بقلم علي الجلولي
هزّت رسالة الأسيرة الفلسطينية خالدة جرار ضمير الأحرار والشرفاء في العالم، وهي صيحة من صيحات المعيش اليومي للفلسطينيين في غزة والضفة والقدس. لقد لخصت خالدة معاناة كل شعب فلسطين بقولها إني لا أستطيع أن أتنفس وهي التي حشرت منذ أشهر في زنزانة انفرادية لا تزيد مساحتها على بضعة أمتار مربعة وهي مغلقة بالكامل عدى فتحة صغيرة مخصصة لمدها ببعض الأكل وببعض الماء من حين لآخر، هذه الفتحة يتسلل منها بعض الهواء يساهم في تركها حيّة لذلك فهي تقترب أكثر ما أمكن من هذه الفتحة تمسكا بالحياة.
جاءت رسالة خالدة جرار في ذروة العدوان وحرب الإبادة على الشعب الفلسطيني، وفي ذروة تسرب المعطيات الفظيعة عن الاعتداءات الجنسية على الأسرى والأسيرات والتي بلغت درجة عالية في الوحشية فاقت ما نظمته النازية في معتقلات الغاز، فالجندي الصهيوني يتلهّى بإدخال صمبور الماء إلى دبر المعتقل وفتح الحنفية على أقصى قوتها في الوقت الذي يكون المعتقل مقيدا من كافة قوائمه، كما أكدت تقارير متطابقة الاعتداءات الجنسية على أسيرات وقعت بعضهن في الحمل. ويأتي كل ذلك بعد أن تابع العالم على الأثير صور مآت الغزّاويّين شيبا وشبابا وهم مصطفون شبه عراة في عزّ الشتاء قبل أن تنقلهم الشاحنات إلى الأسر والاعتقال.
وضعية الأسرى أو الوجه الحقيقي للصهيونية
يعيش في هذه اللحظة حوالي عشرة آلاف أسير منهم قرابة 300 أسيرة أوضاعا لا تقل بؤسا عما يعيشه أهاليهم في كل أماكن تواجد الشعب الفلسطيني. ولئن اتجهت التشريعات والقوانين والأعراف منذ غابر الزمان إلى إيجاد قواعد قانونية/أخلاقية دنيا للتعامل مع أسرى الحروب بما يحفظ كرامتهم وصحتهم وشرفهم. وان كان للحروب منطقها وخاصة منها الحروب اللصوصية والاستعمارية التي تهدف إلى السيطرة والهيمنة وهو ما أكده التاريخ القديم والحديث، فان المبادئ والقيم الإنسانية ظلت تقاوم وتعمل على انتزاع مساحات مضيئة في ظل وحشية مدبري الحروب وجنرالاتها. ولئن تمكنت الحركة الحقوقية الإنسانية من تحقيق مكاسب إلا أن الامبريالية لها قيمها الخاصة ولا أدل على ذلك ما دونته ذاكرة الشعوب التي تعرضت للاستعمار من فضائع يهتز لها الضمير البشري، وهي فضائع مورست في كل البلدان وعلى كل الشعوب المضطهدة من قبل كل الاستعماريين دون استثناء. لقد كانت شعوب إفريقيا وأمريكا الجنوبية وآسيا “فئران مخابر” لتجريب العقاقير والأدوية والأسلحة، وفي المقدمة من ذلك كان السجناء والأسرى، ولم تكن “غرف الغاز” النازية إلا نموذجا على حجم الوحشية الرأسمالية. وها هي غرف القتل الصهيونية تنافس ما ادعت أنها تناهضه، لكن الحقيقة واضحة وهي أن الصهيونية والنازية ليسا إلا اسما واحد لمسمّى واحد هو الوحشية والبربرية التي فشلت المساحيق الامبريالية في إخفائها. فكل الفظاعات التي تحدث اليوم هي بإسناد غير مشروط من قبل الامبريالية العالمية وعلى رأسها الامبريالية الأمريكية والغربية التي تمد السلاح والعتاد وكل أشكال المساعدات المادية، كما تدافع عن كل ما تقوم به آلة التدمير الصهيونية في ساحات المعارك، وأيضا في المعتقلات والسجون الصهيونية التي يعتبر روادها إرهابيين من الصنف الخطير لذلك يتعرضون إلى أفظع أشكال الامتهان.
خالدة جرّار اسم آخر لفلسطين
الرفيقة خالدة قضت نصيبا من عمرها في الاعتقال أين تعرضت للتعذيب وكل أشكال الاضطهاد وأشدها على النفس وفاة ابنتها الشابة سها وهي في ربيع العمر بنوبة قلبية. عرفت خالدة بجرأتها وثباتها وتصديها الصارم لمحمود عباس سواء من كرسي المجلس التشريعي أو من أطر منظمة التحرير، لذلك اكتسبت خالدة جرار عن جدارة صفة المرأة الفلسطينية المناضلة والشرسة، والأكيد أن استهدافها اليوم هو استهداف لهذه القيم ولهذه الرمزيات في إطار العمل اليائس على تركيع الشعب الفلسطيني وكسر إرادته. لكن الاحتلال يعرف قبل غيره أن هذا الشعب لن ينهدّ وأن أسرى الحرية ومنهم خالدة جرار ظلوا طيلة عقود جزءا أصيلا من الحركة الوطنية الفلسطينية، ولعبوا أكثر من مرة أدوارا قيادية لا في التماسك وتحدي الجلاد وتلقينه الدرس تلو الدرس، بل أيضا في تعديل بوصلة الحركة الوطنية بمكوناتها المختلفة.
إن الحركة الأسيرة تضطلع اليوم بدور مهم في الدفاع عن الهوية الوطنية وعن مصالح الشعب الفلسطيني، وهي تقدم الشهداء يوميا على مذبح الحرية.
خالدة جرار لن تنكسر ولن تموت
إن نداء خالدة جرار الذي يمكن تلخيصه في كلمتين: “دعوني أتنفس”، يفضح كيان الاحتلال ويعري حقيقته البشعة التي اقتنع أغلب العالم بكونها حقيقة نازية. إن خالدة ورفيقاتها ورفاقها مثل كل بنات وأبناء شعبها تقدم اليوم دليلا إضافيا على طينة الشعب الفلسطيني الذي يثبت كل يوم جدارته بالحرية والاستقلال، كما يثبت جلاده جدارته بمزبلة التاريخ مثلما انتهى إليها كل الطغاة والاستعماريين.
إن خالدة جرار قوية وتتنفس من رئة عدالة قضيتها، ولن تموت لقوة إرادتها ولالتفاف الأحرار في العالم حولها وحول القضية الفلسطينية العادلة. إنها أيقونة من أيقونات فلسطين، ورمز من رموزها، وما أكثر رموز فلسطين خاصة من الحرائر اللاتي يصنعن الفجر الجديد، فجر الانتصار رغم آلة الدمار الصهيونية المدعومة من الامبريالية ومن أنظمة العار العربية التي بلغ تواطؤها درجة غير مسبوقة في تاريخ الصراع العربي الصهيوني.
لقد كتبت خالدة جرار حين بلغها نبأ وفاة ابنتها سها « قوية كقوة جبال وطني الحبيب »، وأن مسيرة حياتها النضالية على مختلف الواجهات، ومنها النضال صلب الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، كلها عوامل وأدلة على طينة خاصة من البشر هي طينة الثائرات والثوار.