بقلم عمار عمروسية
أكّدت وقائع كثيرة منذ وصول “قيس سعيد” قصر “قرطاج” وبالأخصّ بعد لحظة استفراده بجميع مقاليد الحكم إثر انقلاب 25 جويلية 2021 تسارع وتائر التقهقر الشامل لمختلف مجالات الحياة ببلادنا.
فخطّ السّير الواقعي تحت سطوة النظام الشعبوي في المجال السياسي والاقتصادي وبطبيعة الحال الاجتماعي والثقافي لم تكن وجهته سوى النكوص والارتداد نحو الوراء بما يخالف جوهريا سردية الديكتاتور وجوقته القائمة على التّرديد الببّغائي الكاذب لمقولة القطع مع الماضي.
فخارطة الطريق التّي أفصح عنها الحاكم بأمره لم تكن سوى خطوات متسارعة لإعادة البلاد نحو مرّبعات الاستبداد الغاشم والتّدمير العميق والممنهج للاقتصاد و مؤسّسات الحكم والدولة عموما، الأمر الذي أثمر من جهة انهيارا مريعا لكلّ المرافق العمومية التّي حوّلت حياة جلّ التونسيات والتونسيين إلى جحيم حقيقي غير مسبوق، ومن جهة أخرى انغلاقا سياسيّا تجاوز في بعض جوانبه حتّى أحلك فترات عشريات الجمر مع “بورقيبة” و”بن علي”.
يردّد الديكتاتور وجوقته بمناسبة وغيرها شعارات ديماغوجية خادعة حول السيادة الوطنية وحرب التحرير!!! ويرفعون الأصوات مع كلّ خطوة جديدة نحو تركيز أسس نظام الحكم الفردي الفاشستي بمزاعم العلوّ الشاهق المحكوم بمبدإ “لا رجوع إلى الوراء”!!!
ينحت الديكتاتور خطابا موغلا في الخداع الشعبوي ومفعما بأشدّ أنماط مضامين الانحطاط الفكري والاحتيال السياسي المتخفّي وراء اختلاق الأعداء الوهميّين والتّشغيل المستمرّ لأسطوانة المؤامرات والمتآمرين لتبرير سطوة الأجهزة الصلبة وملاحقها على الفضاء العامّ.
مثلما أسلف لا وجهة لسير بلادنا مع الحكم الشعبوي غير الخلف والوراء الذي صفّى تقريبا كلّ مكتسبات الثورة وعلى الأخصّ في جوانبها السياسية والحقوقية. فكلّ الأجسام الوسيطة (أحزاب، منظمات، جمعيات، إعلام…) مستهدفة بصواريخ “قيس سعيد” وجميعها وفق حسابات الأخير أهداف للتشويه والحصار في انتظار محوها أو تدجينها بما يسمح لإزالة كلّ العوائق أمام إعادة بناء الدولة المارقة عن كلّ الضوابط القيمية والقانونية والدستورية لما يعرف حتّى من الزوايا الشكلية لدولة الحقّ والقانون.
لقد أعاد “سعيد” البلاد من الناحية الدستورية والسياسية إلى ما قبل النظام الجمهوري، فدستوره الذي وقع إقراره في مهزلة استفتاءٍ لم تتجاوز نسبة المشاركة فيه 30.5% قوّض نهائيا الأسس الأوّلية للجمهورية حتّى بمعانيها البورجوازية، ذلك أنّ كلّ السلطات تمّ إلغاؤها واستبدالها بوظائف تمّ إخضاعها بالتّمام والكمال لسلطة الموظف الأكبر، ونقصد الرئيس.
فالأخير هو رأس النظام السياسي في جميع مستوياته، فهو كبير المشرّعين، وهو قاضي القضاة، وهو الماسك بكلّ الجهاز التنفيذي من فوق إلى تحت.
فالكلّ في نظام حكمه لا شيء، وفي أحسن الأحوال أدوات تنفيذ منزوعة الإرادة ومسلوبة من أبسط هوامش التصرّف والتّعديل.
الجميع، من رئيس الوزراء حتّى العمدة، بيادق يختارهم وفق هواه ومزاجه ويعزلهم متى خطر له.
