الرئيسية / صوت النقابة / موقع الاستقلالية من أزمة الاتحاد
موقع الاستقلالية من أزمة الاتحاد

موقع الاستقلالية من أزمة الاتحاد

بقلم الناصر بن رمضان

كنا تعرضنا في عدّة مقالات سابقة للأزمة الداخلية للاتحاد أي الديمقراطية النقابية داخل المنظمة والنضال ضد البيروقراطية، وقد ركّز أغلب النقابيّين على هذا المظهر باعتباره مدار الرّحى في هذه الأزمة المركّبة ومولد العديد من التداعيات المتشابكة والمتداخلة.

وباعتبار العلاقة الجدلية بين عناصر الديمقراطية والاستقلالية والنضالية للمنظمة وشروطها المتكاملة للتطور ولعب أدوارها الداخلية منها والخارجية سوف نركز هذه المرة تحديدا على عنصر استقلالية المنظمة، وما تخصيص هذا العنصر بمقال على حدة إلا تخصيصا إجرائيا بحتا يروم التشريح المستفيض لمظاهره وتجلياته وتداعياته على المنظمة وعلى الشعب والوطن.

  1. شيء من التاريخ:

إن الاستقلالية تختلف عن الاستقلالوية والحياد الطبقي المضرّ بالطبقة العاملة والشعب ولا يفهم منه استقلالية في المطلق بل تحديدا استقلالية المنظمة النقابية عن السلطة الحاكمة وهو لم يطرح اليوم فقط، فتاريخ الاتحاد العام التونسي للشغل هو تاريخ فك الارتباط مع سلطة الحزب الحاكم والصراع من أجل الاستقلالية عن السلطات المتعاقبة، وقد اتّخذ هذا الصراع أشكالا مختلفة؛ من التوتر الشديد إلى التصادم والمواجهة فالمبارزة الميدانية في 26 جانفي 78 ثم 3 جانفي 84 ثم المصالحة فالوفاق والتوافق المؤقت، ثم ليّ الأذرع من جديد وصولا اليوم إلى الرغبة الشعبوية العارمة في التهميش والتخلص من كلّ الأجسام الوسيطة وتحديدا من هذه المنظمة التي تقضّ مضاجعه.

وعموما، وبالرغم من جولات المقاومة والشد والجذب نجحت البرجوازية الكمبرادورية العميلة تاريخيا في ربط المنظمة بعجلة رأس المال والخيارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التابعة للدوائر الاستعمارية، كما نجحت شريحتها الطبقية من القيادات البيروقراطية المتعاقبة في نشر ثقافة الوفاق الطبقي داخل الحركة النقابية وتحويل أعرق منظمة نقابية في الوطن العربي وإفريقيا، من منظمة وطنية راديكالية زمن الاستعمار، إلى منظمة مساهمة تابعة لسلطة رأس المال، ترتكز على جهاز بيروقراطي ضخم يحكم سيطرتها على الطبقة العاملة، وهذه البيروقراطية لا تلعب أدوارا خطيرة في تلطيف الصراع الطبقي فحسب، بل تتدخل بصورة وبأخرى في الحياة السياسية وتصرّ على أن تكون لا قوة ضغط اجتماعي فقط بل لاعبا أساسيا وأحيانا محدّدا في الشأن السياسي، بالرغم من أن دورها ظلّ يتقلص حينا ويتعاظم أحيانا من فترة إلى أخرى خصوصا بعد ثورة 14 جانفي لتوظّفه الحكومات اليمينية ثم تعود به للتدجين وإن استعصى عليها الأمر للتهميش من جديد، وهذا الدور الملتبس في حد ذاته يفقد المنظمة شخصيتها وهويتها ويعيق تطورها الاجتماعي ويخلط الأوراق في الحياة السياسية والاجتماعية ولا يساعد الاتحاد على فهم حدود دوره كمنظمة نقابية وطنية، فيحل السياسي محل النقابي، وتغدو قيادة الاتحاد تبحث على حلول لأزمة النظام أحيانا أخرى بالدعوة للحوار الوطني المزعوم والتوزير والصيانة الميكانيكية للسيستام المتهالك. يحدث هذا الخلط بشكل واضح وتلعب البيروقراطية هذه الأدوار، دون تشريك هياكله القاعدية ولا سلطات القرار، ويؤدي بالتالي إلى قرارات مسقطة لا علاقة لها بمنظمة نقابية جماهيرية تحتضن مكونات نقابية وسياسية متنوعة كما يؤدي إلى التفريط في استقلالية وتقرير مصيرها.

