حاوره علي الجلولي
الكلمة هذه المرة على منبر “صوت الشعب” هي للقدس، فبعد الحوار مع الرفيق “محمد الغول” من تحت النار في غزة الأبية، ننتقل إلى القدس عاصمة فلسطين ورمز الصمود السابق والحاضر والقادم، ومن قلب أحيائها العربية التي تقاوم الصهينة الدؤوبة نتواصل مع الصحفي المشتبك الأستاذ راسم عبيدات حول آخر تطورات الوضع الفلسطيني وملاحم الشعب والمقاومة في وجه كل مخططات العدوان الاستعماري الصهيوني.
راسم عبيدات، لا شك أن اغتيال الشهيد إسماعيل هنيّة يمثل منعرجا في سيرورة الحرب الصهيونية وأداء المقاومة. كيف تقرؤون هذه التطورات وتداعياتها الوطنية والإقليمية؟
لا شك بأن قضية اغتيال القائد إسماعيل هنيّة في طهران، والتي هدف منها الاحتلال بارتكابه لتلك الجريمة، تحقيق جملة من الأهداف، يقف في مقدمتها القول بأن يده طويلة ويستطيع الوصول إلى الهدف الذي يريده في أيّ مكان، وإظهار بأن إيران دولة ضعيفة غير قادرة على تأمين الحماية لضيوفها، وبأنها دولة مخترقة أمنياً، وكذلك الرسالة الأهم في هذا الجانب تسعير الفتنة المذهبية سني – شيعي، تلك الفتنة التي لعبت معركة السابع من أكتوبر دوراً كبيرا في وأدها، وأيضاً لا ننسى الهدف الأهم وهو إضعاف حركة حماس وإيجاد فراغ قيادي في داخلها، وخلق صراعات في داخلها وتجاذبات بين أطرافها المختلفة، والسعي لإيجاد قيادة حمساوية، محسوبة على هذا الطرف الإقليمي أو ذاك، والابتعاد بها عن محور المقاومة، ولكن حركة حماس بمجموع قيادتها ومجلس شورتها، ردّت بذكاء استراتيجي جمعي على خطوة الاحتلال هذه، بانتخاب يحيى السنوار، قائلة بأن منصب رئيس المكتب السياسي للحركة ليس منصبا سلطويا سياسيا، وأيضاً ليس منصبا للصراعات والتجاذبات، وبتعيين السنوار أغلقت بوابة الامتداد الإقليمي في الحركة… وبالتالي “اسرائيل” باغتيالها لهنيّة المنفتح على خيار المفاوضات ورجل السياسة، وجدت نفسها أمام كابوس السنوار، بحيث انتقل القرار والتفاوض إلى الميدان وفي قلب المعركة، وبات السنوار قائدا لحركة حماس وقائد لعملية التفاوض وقائد لمحور المقاومة، وهو رجل لا يخضع لا لابتزاز الإقامة الجغرافية ولا لديكتاتورية الجغرافيا ولا الابتزاز المالي، ولا الضغط الشخصي.. وباختياره تأكيد على أن حماس اختارت نهج المقاومة والسير على نهج وطريق وخيار هنيّة، وفي هذا الاختيار تدعيم لعلاقاتها مع محور المقاومة، ورسالة واضحة لمحور التطبيع العربي، بأن حماس جزء من محور يقف إلى جانبها، يدعمها ويسندها قولاً وفعلاً.