يدخلهم إلى رقعة الشّطرنج ويحرّكهم وفق أجندته السياسية ويخرجهم من أبواب ضيّقة، أمامهم ازدراء شعبهم وفوقهم سكاكين وليّ نعمتهم.
تتهاوى البلاد نحو القاع وتدخل نفقا مظلما تزايد سواده بمناسبة البيعة الانتخابية التّي أجبرت الديكتاتور على لعب جميع أوراقه بما فيها الأكثر انحطاطا وسقوطا. فكلّ الوسائل بما فيها الاستقواء بالأجهزة الصّلبة وتوظيف القضاء وجميع مقدّرات الدولة في خدمة إنجاح تلك البيعة ضمن مشهد عبثي جمع بين ما هو سياسي ودستوري-قانوني وقيمي-أخلاقي.
تقتات الشعبوية السائدة من ترويج الأوهام بالرّفاه القادم ومن معارك وهمية طورا ضدّ المافيات واللوبيات وحينا آخر ضدّ القوى الخارجية وأعوانها وبالتّوازي مع ذلك تواصل الشعبوية تنفيذ نفس الخيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية القديمة التّي ثار ضدّها شعب تونس أيّام 17 ديسمبر / 14 جانفي.
فالحريّة التّي افتكها الشعب الثائر عاود نظام “سعيّد” مصادرتها من خلال ترسانة قوانين قمعية أشدّها فتكا هو دون شكّ من منجزات المنقلب.
فالمرسوم 54 سيّء الصّيت هو السّلاح الأقوى للتّنكيل بأصحاب الفكر الحرّ والناقد من نشطاء سياسيين وإعلاميين ومثقفين ومبدعين ونقابيين وجمهور الشباب المتمرد. فالسجون فتحت أبوابها لجلّ العائلات السياسية والفكرية ولمختلف أنواع الناقدين والنشطاء دون النّظر إلى أعمارهم أو أجناسهم.
ترسانة القوانين القمعية طالت القضاة بهدف الانتقام والتّطويع وشملت الكادر الإداري.
نزلاء سجون الشعبوية يتزايدون بتهم ملفقة بطرق بدائية ومفضوحة زيادة على قابلية تلك السجون لاحتواء كلّ الوافدين مهما كانت مواقعهم الطبقية ومواقفهم السياسية.
تُطبق الديكتاتورية قبضتها الغليظة على المجتمع وتسحق تقريبا الجميع تحت سطوتها إمّا بالتّنكيل الهمجي أو من خلال إشاعة الخوف والرّعب بهدف أوحد لا يتجاوز المحافظة على مقاليد الحكم.
لقد أعاد “قيس سعيد” الأقفاص وشرع منذ مدّة في مطاردة عشوائية لإعادة “العصافير” هناك، وليس مستبعدا في هذه الأيام أو بعد انتهاء المهزلة الرئاسية أن تزداد مطاردته لخصومه ومنتقديه.
لقد أثبتت وقائع حكمه في الأعوام القليلة أنّ لا أمان معه فلا صديق له ولا نصوح إليه، فصدر الرئيس أضيق من أن يحتمل حتّى مجردّ كلمة واحدة أو رأي مختلف.
أفظع من ذلك فالرئيس له منطق مغاير للجميع وشاذّ عن المألوف.
لم يجد هو نفسه حرجا في التباهي به عندما قال “أنا من كوكب آخر” وأضاف في الأيام القليلة الماضية كلاما يفيد ما معناه انّه غريب في مجتمعه (كصالح في ثمود).
لقد أخرج “قيس سعيد” النظام السياسي ببلادنا من القاموس المتعارف عليه للجمهورية ونقلها واقعيا إلى ما قبل دولة الحزب الواحد في أتعس الحقب البورقيبية (بعد المحاولة الانقلابية في 1962) وأخرجها ثانيا من حقبة الحزب المهيمن وأحزاب الديكور (زمن بن علي) وثالثا من الطفرة التعددية بعد الثورة.
لقد ارتدّ بالبلاد إلى الوراء إلى ما قبل الحداثة ووضع لبنات قويّة لدعائم الدولة اللعبة التّي يديرها الفرد الواحد وفق خليط فكري رثّ قائم على الخداع والتضليل والإيهام بوجوده فوق الطبقات الاجتماعية وحساباتها المتناقضة والمتنافرة.