الرئيسية / صوت النقابة / جيلاني الهمّامي: رسالة مفتوحة  إلى الهيئة الإدارية الوطنية للاتحاد العام التونسي للشغل (*)
جيلاني الهمّامي: رسالة مفتوحة  إلى الهيئة الإدارية الوطنية للاتحاد العام التونسي للشغل (*)

جيلاني الهمّامي: رسالة مفتوحة  إلى الهيئة الإدارية الوطنية للاتحاد العام التونسي للشغل (*)

الأخ الأمين العام
الأخوات والإخوة أعضاء المكتب التنفيذي الوطني
الأخوات والإخوة أعضاء الهيئة الإدارية الوطنية

يسرّني وأنتم تستعدّون لاجتماع الهيئة الإدارية الوطنية يوم غد الثلاثاء 27 أوت الجاري أن أتوجّه إليكم بهذه الرسالة.

إنّني النقابي، جيلاني الهمامي، الكاتب العام الأسْبق للجامعة العامّة للبريد والاتصالات قضيّتٌ أربعين سنة من النّشاط صٌلب الاتّحاد العام التونسي للشغل وتدرجت في المسؤوليات النقابية من النقابة الأساسية إلى الكتابة العامة لجامعة البريد وترشّحت أكثر من مرّة لعضوية المكتب التنفيذي الوطني ودخلت السّجن في مناسبتين، الأولى سنة 1984 بسبب الإضراب التّاريخي للبريديين (إضراب العشرة أيام) والثانية سنة 1997 بسبب الخلاف مع قيادة الاتحاد والأمين العام آنذاك إسماعيل السّحباني الذي رفع ضدّنا شكاية للقضاء على خلفية عريضة أمْضيناها (عدد من النقابيين منهم أعضاء هيئة إدارية وطنية مثلي أذكر منهم المرحوم حبيب بسباس وصديقي منجي صواب ورشيد النجار وأعضاء مكتب تنفيذي سابقين، أحمد بالرميلة وعبد المجيد الصحراوي) مطالبين بانعقاد المجلس الوطني.

وقد كنت طوال هذه المسيرة “ولد الاتحاد” ولا زلت أتشرف بهذه الصّفة التي تبعث في كلّ مشاعر الاعتزاز والتعلّق بمنظمة حشاد. وقد دونت ذلك في كتاب كنت أصدرت منذ سنوات بعنوان “الاتحاد العام التونسي للشغل: نظرة من الداخل”.

وعلى هذا الأساس أراني دائم الاهتمام بأحوالها وبما يجدّ داخلها وبما يحاك ضدّها ولا أتمالك عن التّعبير عمّا يخالجني حيال ذلك من أحاسيس ومواقف كواحد من “أولاد الاتحاد”. وهو ما دفعني اليوْم إلى التوجه إليكم بهذه الرسالة.

لا أذيعكم سرّا بالقول إنّ الاتّحاد يمرّ اليوم بـأزمة حادّة، هي على ما أعتقد من أخطر الأزمات التي عرفها في تاريخه. لأنّها أزمة مركّبة ومعقّدة يتشابك فيها عامل الاستهداف من الخارج وبالتحديد من نظام الحكم مع عامل سوء التصرف الداخلي الذي يضاهي في أثره ونتائجه التّخريب إن كان عن وعي أو غير وعي. وأرى شأني شأن الكثير أن هذه الأزمة تحمل في طياتها تهديدات جدية. وحتّى لا يؤخذ كلامي على أنه مجرّد مبالغة غير ذات وجاهة سأحاول فيما يلي تفصيل رأيي في الوضعيّة لأختم بتوجيه نداء إليكم عسى أن يلقى لديكم قليلا من الاهتمام.

قيس سعيد يتربص بالاتحاد

لا أحد ينكر أن قيس سعيد يسْتهدف الاتّحاد ضمْن خطته العامّة في القضاء على الأجسام الوسيطة، أحزابا ومنظمات وجمعيات. وقد بات واضحا للعيان أنه يتّبع في ذلك خطّة على غاية من الدّهاء تمْزج بين عدّة آليات وأدوات وأساليب. فقد عمل من جهة على تحْجيم وزن الاتّحاد في الساحة عبر تشويهه ونشر ادّعاءات مضللة ضده كالقول بأن كثرة الإضرابات أدت إلى تراجع الاستثمار وانهيار النمو وبالتالي فإن الاتحاد هو المسؤول عن الازمة الاقتصادية التي تتخبط فيها البلاد. وتبعا لذلك فلا حل للأزمة إلا بالتخلص من “الاتحاد والإضرابات”. وهكذا نجح في تأليب جزء من الرأي العام ضد المنظمة.