بالتوازي مع حرب الإبادة في قطاع غزة، تعرف الضفة الغربية والقدس هجوما مستمرا على مختلف الأصعدة. هلاّ وضعتنا في حقيقة الأوضاع؟
ما يجري في الضفة الغربية تعبير مصغّر عمّا يجري في قطاع غزة، من حرب إبادة جماعية وتطهير عرقي وتجويع وحصار وتدمير ممنهج لكل مظاهر الحياة والوجود الفلسطيني، فالاحتلال يعتبر الضفة الغربية الخاصرة الرخوة بالنسبة له، حيث التداخل الجغرافي والديمغرافي بين الأراضي المحتلة عام 1967 والأراضي المحتلة عام 1948، وبالتالي تصاعد أعمال المقاومة وتعدد أشكالها وتوسعها وشموليتها، وتطوير قدراتها العسكرية والتسليحية، وتراكم خبراتها وإبداعاتها في امتلاك تقنية تصنيع المسيرات أو تكنولوجيا الصواريخ، هذا يشكل مخاطر جدية على عمق دولة الاحتلال، فالضفة الغربية قريبة جداً من مدن الداخل الفلسطيني- 48 -،وهذا يعني بأن صواريخ المقاومة ومسيراتها ستدك قلب مدن الاحتلال ومواقعه الحيوية والاستراتيجية، ولذلك يقوم الاحتلال بشن حرب شاملة على الضفة الغربية، تشترك فيها قواته العسكرية وأجهزته الأمنية، واستخدامه للمسيرات والطائرات الحربية المقاتلة في العدوان على الضفة الغربية، وتحديداً في عمليات الاغتيال والتصفية لخلايا المقاومة وفصائلها قادة ونشطاء قياديين وميدانيين، لتجنّب دفع قواته العسكرية لخسائر بشرية في عمليات الاغتيال أو الاعتقال، ومن هنا نرى بأن مشاريع الطرد والتهجير في قطاع غزة تنسحب على الضفة الغربية والقدس، حيث يقوم وزير ما يعرف بمالية الاحتلال سموتريتش، بزرع الضفة الغربية بالبؤر الاستيطانية والمستوطنات، ويسعى إلى إغراقها بمليون مستوطن، والقيام بأوسع عملية هدم للمباني والمساكن الفلسطينية في الضفة الغربية، وخاصة في المنطقة “جيم”، والتي تشكل 60% من مساحة الضفة الغربية، ولغرض الاستيطان والتهويد والضم والطرد والتهجير، جرى مصادرة 40 ألف دونم من أراضي الضفة الغربية، والعمل على إقامة 24 ألف و300 وحدة استيطانية جديدة في الضفة الغربية، وواحد من أهداف هذه العملية الضخمة “هندسة” الضفة الغربية جغرافياً بالاستيلاء على أكبر مساحة من الأرض، وطرد أكبر عدد من السكان الفلسطينيين وحشر من يتبقى منهم في معازل و”جيتوهات” متناثرة في محيط ” اسرائيلي” واسع.
ولتحقيق هذه الأهداف يتشارك ما يعرف بوزير الأمن القومي “الإسرائيلي” المتطرف بن غفير مع جيش الاحتلال وأجهزته الأمنية، ووزير الضم والاستيطان سموتريتش، حيث يقود بن غفير زعرانه من المستوطنين في حرب شاملة على أهلنا وشعبنا في الضفة الغربية، عدوان مستمر لا يتوقف، عمليات قتل وجرح وتخريب وتجريف وحرق بيوت وممتلكات وقطع أشجار وسرقة محاصيل وأغنام وقطع طرقات وطرد وتهجير، وبالتالي يمكن لنا أن نلخص سياسة الاحتلال في الضفة الغربية، بأنها قائمة على المزيد من الضم والتهويد والطرد والتهجير و”الهندسة” الديمغرافية والجغرافية… ومنع أيّ إمكانية لإقامة دولة فلسطينية… حرب تشارك فيها كل أذرع الجيش والأجهزة الأمنية… اغتيالات وتصفيات واعتقالات واقتحامات وتدمير ممنهج للبنى التحتية… واستخدام للمسيّرات والطائرات الحربية في عمليات القصف والاغتيال… ضمّ وتهويد ومصادرات وزرع الضفة بالمستوطنات وهدم منازل الفلسطينيين يتولاها سموتريتش وزير مالية الاحتلال، وإطلاق يد المستوطنين، بلطجيّتهم وزعرانهم لشن حرب شاملة على شعبنا في الضفة الغربية قتل وجرح وحرق منازل وممتلكات ومركبات وقطع طرقات وسرقة أغنام ومحاصيل زراعية وقطع أشجار، وطرد وإقامة بؤر استيطانية في الأغوار وفي مسافر يطا وفي برية القدس وفي شرق بيت لحم… الخ، يشترك فيها نتنياهو وسموتريتش وبن غفير وقادة جيش الاحتلال وأذرعه وأجهزته الأمنية.
يعرف الهجوم على القدس تصاعدا بما في ذلك العمل على فصلها عن الضفة الغربية. كيف يتصدى الفلسطينيون إلى ذلك؟
تمرّ البلدة القديمة في مدينة القدس بظروف غير مسبوقة في تاريخها، استباح فيها الاحتلال كل مكوناتها، وأحدث تغييرات كبيرة مسّت الحجر والبشر، وعلى الرغم من إعلان المدينة تراثاً حضارياً عالمياً، تجب حمايته فإن سلطات الاحتلال أمعنت في تغيير المشهد الحضاري والتاريخي للمدينة.
