الرئيسية / صوت الوطن / في الهروب إلى الأمام
في الهروب إلى الأمام

في الهروب إلى الأمام

بقلم الناصر بن رمضان

تواصل سلطة الحاكم بأمره هذه الأيام التخبط في الأخطاء وارتكاب الخبطات العشواء الواحدة تلوى الأخرى. فالتحوير الوزاري الأخير عوض أن يكون بعد الانتخابات لضبط خطة حكومية تنموية جديدة نراه يسبق الانتخابات، تحويرا شكليا بلا أفق ودون تغيير يذكر في منوال التنمية الفاشل على جميع الواجهات بل تحوير وظيفي موجّه أساسا لفرض انتخابات صورية مهزلة خالية من كل رهان تنموي، انتخابات عمدت بمراسيم الإقصاء والتضييق وسُيّجت بالأسلاك الشائكة من القرجاني إلى المرناقية. انتخابات أدخلت الشعب في أعلى درجات التوتر والتشنج وشابتها كل أنواع الانتهاكات القانونية والإدارية فأضحت عنوانا للتندّر والتهكم من قبل المتابعين لأطوارها بين المحاكم ودوس هيئة الانتخابات غير المستقلة على قرارات آخر حصن للتونسيين في القضاء المستقل المتمثل في المحكمة الإدارية وجاءت نتائج هذا النزاع مخيبة لا لآمال المترشحين وأنصارهم فحسب، بل لعموم الشعب التونسي الذي فقد آخر ذرات المصداقية في دولة الفوضى والفشل ونفض يديه من الشأن العام دون رجعة. وهنا تكمن الخطورة القصوى لهذا العبث والاعتباطية إذ من سيقنع الشعب بالاهتمام بالشأن العام؟ ولمن ستتوجه الأحزاب السياسية بعد هذا الجنون؟ وأي مستقبل لوطن جريح وشعب تداس كرامته وتمرغ إرادته في الوحل؟ وعوض مواجهة الصعوبات والتعقيدات وكل تمظهرات الأزمة، نرى سلطة ملك الملوك تُصرّ إصرارا غير مسبوق على عدم الاعتراف بالعجز والفشل بل تتمادى في الهروب إلى الأمام تزرع الوهم بالنجاح وتوزع الأمنيات، تحارب طواحين الريح وتتغنى بأكذوبة التحرر الوطني لشعب غارق في المديونية ويأكل من وراء البحار.
لقد نجحت الشعبوية أيّما نجاح في تتفيه الشأن السياسي وتهميش النخب والقضاء على الوسائط الاجتماعية وأجهزة الرقابة والدوس حتى على المراسيم والدساتير التي وضعتها بنفسها لنفسها.
من جهة أخرى ودائما في إطار التخبط العشوائي والهروب إلى الأمام، وفي الضفة النقابية المقابلة نرى البيروقراطية النقابية تتبع نفس أسلوب السلطة الشعبوية الحاكمة إذ تسير بخطى حثيثة في نفس الزنقة الحادة، وعوض المعالجة العميقة للأزمة الداخلية المستفحلة نراها تهرب إلى الأمام، وتتلهى بالتطاوس على مجموعة من النقابيين المعارضين الذين وإن أخطؤوا في شكل وطريقة الاحتجاج فانهم من حيث المضمون يظل احتجاجهم مشروعا ويشهد تاريخ البعض من رموزهم بنضاليته وقد تحملوا مسؤوليات وطنية متقدمة وقدموا للاتحاد دون تبخيس أو إجحاف ولا يحق للبيروقراطية رميهم بشتى أنواع النعوت الممجوجة القديمة.
كان على البيروقراطية النقابية أن تفتح النقاش مع هذه التعبيرة من تعبيرات المعارضة النقابية لكنها خلقت زوبعة في فنجان وعملت جاهدة على الالتفاف على مطالب النقابيين المشروعة في النهوض بمنظمتهم وإخراجها من عنق الزجاجة من خلال عملية جراحية عميقة في النقد والنقد الذاتي، عملية تستأصل الورم البيروقراطي والفساد الإداري والمالي الذي استفحل ولم يعد يحتمل التأجيل. لذلك يحق لكل تعبيرات المعارضة النقابية أن ترفض ترحيل الأزمة لمؤتمر 2027 القادم وترفض الحلول المغشوشة المتمثلة في لملمة شقوق البيروقراطية والتوصل لتفاهمات مشبوهة على حساب القواعد النقابية العريضة التي آن الأوان لتشريكها بكل حرية ودون وصاية كي تقول كلمتها الفصل في مؤتمر وطني استثنائي مكافح، ذي مضمون فعلي يقنن التداول الديمقراطي على المسؤولية في جميع مستوياتها، مؤتمر لاتحاد مستقل يقارع السلطة دون تبعية، يفاوض من موقع القوة، ينتصر للحق النقابي والدفاع عن المقدرة الشرائية المهترئة وينتصر للحرية والديمقراطية ويقول في الوضوح ودون مواربة: لا للاستبداد والحكم الفردي المطلق، لا لبيع المؤسسات العمومية، لا للخيارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الفاشلة، نعم للسيادة الوطنية الفعلية، نعم لاتحاد حر ديمقراطي مستقل ومناضل.
لكل هذا وذاك لم يعد ممكنا مواصلة سياسة الهروب إلى الأمام سواء في المجال السياسي أو في المجال النقابي، وما على النشطاء السياسيين والنقابيين إلا ممارسة أقصى درجات الضغط الجماهيري الواسع لحمل سلط القرار السياسي والنقابي على مواجهة الأزمة الخانقة التي تتخبط فيها البلاد.
ما لم يحصل ذلك سيكون الجميع على موعد مع انفجار سياسي واجتماعي سيأتي على الأخضر واليابس وبطبيعة الحال فإن القوى التقدمية والديمقراطية سوف تتحسب لهذا الخيار وتستعد له أحسن استعداد لأنه بات هو الأنسب من وجهة نظر المصلحة التاريخية العامة للجماهير الشعبية المستغلة والمضطهدة حتى النخاع. ومعلوم أن دوام الحال من المحال وان البرجوازية العميلة الكمبرادورية تحفر قبرها بيدها وتدفع يوميا الطبقات الشعبية إلى الثورة.
سوسة، في 3 سبتمبر 2024

إلى الأعلى
×