزمة البلاد سيجعل خزائن الدولة تفيض بالموارد وسيحني منه الشعب الرفاه والخير العميم.
فالواقع يبين أن سردية الشركات الأهلية هي مجرد قادح شعبوي موجه لإرضاء الحشد، أما في الواقع فإن الأمر لم يتعدّ عشرات الشركات التي لم يكن لها أثر حقيقي على التنمية والعدالة بالنظر إلى إمكانياتها التشغيلية المحدودة.
كما أن تمويل هذه الشركات يبقى مرتبطا بالمقترح الثاني المتعلق بالصلح الجزائي ورغم إصدار قانون في الغرض فإن والنتائج المحققة تبين الهوة بين الوعود (13 ألف و500 مليار دينار) والحصيلة الواقعية الهزيلة (35 مليون دينار) بالنظر لأن الأمر يتعلق بملفات أصحابها قاموا إما بتسوية وضعيتهم سابقا بطرق مختلفة على غرار العدالة الانتقالية والبقية بأفراد عائلة الرئيس السابق وبطانته المستقرون خارج البلاد دون اتخاذ إجراءات جدية لتجميد أرصدتهم و هو ما جعل سلطات الدول التي يستقر فيها هؤلاء ترفع الحجر على أموالهم وضيّع على المجموعة الوطنية الحق في استرجاع الأموال المنهوبة.
وطنيا: خطاب سيادوي وواقع يعمّق التبعية
رغم ترديد الرئيس لسنفونية التعويل على الذات والتعطل الحاصل في التفاوض مع الممول الرئيسي لتونس بعد الثورة ونعني بذلك البنك الدولي فان الأرقام الواردة بقوانين المالية تؤكد تواصل اعتماد الدولة على القروض الخارجية بنسق عال كما أن التعويل على الاقتراض الداخلي والتعاطي الشعبوي مع البنك المركزي دون وجود استراتيجية مالية ونقدية وطنية كل ذلك عمق عجز الموازنات المالية والنقدية للدولة.
ويكفي لاستجلاء الحقيقة بعيدا عن الاستعراض البلاغي والخطابي أن نورد هذه الأرقام المنقولة عن تقارير رسمية صادرة عن وزارة المالية:
* الدين العمومي الجملي: من 67.75% من الناتج المحلي الإجمالي في 2019 إلى 79.81% مقدرة في 2024؛
* الدين العمومي الجملي الداخلي: من 20% من الناتج المحلي الإجمالي في 2019 إلى 33.6% مقدرة في 2024؛
* الدين العمومي الجملي الخارجي: من 47.6% من الناتج المحلي الإجمالي في 2019 إلى 46.1% مقدرة في 2024؛
* تركيبة الدين: في 2019، الدين الداخلي كان يمثل 29.6% من مجمل الدين العمومي بينما الدين الخارجي يمثل 70.4%؛ تقديرات 2024 تفيد أن الدين الداخلي أصبح يمثل 42.2% من مجمل الديون والدين الخارجي 57.8% (في إطار التعويل على الذات!)؛
* خدمة الدين العمومي: من 7.8% من الناتج المحلي الإجمالي في 2019 إلى 14% مقدرة في 2024؛
* خدمة الدين العمومي الداخلي: من 2.26% من الناتج المحلي الإجمالي في 2019 إلى 7% مقدرة في 2024؛
* خدمة الدين العمومي الخارجي: من 5.5% من الناتج المحلي الإجمالي في 2019 إلى 7% مقدرة في 2024؛
* موارد الاقتراض الجملي المبرمجة في ميزانية الدولة: من 7.9% من الناتج المحلي الإجمالي في 2019 إلى 16% مقدرة في 2024؛
* موارد الاقتراض الداخلي المبرمجة في الميزانية: من 2.1% من الناتج المحلي الإجمالي في 2019 إلى 6.7% مقدرة في 2024 (في إطار التعويل على الذات)؛
* موارد الاقتراض الخارجي المبرمجة في الميزانية: من 5.8% من الناتج المحلي الإجمالي في 2019 إلى 9.3% مقدرة في 2024؛
قيميا : الرئيس الزاهد الصادق يخل بأغلب وعوده
رغم ترديد الرئيس لخطاب أخلاقوي طهوري يحرص فيه على الظهور بمظهر الرئيس الزاهد الصادق الذي فرضت عليه الظروف تولي المسؤولية الثقيلة التي لم يسعَ إليها بل هي من سعت إليه فلبى الواجب، إلا انه الرئيس لم يختلف عن غيره كما يدعي فهو يقدم كغيره الوعود ويتنكر لها لاحقا وبالاعتماد على تقرير صادر عن منظمة أنا يقظ نتبين أن الرئيس أخل بأغلب وعوده التي أطلقها قبل عهدته وخلالها.