وقد ازدحمت الأشهر الأخيرة بالانتهاكات في مدينة القدس المحتلة، فكان على أرضها الشهداء والمعتقلون والهدم، واقتحام المسجد الأقصى، وقرى وأحياء عديدة.
دولة الاحتلال من بعد معركة السابع من أكتوبر 2023، تريد أن تحسم سيادتها وسيطرتها على مدينة القدس، وتغيير وضعها الجغرافي والديموغرافي ومشهدها الكلي، عبر مخططات ومشاريع وبرامج متعددة واستراتيجيات من ضمنها السيطرة على ما فوق الأرض، من خلال الاستيطان ومصادرة الأراضي والعقارات، وهدم المنازل الفلسطينية العربية وسياسة الطرد والتهجير والتطهير العرقي، كما هو الحال في قرية سلوان وأحيائها الستة المهددة بالطرد والتهجير، البستان ووادي حلوة وبطن الهوي وواد ياصول وواد الربابة وعين حلوة، وحيي الشيخ جراح الغربي والشرقي، وعزل مدينة القدس عن محيطها الفلسطيني، وبما يمنع ذلك من تواصلها مع ذلك المحيط جغرافياً وديموغرافياً.
ولكي يحقق الاحتلال هذا الهدف، عمل على إقامة مشاريع استيطانية كبرى في المدينة (13) مشروعاً استيطانياً، تضم على الأقل 24000 وحدة استيطانية، منها ربط المشاريع والبؤر الاستيطانية في جنوب القدس مع بعضها بعض، وإقامة مشاريع استيطانية جديدة “جفعات همتوس” و”جفعات تحموتيس” وما يعرف بالقناة السفلى و”جفعات هشاكيد”، وتوسيع مستوطنة جيلو، وهذه المستوطنات المقامة على أراضي بيت صفافا وصور باهر وأم طوبا وشرفات والولجة وأراضي بيت جالا، هدفها تفكيك تلك القرى وتحويلها إلى كتل سكانية هلامية، وبما يعزلها عن جنوب الضفة الغربية محافظة بيت لحم، مدن بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور ومدينة الخليل.
عزل شمال القدس عن قلبها
وكذلك هناك مشروع استيطاني على أرض مطار القدس في شمال القدس، (9000) وحدة استيطانية، تعزل مدينة القدس على شمال الضفة الغربية، وفي شرق مدينة القدس، سيتمّ إقامة (3500) وحدة استيطانية، في المنطقة المسماة “معالية أدوميم” والتي تفصل شمال الضفة الغربية عن جنوبها، وتغلق البوابة الشرقية لمدينة القدس بشكل كلي، ولم يكتف الاحتلال بهذه المشاريع، بل عمل على إقامة مشاريع استيطانية استراتيجية في قلب مدينة القدس، مشروع وادي السيلكون في منطقة وادي الجوز، ما يعرف بالقرية التكنولوجية، والتي تستولي على ألفي دونم من أرضي المنطقة وتدمّر 200 ورشة تجارية وصناعية عربية، وهناك مشروع عزل قرى شمال مدينة القدس عن قلبها، والمستهدف عمل طوق استيطاني يبدأ من السلسلة الغربية لمنطقة الشيخ جراح، ومن ثم المنطقة الشرقية للشيخ جراح وصولاً إلى منطقة وادي الجوز.
مشهد عربي إسلامي إلى يهودي مصطنع
ومشاريع ما يعرف بشرق المدينة والشارع الأمريكي، كل هذه المشاريع الاستيطانية، لها علاقة بتحويل سكان المدينة العرب إلى جزر متناثرة في محيط “إسرائيلي” واسع، وهذا لن يمكّن الاحتلال من تحويل القدس إلى “عاصمة أبدية” لدولته، كما يريد، مع استمرار المشهد العربي الفلسطيني الطاغي فيها، والوجود السكاني الكبير للعرب فيها 38% من مجموع سكان مدينة القدس، ولتحقيق ذلك عمل الاحتلال على توسيع مدينة القدس لكي تصبح 10% من مساحة الضفة الغربية، بحيث يجري ضمّ مستوطنات جنوب غرب القدس إليها، من “غوش عتصيون” جنوب غرب الخليل، مروراً بمستوطنات جنوب بيت لحم، مجمع “افرات” الاستيطاني، إلى أراضي قرية الولجة المستولى عليها، وصولاً إلى مستوطنات القدس “بسجات زئيف” و”النفيه يعقوب” ومجمع بنيامين الاستيطاني، إلى مجمع مستوطنات “معالية وادوميم” شرق المدينة. وعملية الضم والتوسيع تلك تضمن قلب الواقع الجغرافي والديمغرافي والمشهد الكلي في المدينة، من مشهد عربي إسلامي – مسيحي أصيل، إلى مشهد يهودي توراتي تلمودي مصطنع، وبنسبة سكانية 12% عرب و88% يهود.