2. في استهداف المنظمة:

غذى هذا السلوك التفريطي التابع واللامبدئي شهية المنظومة الرجعية بأذرعها الثلاثة المختلفة الدستورية والإخوانية والشعبوية التي أدركت بصورة جيدة خصائص الهشاشة والطمع والتذيّل الذي يشقّ الأرستقراطية العمالية فتوصّلت الشعبوية بصورة خاصة إلى زرع أعوانها داخل المنظمة إيمانا منها بأن القلاع “المحصّنة” تؤخذ من الداخل فتجلببت بمحاربة الفساد مستفيدة من ضعف المنظمة وتآكل قاعدتها وسلطتها المعنوية بسبب أخطائها الجسيمة (التوريث، الانقلاب، التجريد فالتقاضي أمام المحاكم…). وبالرغم من أن البيروقراطية النقابية كانت في بداياتها متجانسة حول الموقف من الفصل 20 ثمّ حول الموقف من قيس سعيد وظلت تبارك “لحظة 25 جويلية” لما يزيد عن سنة كاملة وساهمت بذلك في نشر التعمية والضبابية العامة من المنقلب، إلا أن ذلك لم يحصّنها من تسرب الخلاف داخلها فتباينت القراءات داخلها ودبّ التصدع بدءا بتشكل المبادرة الوطنية للحوار مع المنظمات الكبرى في 2022 وصولا إلى المنتدى النقابي في جوان 2024 حيث برز الخلاف من كيفية مواجهة زحف الشعبوية على السطح وصرح أحد أعضاء المكتب التنفيذي “هناك مكاتب تنفيذية وليس مكتب تنفيذي واحد والمواصلة أصبحت مستحيلة” ووصل الأمر بالبعض إلى مقاطعة الجلسات والتغيب لما يزيد عن عامين، وبالرغم من أن تحرك 2 مارس 2023 حقق نجاحا نسبيا في التحشيد وفي المضمون التصعيدي لخطاب الأمين العام الطبوبي، إلا أن هذا الأخير لم يسلم من شنّ الهجوم عليه من الداخل أي من الشق المهادن لقيس سعيد الذي لا يمانع في أن يكون الاتحاد منخرطا في المساندة النقدية ومتماهيا مع السلطة ومسألة الاستقلالية غير مطروحة في أذهانهم والحال أنهم يعلمون علم اليقين الدور التخريبي الواعي “للوزير النقابي” السابق وأتباعه ويعايشون يوميا التهميش في المفاوضات وسحب التفرغات والرخص النقابية والتهديد بإلغاء الاقتطاع الآلي وتفعيل التعددية النقابية، والالتفاف على الاتفاقيات الممضاة، والزيادة في السميق وللمتقاعدين وتعديل مجلة الشغل من جانب واحد، وضرب صورة الاتحاد لدى الرأي العام الداخلي والخارجي بطرد القيادات النقابية الدولية المساندة للاتحاد وتسويق صورة الاتحاد على أنه المتسبب في الأزمة الاقتصادية وتدهور في الإنتاج وتراجع الاستثمار نتيجة تصاعد وتيرة الإضرابات. وتزامنت هذه الهجومات المكثفة من قبل سلطة الاستبداد مع حملة إعلامية واسعة النطاق في الفضاء الافتراضي فنشطت مئات الصفحات الوهمية للذباب الأزرق وسوقت لفكرة “اتحاد الخراب” الذي يجب ترذيله وتهرئته وإنهاكه استعدادا للانقضاض عليه.

لم تقف الهجمة الشرسة على الاتحاد عند هذا الحد بل عمدت ديكتاتورية قيس سعيد إلى ضرب المنظمة من الداخل بالنفاذ لطيف من النقابيين المتهافتين لشراء ذممهم وكسب قيادات وطنية وجهوية وقطاعية وصولية وانتهازية متزلفة استثمرت في ملف ما يسمّى العشرية السوداء واتخذت من الانقلاب البونابرتي مطيّة للتموقع النقابي والسياسي تحت يافطة حملة “تنظيف البلاد” بل تسللت حتى إلى المعارضة النقابية التي تشتت شملها هي الأخرى وانقسمت على قاعدة الموقف من الانقلاب فتحررت البيروقراطية النقابية من النقد والضغط وتمكنت تحت قضاء التعليمات من كسب القضايا العدلية المنشورة ضدها، لكنها ظلت تعيش تحت سيف الابتزاز بتحريك ملفات الفساد وسوء التصرف كلما عنّ لها رفع النبرة الاحتجاجية وتعلية السقف الخطابي. إن حملة “تنظيف البلاد” المزعومة قد انطلت على جزء هام من النقابيين التريديونيين الفاقدين للتكوين النقابي والمعارضين لعلاقة النقابي بالسياسي والقادمين من تحت ركام الخراب والدمار البيروقراطي إذ لم يتفطنوا إلى أنها في الواقع حملة القمع الاعتباطي للمعارضة الديمقراطية وتصحير البلاد بالمحاكمات الصورية للصحافيين والنقابيين والمدونين وتحجيم الأجسام الوسيطة والتخلص من دور المنظمات وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل حتى يستتب له الوضع وينفّذ برنامج الخراب الحقيقي المرتبط بالدوائر الاستعمارية وصناديق النقد النهابة المترجم في غلق باب الانتدابات وتفشي البطالة والتهاب الأسعار وتدهور المقدرة الشرائية وتطوّر المديونية ودفع البلاد إلى الإفلاس.