من جانب آخر جمّد سعيّد كل آليات الحوار الاجتماعي والتفاوض حول المسائل المادية والقانونية والاجتماعية للعمال وقرّر من جانب واحد وفي غياب الطرف النقابي الزيادة في الأجر الأدنى الصناعي والفلاحي وفي أجرة التقاعد كما أحال على “البرلمان” تنقيحات في مجلة الشغل دون تشريك الاتحاد وأصدرت حكومته المناشير المعروفة (20 و21) وعطّل الاتفاقيات القديمة وتنكّر لمحاضر الجلسات الممْضاة وشجّع على دوْس الحقوق والحرّيات النقابية (سحب التفرّغات ومنْع الرّخص النقابية) وراح يهدّد بالتراجع في المكتسبات القديمة (الخصْم المباشر) وبتحريك بعض “النقابات” الموازية في إشارة إلى تنْشيط التعدديّة النقابية للتّضييق على الاتحاد.

أكثر من ذلك أعطى سعيّد إشارة الانطلاق لإثارة قضايا عدْلية ضدّ النقابيين لأسباب نقابية (نقابيو النقل وأنيس الكعب وغيرهم) وغير نقابية بدعوى مقاومة الفساد. ومع كلّ ذلك أطلق عنان ميليشياته الفايسبوكية لتنظيم حملات التهجم على الاتحاد والنقابيين لتشويههم والتشهير بهم. والأخطر من كل ذلك أنه زرع أتباعه داخل هياكل الاتحاد، من فوق إلى تحت، لاختراقه وزعزعة وحدته من الدّاخل. وبطبيعة الحال مازالت هذه الخطة في مراحلها الأولى في انْتظار استكمالها ومن المتوقّع أن تمرّ إلى نسق متقدّم إثر الانتخابات الرئاسية.

القيادة الحالية شريكة في الازمة

إنّ الأمر الذي لا يرقى إليه الشك هو أن الاتّحاد قد تردى في أزمة حادة وخطيرة قد تؤدي به إلى التفكك والاندثار إذا استمرت لفترة أخرى ولكن ليس فقط بسبب ما ذكرناه أعلاه وإنما أيضا لأسباب أخرى.
ينبغي أن نعترف أن الازمة ناتجة أيضا عن عوامل داخلية تتصل بمنهج التسيير التي اتبعته القيادة ممثلة أساسا في المكتب التنفيذي الوطني الحالي وهو منهج بيروقراطي موروث عن تجربة طويلة ترسخت فيه تقاليد مركزة القرار النقابي وتهميش دور الهياكل التقريرية والقطاعية والجهوية وإلغاء دور القواعد العمالية التي استحالت إلى مجرد حطب لحملات التسخين والتبريد علاوة على أساليب التلاعب بالقوانين الداخلية وبالمؤتمرات وتوزيع النيابات وتركيز الاتباع وتصفيه المخالفين في الرأي والخصوم من النقابيين. ويعتبر المسار الذي زجت فيه القيادة الاتحاد لإلغاء الفصل 20 من النظام الداخلي (المجلس الوطني ومؤتمر سوسة غير الانتخابي ثم مؤتمر صفاقس) هو المنعرج الذي أدخل الاتحاد في منطقة زوابع حقيقية. هذه حقيقة لا يمكن نكرانها. إن المكتب التنفيذي الوطني شريك، كهيكل، في صنع الازمة وله نصيب كبير من المسؤولية فيها.

ما العمل؟

المحصلة والنتيجة أن الاتحاد يتخبط اليوم في أزمة حادة وخطيرة. وإذا استمر الحال على ما هو عليه سيكون عرضة لكل احتمالات الانفجار والتفكك. والواضح اليوم أن لا أمل في قدرة الفريق القيادي الحالي على تدارك الوضع بالنظر لما هو عليه من انقسامات وتكتلات وصراعات وحسابات شخصية باتت معلومة لدى النقابيين وحتى لدى جزء واسع من الرأي العام المهتم بالشأن النقابي والشأن العام. وقد بات متأكدا أن المكتب التنفيذي الحالي لن يستطيع مواصلة مهمته إلى غاية انتهاء مدة ولايته بداية 2027 لذلك يتحتم التفكير الآن وهنا في مخرج من هذه الوضعية بغاية الحفاظ على المنظمة والحيلولة دونها ودون الانشقاقات والانقسامات والسقوط في دوامة صراعات من نوعية جديدة قد تؤدي بها إلى الاندثار. لا بد من حل جريء وسريع. والوضع الاستثنائي يتطلب حقا حلا استثنائيا.