هي سياسة استيطان وتهويد كاملة للمدينة، يراد منها حسم السيادة والسيطرة على المدينة بشكل نهائي.
50 حقيقة صادمة عن واقع التهويد
وفي هذا الجانب قالت مؤسسة القدس الدولية في إصدار لها بعنوان “50 حقيقة صادمة عن واقع التهويد في القدس”: إن من بين هذه الإجراءات، توفير حزام أمني محيط بالقدس من كافة الجهات، والحفاظ على المواقع العسكرية المهمة في مرتفعات القدس ومناطقها الحساسة.
وأشارت إلى إيجاد طرق آمنة بين المستوطنات الإسرائيلية، وخلق تواصل بين أماكن وجود المستوطنين، وتحويل القدس إلى مدينة طاردة للمقدسيين، وجاذبة للمستوطنين.
وأكد التقرير مضي الاحتلال في تعزيز مكانة القدس كعاصمة لدولة الاحتلال والترويج لذلك، مع عزل المدينة عن المدن الفلسطينية الأخرى، وضرب مقوّمات صمود المجتمع المقدسي.
وتؤكد المؤسسة أن الاحتلال الإسرائيلي عمل منذ احتلال الشطر الغربي للقدس عام 1948 حتى اليوم، على تهويد المدينة المحتلة وأسرلتها، حيث تعرّضت القدس خلال هذه السنوات لهجمة تهويديّة ضخمة، على الصعد الدينية والثقافية والديموغرافية، بالإضافة إلى محاولة تغيير هوية المكان، عبر رواية تاريخية مكذوبة، حاول الاحتلال إقحامها في خط المدينة التاريخي.
استهداف الوجود العربي
جنباً إلى جنب إجراءاتها التهويدية، عملت إسرائيل على وضع الإنسان العربي في حالة غير آمنة، على مختلف المستويات الاقتصادية والعمرانية والجسمانية. لقد فرضت على الناس ضرائب لا تتناسب مستوياتها مع مستويات دخلهم، وضيقت عليهم اقتصادياً من أجل أن يلتحقوا بسوق العمل الإسرائيلي، وذلك لرفع مستوى اعتمادهم في لقمة الخبز على المحتل، وربط مستقبل أولادهم الاقتصادي بإسرائيل. وعملت على منعهم من ترميم بيوتهم، ووضعت قواعد صارمة لعملية العمران سواء كان بإضافة غرف إلى مساكن قائمة، أو بناء مساكن جديدة، ولم تتوان عن هدم بيوتهم، سواء كانت مرخصة أو بدون ترخيص، من بلدية القدس التي تنفذ سياسة الاحتلال. ولاحقت الناس أيضاً لأسباب سياسية وأمنية، فاعتقلت كثيرين إدارياً وأمنياً، وشددت من إجراءات التفتيش وبث أجواء الرعب والإرهاب.
قانون الغائب
وفي سياق سياستها لتهويد معالم المدينة، أكدت حكومة نتنياهو أنها تبنت قراراً للشروع مجدداً في تطبيق قانون أملاك الغائبين، ليشمل الممتلكات المحجوزة في القدس الشرقية المحتلة.
ويمكن القول: إن تطبيق قانون أملاك الغائبين قد أدّى إلى سيطرة إسرائيل على القسم الأكبر من الأراضي الفلسطينية، التي تعود ملكيتها للاجئين الفلسطينيين، الذين هاجروا إلى خارج فلسطين إثر نكبة عام 1948، وكذلك الغائبون الحاضرون، وهم اللاجئون المحليون الذين يقيمون داخل الخط الأخضر، في قرى ومدن غير قراهم ومدنهم الأصلية، حيث يمنح القانون المذكور الوصي الإسرائيلي على أملاك الغائب “الحق” في الاستيلاء عليها وإدارتها والسيطرة على الأرض التي يملكها أشخاص يعرَّفون بـ”غائبين”. و”الغائب” حسب دراسات مختلفة، هو أي فلسطيني هُجّر إلى خارج فلسطين في الفترة من 29 نوفمبر 1947 إلى 18 مايو 1948 عن تلك الأقسام من فلسطين، التي أقيمت عليها دولة الاحتلال.