فقد بين التقرير أن رئيس الدولة قدم 72 وعدا تم تقسيمها كالآتي:
- 16 وعدا متعلّقا بالوعود السياسية والتشريعية،
- 4 وعود متعلّقة باستقلالية القضاء،
- 4 وعود متعلّقة بضمان الحقوق والحرّيات،
- 10 وعود متعلّقة بالقدرة الشرائية للمواطن وتوفير المواد الأساسية،
- 5 وعود متعلّقة بالبيئة،
- 4 وعود متعلّقة بالصحّة،
- 4 وعود متعلّقة بالتعليم،
- 4 وعود متعلّقة بخدمات التنقّل،
- 7 وعود متعلّقة بالشباب والمرأة،
- 6 وعود متعلّقة بأملاك وأموال الدولة،
- 2 وعود متعلّقة بالثقافة،
- 2 وعود متعلّقة بالهجرة غير النظامية لتونس،
- 4 وعود متعلّقة بالقضيّة الفلسطينية.
وتعتبر منظمة “أنا يقظ” أنّ أداء رئيس الجمهورية سلبيا بالمقارنة مع ما وعد به، ذلك أنّ 9 وعود فقط تمّ تحقيقها من أصل 72 وعدا أي ما يعادل نسبة 12,5%.
فيما يتعلق بالوعود في المجال السياسي والتشريعي، لم يحقّق رئيس الجمهورية 12 وعدا من أصل 16 فيما حقّق 4 وعود تتعلّق بالانتخابات التشريعية والمحلية وبالاستفتاء وبمؤسسة فداء.
وبالنسبة إلى مجال القضاء والحقوق والحريات ومجال التنقّل والمرأة والشباب والثقافة والهجرة غير النظامية، فإن الحصيلة تعتبر سلبية، ذلك أن 100% من الوعود لم تتحقّق أوتمّ القيام بعكسها.
أمّا فيما يتعلّق بمجالات البيئة والصحة والتعليم وأملاك الدولة والقضية الفلسطينية، فالحصيلة سلبية بنسب تتراوح بين 75% و80%.
وهو ما يبين أن الخطاب الأخلاقوي لا معنى له طالما لم يبرهن عليه في الممارسة وأن المشروع الشعبوي هو قيميا وواقعيا مشروع مفلس لا أفق له.
إن التعرض للحصيلة السلبية لفترة حكم قيس سعيد يبين أن مشروعه الشعبوي هو تعبيرة جديدة من تعبيرات المنظومة لا تختلف في جوهرها على التعبيرات السابقة ( الدستورية والإخوانية) بل هي في انسجام معها وتفوقها خطورة من حيث ضربها لمكسب الحرية وتكريس منظومة مغلقة سياسيا تعتمد الأجهزة الصلبة وسلطات الدولة (القضاء) كوظائف وآليات لخدمة المشروع الخاص للرئيس في إقامة نظام حكم فردي مغلف برداء شعبوي وهو خيار في خدمة المنظومة والمصالح الطبقية المتحكمة فيها أي المصالح الخارجية للرأسمالية العالمية وخدمها المحليين على حساب الأغلبية الشعبية وهو ما يؤكد أكثر من أي وقت مضى أن الحل لإنقاذ تونس وشعبها يجب أن يكون من خارج المنظومة الحاكمة وعبر مشروع جديد وطني ديمقراطي واجتماعي يخلق الثروة ويلبي حاجيات الشعب ويحفظ مكانة الدولة التونسية ويكرس سيادة قرارها ويعزز مكانتها وسمعتها بين الأمم.