بقلم حسين الرحيلي
مقدمة
أصبحت التحولات المناخية أحد أهم القضايا والمواضيع المدرجة في اجتماعات وقمم المنظومة العالمية المعولمة. إذ بدأ الاقتصاد العالمي الرأسمالي يتحسّس بشكل كبير تأثيرات التحولات المناخية المتسارعة على سطح الأرض، وما يمكن أن يتكبّده من خسائر جرّاء تواصل هذه التحولات المناخية بأكثر وتيرة في الفترات القادمة.
إذ أكد تقرير منتدى دافوس الذي انعقد خلال شهر ماي 2022، بأن حجم الخسائر لكوارث المناخ المرتبطة بالتحولات المناخية بلغت سنة 2021 حوالي 329 مليار دولار، وهي ثالث أكبر خسارة يتعرّض لها الاقتصاد العالمي في تاريخه، بعد خسائر الحربين العالمتين الأولى والثانية.
ووفق نفس التقرير، أظهرت الدراسات الرسمية والأكاديمية، أن الموارد المائية العالمية هي الأكثر تضررا من هذه التحولات، بل إن المياه وخاصة مياه الشرب أصبحت الشغل الشاغل لجلّ الحكومات العالمية لارتباطها بحياة السكان وأنشطتهم.
كما عقدت منظمة الأمم المتحدة ندوة دولية يومي 2 و3 جوان 2022 بالسويد، حول البيئة بمناسبة مرور 50 سنة على أول مؤتمر للبيئة بستوكهولم 1972 تحت نفس شعار ندوة 72 “ليس لنا إلا أرض واحدة” لتؤكد أن العالم لم يفعل أيّ شيء للبيئة منذ 50 عاما. وأن شعار 1972 مازال قائما اليوم بعد 50 سنة أضاعتها البشرية لصالح الرأسمال العالمي اللاهث دوما وراء الربح ومراكمة الثروة على حساب حدود النمو المرتبط بالحدود الفيزيائية لمكوّنات المحيط الطبيعي من ماء وتربة وهواء. وهو ما سينعكس سلبا على المكونات البيئية للإنسان، وعلى ظروف العمل وفضاءاته وبالتالي، على العمال وإطار عيشهم وقدرتهم الشرائية.
الشعبوية تصرّ على إنكار الجوانب البيئيّة والتحولات المناخية
رغم كل الحقائق العلمية والشواهد الميدانية للمظاهر القصووية للتحوّلات المناخية وآثارها المدمرة على كوكب الأرض والإنسان، إلا أن الشعبوية تصرّ على الإنكار، وتعتبر أن ما يروج الهدف منه ضرب مكاسب الرأسمالية وقدراتها على خلق الرخاء والرفاه للإنسانية. وهو ما عبّر عنه رمز الشعبوية العالمية ترامب عندما اعتبر أن سقوط الثلج ليلة 31 ديسمبر2020 هو دليل على كذب التحوّلات المناخية. كما قام ترامب في أول قرار له كرئيس لأمريكا بالخروج من اتفاقية باريس للمناخ لسنة 2015. وليس ترامب فقط من يعبّر عن الظاهرة الشعبوية وموقفها السلبي من المسائل البيئية، بل نجد كل أطياف اليمين المتطرف الواصلة للسلطة في العديد من دول العالم في إطار موجة شعبوية عارمة تدكّ العالم بتصوّراتها وأفكارها المرتبطة بكواكب أخرى وليس لها أيّ علاقة بما نعيشه نحن على كوكب الأرض جرّاء تراكم جرائم نمط إنتاج النظام الرأسمالي الذي يدافعون عليه بكل استماتة تحت شعارات الوطن أولا والسيادة الوطنية وحرب التحرير الوطني.