أمام شراسة هذا الهجوم على الحقوق والحريات وعلى قوت الشغالين لم تتصرف البيروقراطية النقابية بحكمة ما يقتضيه الهجوم من تنظيم مبكّر للمواجهة وظلّت منقسمة على نفسها وواصلت في نفس الأسلوب الموروث للمركزة المشطة للقرار وتهميش دور القواعد ودور الهياكل التّسييريّة قطاعيا وجهويا بل أمعنت في تخريب المؤتمرات والتلاعب بالنيابات وتركيز الأتباع وتصفية الخصوم لتعديل موازين القوى بين شقوقها المتصارعة على سدّة الحكم النقابي الذي تجلى على أفضل صورة في الهيئة الإدارية الفاشلة والمجلس الوطني الأكثر فشلا.

3. في راهنية مسألة الاستقلالية اليوم:

إن مسألة استقلالية المنظمة عن السلطة البرجوازية الحاكمة أيّا كان شكلها ديمقراطية ليبرالية أم ديكتاتورية شعبوية دينية أو مدنية هي حجر الزاوية اليوم بالذات في رسم توجهاتها والحكم لها أو عليها ولا يمكن النظر إليها إلا من زاوية الانتصار لاستقلالية المنظمات الديمقراطية وكل الأجسام الوسيطة عن السلطة حتى تلعب هذه المنظمة العريقة دورها التعديلي المناط بعهدتها، وهذه الاستقلالية في ظل هجوم السلطة على الاتحاد هي صمام الأمان لتطورها وبناء علاقة سليمة وشفافة مع منظوريها إذ تمنحها حريتها في تقرير مصيرها بنفسها دون وصاية أو تبعية، وهي مصدر مصداقيتها وقوة إشعاعها واستعادة صورتها التي اهتزت في السنوات الأخيرة في المجتمع، وقد أثبت تاريخ المنظمات أنها كلّما تمسكت المنظمة بصرامة باستقلاليتها تجاه منظومات الحكم المتعاقبة كلّما كبرت صورتها في أعين النقابيين والمتابعين للشأن العام واتّسع إشعاعها وتوسّعت جماهيريتها وتعمّق خطها النضالي ورؤيتها الندية للتفاوض الاجتماعي وسهل عليها معالجة خلافاتها الداخلية، وهو ما لم تعيه أيّ قيادة مستقبلية للمنظمة الشغيلة، وما الصراع بين شقوق البيروقراطية النقابية أو بينها وبين القواعد العريضة اليوم إلا وجه من الأوجه البارزة في الأزمة المستعصية للمنظمة، وليعي النقابيون أن نضالهم من أجل الحرية والديمقراطية يمرّ حتما عبر تمسّكهم المستميت بالنضال من أجل استقلاليتها عن الحكم الاستبدادي لقيس سعيد والوقوف أمام إلغائه للجمعيات والإعلام والقضاء والهيئات الدستورية الرقابية والتعديلية وتهميشه للأحزاب السياسية ولتعي البيروقراطية النقابية أيضا أنها ما كانت لتصل إلى هذا المستنقع والانحدار لو أولت مسألة الاستقلالية المكانة المحورية التي تستحقها وحصنت المنظمة من التصدع والانقسام الذي يخيف الجميع، ومن هنا تأتي النظرة للمؤتمر الاستثنائي القادم: هل سيكون مؤتمرا لتغيير قطع الشطرنج تغييرا ميكانيكيا شكليا همّه إزاحة شقّ لآخر أم مؤتمر حرّ ديمقراطي يعيد للمنظمة استقلاليتها ويقطع مع تبعيتها لسلطة رأس المال والأعراف ويرسم خيارات نقابية وسياسية نقيضة وينتصر قولا وفعلا للحركة الديمقراطية والتقدمية أي للشعب والوطن.

4. خاتمة:

إن الربط الجدلي بين ثالوث الشعارات “الديمقراطية والاستقلالية والنضالية” يظلّ اليوم ذو راهنية قصوى ولا يستقيم الفصل بين هذه الأضلع والمرتكزات كما لا مجال للتغاضي عن أحدها على حساب الآخر، وما كانت المنظمة لتصل إلى هذا التدهور والتهديد بالانقسام الجدّي لو كانت ديمقراطية التسيير والإشراف والهيكلة التنظيمية، وما كانت ليهجرها جزء من أبنائها لو كانت مناضلة ومكافحة منتصرة بعزيمة فولاذية لقضايا الشغالين، وما كان لقيس سعيد أن يتجرّأ على التحرش بها والتخطيط لنسفها لو وُحِّدَتْ في كُلٍّ متماسكٍ بين هذه الشعارات والمرتكزات؛ وهو ما ينبغي أن يتجسّد في المؤتمر الاستثنائي القادم.

الناصر بن رمضان

سوسة، في 9 سبتمبر 2024

إلى الأعلى
×