وفي آخر الأمر، حولت الأراضي الفلسطينية التي اُستولي عليها وفقاً لهذا القانون بعد العام 1948 من الوصي، إلى سلطة التطوير الإسرائيلية، أو الصندوق الوطني اليهودي، واستخدمت لتوطين اليهود فقط.
كيف يرى راسم عبيدات المستقبل المنظور للقضية الفلسطينية؟
في اعتقادي، القادم بالنسبة للقضية الفلسطينية التي كان بعض العرب من دول النظام الرسمي العربي المنهار يتحضر لـ”تأبينها”، والعمل على شرعنة علاقاته التطبيعية مع دولة الاحتلال، وجدنا بأن القضية الفلسطينية، باتت على رأس الاهتمامات والأجندات العربية والإسلامية والإقليمية والدولية من بعد معركة السابع من أكتوبر 2023، تلك المعركة التي شكلت محطة مفصلية في النضال الوطني الفلسطيني والعربي، هذه المعركة لم تكن فقط مفاجئة لـ”إسرائيل” وكل أجهزتها الأمنية والاستخبارية، ومثلت اختراقا غير مسبوق لكل أجهزتها وتحصيناتها العسكرية والتقنية والتكنولوجية وكل أجهزة رصدها المتطورة من كاميرات ورادرات وأقمار صناعية وغيرها، وبالقدر الذي كانت مفاجئة لدولة الاحتلال، كانت مفاجئة لنا كشعب فلسطيني، حيث أنها قالت من حيث توقيتها، ومن دقة تخطيط وإعداد وتعمية وتمويه وسرية، بأن جيش الاحتلال الذي لا يقهر، يمكن قهره وتحقيق الانتصار عليه، ولولا الجسر الجوي والبحري من الأسلحة الأمريكية المتطورة بمختلف أنواعها لما استطاع هذا الجيش الصمود أكثر من ثلاثة أيام بلغة قادة الاحتلال.. هذه معركة قالت بأن المشروع الصهيوني على أرض فلسطين في مرحلة العد العكسي، فلم يعد هذا المشروع بالمشروع الرابح على أرض فلسطين، ولا بالمغري لليهود بالهجرة إلى فلسطين كأرض لبن وعسل وأمن واستثمار واستقرار، بل باتت الهجرة العكسية من فلسطين إلى خارجها أكبر بكثير من الهجرة الوافدة إليها، ومنذ بداية السابع من أكتوبر 2023 هاجر من “إسرائيل” مليون يهودي، 40% منهم يفكرون بالهجرة بشكل نهائي… وكذلك هذه المعركة رغم كل الثمن الباهظ الذي دفعه شعبنا الفلسطيني أكثر من 140 ألف شهيد وجريح ومفقود، ولكن باتت فلسطين وقطاع غزة، واحدة من معادلات المنطقة، وربما تكون البوابة لولوج النظام العالمي الجديد، عالم التعددية القطبية الأكثر عدلاً وإنسانية… هي حرب عرّت وكشفت زيف دولة الاحتلال، التي كان يتغنى قادتها والغرب الاستعماري وأمريكا المجرمة، بأنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في صحراء الديكتاتوريات العربية والإسلامية، وبانت تلك الدولة على حقيقتها كدولة عنصرية قائمة على الإبادة والطرد والتهجير ونفي الأخر.. وتعرضت لعزلة دولية سياسية واقتصادية ومقاطعة وصلت حدّ رفض العديد من الدول تصدير السلاح إليها، ورفعت على جيشها قضايا أمام المحكمة الدولية بتهم ارتكاب جرائم إبادة جماعية، واقتربت محكمة الجنايات الدولية من إصدار مذكرات اعتقال بحق قادتها بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، مذكرات اعتقال بحق رئيس وزرائها نتنياهو ووزير حربه غالانت… نعم معركة السابع من أكتوبر تقول بأن دولة الاحتلال، تتعمق أزماتها والصراعات فيها وجيشها آخذ في التفكك، أزمات سياسية وعسكرية وأمنية واقتصادية واجتماعية ونفسية… هي دولة باتت مهددة بالتآكل والانهيار من داخلها… وهي أيضاً قالت بأن الشعب الفلسطيني ومقاومته بفعل مقاومته الأسطورية والصمود الإعجازي لحاضنة المقاومة الشعبية، والدور الكبير الذي لعبته جبهات الإسناد في دعم الشعب والمقاومة الفلسطينية، بات يقترب أكثر من تحقيق أهدافه في الحرية والاستقلال، وإقامة دولته المستقلة على ترابه الوطني وعاصمتها القدس وعودة لاجئيه الذين طردوا وشرّدوا من ديارهم وأرضهم.