وليس غريبا، في هذا الإطار، أن تغيب المسائل البيئية تماما عن اهتمامات السلطة في تونس، إلا إذا طرح الموضوع بشكل مفاجئ في الزيارات الميدانية للرئيس سعيد، مثلما حصل في الحمامات. أمّا على مستوى القناعات والتصوّرات والخطط والبرامج، فإنّ المسائل البيئية ليس لها لا الحضور ولا القناعة بضروراتها وجدواها، بل إنّ الموقف الرسمي يربط الشحّ المائي بالمؤامرة وبعدم قيام الأعوان بدورهم، وانخراطهم في مؤامرة لتعطيش الشعب وتجويعه للمساس بالاستقرار الاجتماعي. وهو ما يؤكد أنّ ندرة الماء وتأثير التحوّلات المناخية بيئيا ليس له أيّ معنى للسلطة في تونس.
فالمسالة البيئية في تونس، ومنذ أكثر من خمس وثلاثين سنة، كانت مجرّد واجهة وشعارات في عهد بن علي بهدف تعبئة موارد مالية أجنبيّة استثمرتها في الغالب العائلة المالكة وحواشيها، مع بعض الإنجازات للتغطية على الفساد. أمّا بعد 14 جانفي 2011 ومن خلال كل الحكومات المتعاقبة، فإنّ المسألة البيئيّة لم تتجاوز السياسوية وحملات النظافة الموسمية في إطار البروباقندا السياسية والانتخابية. بل الأخطر من ذلك خلال تلك الفترة، هو تحويل المؤسسات البيئية إلى فضاءات للمتاجرة بصحة الشعب وسلامته وخاصة فيما يتعلق بملف النفايات الإيطالية والذي يعتبر جريمة دولة بامتياز تمّ تحميلها لبعض الموظفين الذين أودعوا السجن ظلما، لينصف القضاء جزءا كبيرا منهم بعد أكثر من عامين. ولكن اللافت للانتباه في هذا الجانب، أن أغلب وزراء البيئة خلال حكم الترويكا وحكوماتها المتعددة، كلهم في السجن. ممّا يؤكد صدق ما ذكرناه سابقا.
بعد 25 جويلية 2021، تمّ حلّ المجالس البلدية وإفراغ البلديات من سلطتها المحلية. وهو ما انعكس سلبا على نشاط البلديات ودورها المتعلق خاصة بالتصرف في النفايات والبنى التحتية البلدية وإطار عيش المتساكنين. وفي ظل هذا الفراغ المؤسساتي للسلطة المحلية، انتشرت النفايات في كل الأماكن ولم تسلم حتى المناطق السياحية التي كانت محظوظة سابقا مثل جربة والحمامات وسوسة وغيرها. كما تعرضت ولاية صفاقس خلال سنتي 2021 و2022 إلى أزمة نفايات حادة بعد غلق مصب عقارب بقرار قضائي، ومازالت المشكلة لم تحلّ بشكل جذري لأنّ الحلول الظرفية هي سيدة الموقف في تونس في هذه الفترة.
كما يتواصل تلويث المحيط بالنفايات الخطرة وبالمياه الصادرة عن محطات التطهير نظرا لعدم مطابقتها للمواصفات أمام ضعف الإمكانات المادية والبشرية للديوان الوطني للتطهير. كما تراجع أداء المؤسسات البيئية على مستوى المراقبة والتقييم البيئي ممّا جعل البيئة معطلا حقيقيا للتنمية والاستثمار. ذلك أنّ الفصل 96 من المجلة الجزائية أصبح سيفا مسلولا على كل موظف، وهو ما أضعف القدرة لديه على العمل والاجتهاد.
أمام كل هذه التحديات البيئية والتنموية من ناحية، والعطالة المؤسساتية لوزارة البيئة ومؤسساتها من ناحية أخرى، فإنّ أعلى هرم السلطة مازال متمسّكا بأنّ أولوية الشعب هي حرب التحرير الوطني في تغييب كلي للتحديات الحقيقية للمواطن من ماء وشغل ودواء ونقل محترم ومدرسة محترمة وإطار عيش نظيف وبيئة سليمة، وغيرها من الحقوق الدستورية الأساسية.