ويتمثل الحل الاستثنائي في أمرين اثنين:
أولا وقبل كل شيء سياسات واختيارات جديدة مختلفة تماما عن السياسات والاختيارات القديمة. والمقصود بذلك أن ينبني الحل المطروح على موقف واضح وجريء وصريح من اختيارات السلطة في المجال الاقتصادي والاجتماعي ونمط التنمية المتبع وتباين واضح مع الأسلوب الشعبوي الاستبدادي في تنظيم وتسيير شؤون الدولة والإدارة والاعلام وكل المؤسسات ورفض منطق الحكم الفردي المطلق والدفاع المستميت عن استقلالية الاتحاد ضمن منظور ديمقراطي تقدمي ينتصر لاستقلالية المؤسسات الدستورية وكل الاجسام الوسيطة أحزابا وجمعيات مدنية ومنظمات مهنية والدفاع عن الحقوق والحريات النقابية كجزء من الحريات العامة والفردية. وعلى الصعيد الداخلي مراجعة قوانين المنظمة باتجاه مراجعة المركزة المشطة وإعادة الاعتبار للهياكل التقريرية ووضع آليات تطوير فاعلية القرارات القاعدية وأخرى لمنع كل أساليب التلاعب بالمؤتمرات والنيابات وبطبيعة الحال العودة للفصل 20 إلى جانب ضبط خطة نضالية للدفاع عن المطالب المادية والمقدرة الشرائية وظروف العمل وغيرها من الاستحقاقات الاجتماعية الأخرى وللتصدي للإجراءات المتخذة في شأن منظومة الحوار الاجتماعي والتفاوض وشراكة الطرف النقابي في عديد المنظومات.
ثانيا تغيير الفريق القيادي بشكل ديمقراطي ووفق أحكام الفصل 20.

هذا الحل الاستثنائي (بعناصره المذكورة) لا يمكن أن يقع إلا بشكل مؤسساتي ومن خلال أعلى مؤسسة ملزمة للمنظمة، هياكل وقواعد، وهي المؤتمر الوطني.
إن الاتحاد في حاجة ماسة ومتأكدة إلى نقلة نوعية في مسيرته يدشنها مؤتمر وطني ينبغي أن ينعقد في أقرب الأوقات، ويتعين الانكباب على إعداده من الآن إعداد جيدا دون إضاعة الوقت تحسبا لكل ما يمكن أن يحصل بعد الانتخابات الرئاسية. ومن البديهي أن المسؤولية كل المسؤولية ملقاة على الأكثر وعيا من غيرهم، مهما كان موقعهم، بخطورة الوضع كي يتولوا إنجاز هذه المهمّة الملحّة.

لا للحلول المغشوشة

يختلف هذا الحل عن الحلول الأخرى التي تندرج ضمن خطة استهداف الاتحاد تحت غطاء معاداة القيادة ولكنها في الحقيقة تقوم بدور مشبوه في خدمة قيس سعيد وتهدف إلى ربط الاتحاد بعجلته انطلاقا من مناصرتهم لمقاربة سعيد وخياراته وأهدافه. ومن المؤسف أن يلقى هذا التيار أنصارا مندسين في هياكل الاتحاد يعوّل على البعض منهم أن يكونوا قادة انقلابات قادمة وبدائل “الغد”. لهؤلاء نقول لهم أن التاريخ الذي حفظ أسماء كل القادة الذين باعوا ضمائرهم وقبلوا بمهمة في الانقلاب على منظمتهم، بشير بلاغة سنة 1965 والتيجاني عبيد 1978 وعبد العزيز بوراوي وغيره سنة 1985 سيضع في خانتهم من سيقبل اليوم بذات المهمة القذرة.

كما يختلف هذا الحل عما يطرحه البعض من مؤتمر استثنائي فقط لإزاحة القيادة الحالية بصرف النظر عما سيحصل في المستقبل.
إن المؤتمر الاستثنائي مهمة خطيرة وسلاح ذو حدين فبقدر ما يمكن أن يحقق أهدافه في تدشين مسار إنقاذ المنظمة بنفس القدر يمكن أن يذهب بالمنظمة إلى المجهول. ولتلافي هذا المآل لا بد أن ينعقد المؤتمر الاستثنائي تحت شروط واضحة ومحددة. فإذا لم يكن مناسبة للقطع مع أسباب الازمة أي إذا لم يكن مناسبة للقطع مع سياسة التهادن مع النظام والأعراف والنهج البيروقراطي، وإذا لم يصدر لوائح وتوصيات وقرارات جريئة في ذلك وفي مقدمتها قرار العودة إلى الفصل 20 (وغيره من الفصول التي تستحق المراجعة) فإنه سيكون مجرد عملية شكلية تستبدل “زيد” بـ”عمر” وتنتقل بالاتحاد من أزمة إلى أخرى.

إن مسؤوليتكم كبيرة وتاريخية وأرجو، كما يتطلع إلى ذلك الكثير، أن تكونوا في مستواها وأن تفوتوا الفرصة على أعداء منظمة حشاد الذين يريدون تخريبها والتخلّص منها كي يكرسوا مشاريعهم المعادية للشغيلة والشعب والوطن.
أرجو لأعمالكم التوفيق،
والسلام.

جيلاني الهمّامي

تونس في 26 أوت 2024

(*) نشر اليوم بجريدة “الشارع المغاربي”

إلى الأعلى
×