بقلم علي الجلولي
عاد أكثر من مليوني تلميذ وتلميذة، وأكثر من نصف مليون طالبة وطالب إلى مقاعد الدرس. ولئن اقترنت العودة في الذهنية الشعبية العامة بشحنات الأمل والتفاؤل بحكم ما يحيل إليه العلم والمعرفة من رموز ترتبط جميعها بالتقدم والتحضر، فإن عودة هذا العام، مثل الأعوام السابقة، تحوّلت فعلا إلى كابوس وعبء ثقيل على كاهل مختلف الأطراف من المتعلم ذاته إلى العائلة وصولا إلى إطار التدريس ومختلف الفاعلين والمتدخلين في العملية التربوية. يعود ذلك إلى تراكم كل الأسباب التي حوّلت التمدرس وفضاءه أي المدرسة إلى فعل مهمّش.
عودة مدرسية بتلميذ يقتل زميله في بنعروس
لقد افتتح العام الدراسي الجديد بجريمة قتل أمام معهد طه حسين بمقرين (ولاية بنعروس)، طرفاها تلميذان يافعان، أحدهما قاتل سيقضي ردحا كبيرا من حياته في السجن، والآخر مقتول سيوارى الثرى في عزّ شبابه. وبقطع النظر عن أسباب الشجار بين التلميذين، فان ظاهرة العنف (بما فيه العنف الشديد باستعمال الأدوات الحادة) هي في صعود واستقرت كظاهرة في المؤسسة التربوية سواء باستهداف تلاميذ لبعضهم، أو لاستهداف مكونات أخرى مثل الأساتذة والإداريين، وتدلل الأرقام على حجم الاستفحال وخطورته، والعنف متلازم مع ظواهر رديفة مثل استهلاك وترويج المخدرات والانقطاع المدرسي الذي يمسّ سنويا أكثر من 100 ألف تلميذ/ة، واتساع نطاق الفشل والإخفاق والهدر المدرسي، وهي جميعها انعكاس لما يعتمل في أحشاء المجتمع الذي تستفحل فيه كل مظاهر التأزم والعنف والجريمة متلازمة مع الفقر والحرمان والفاقة كنتيجة حتمية لخيارات الدولة الاقتصادية والاجتماعية التي عززت كل ملامح الخلل بما فيها ضرب دور المدرسة وتهميشها.
الخيارات التربوية الفاشلة لدولة فاشلة
تقريبا لا يختلف عاقلان في بلادنا حول حجم الضرر الحاصل في القطاع التربوي، وقد انخرطت في السنوات الأخيرة الشعبوية الحاكمة في الإقرار بهذه الأزمة وان كانت تتفصّى من نصيبها في المسؤولية. إن الدولة بمنظومات حكمها المتتالية وآخرها منظومة قيس سعيد تتحمل المسؤولية كاملة في التدهور الممنهج للشأن التربوي في بلادنا. فتحت حكم سعيد لازال نصيب وزارة التربية لا يتجاوز 14 % من الميزانية العامة، توجّه 98 % منها إلى أجور إطارات وأعوان الوزارة فيما يبقى نزر قليل (2 %) يوجّه لنفقات التجهيز التي تشمل كل شروط تشغيل المؤسسة التربوية من الطباشير وصولا إلى مصاريف الماء والكهرباء، والنتيجة الحتمية لهذا الحجم من التمويل هو الضعف الرهيب للبنية الأساسية في المؤسسات التربوية التي تآكل أغلبها وأصبح غير صالح للاستعمال، بل أصبح فضاء منفّرا ومقرفا وهو أقرب في بنايته وأثاثه إلى السجون والمعتقلات. وللعلم فان 527 مدرسة غير مرتبطة بشبكة الماء الصالح للشرب، وأن 128 مدرسة بدون مجموعات صحية، وذلك حسب تقرير المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية الصادر في 18 أفريل 2024 بعنوان “تداعيات غياب العدالة البيئية وآثار التغيرات المناخية على باقي الحقوق”.
ولا يطال الخلل البنية الأساسية المادية فقط، بل يطال أيضا وأساسا البنية الأساسية البشرية، فكما هو معلوم فان الدولة قد جمّدت الانتدابات في الوظيفة العمومية والقطاع العام منذ سنة 2022 بتعليمات من صندوق النقد الدولي، ورغم تبجح النظام بشعارات السيادة والاستقلالية، فإن الواقع يفنّد ذلك ووصفات صندوق النقد تطبَّق بكل تفاني، وها هو قطاع التعليم يعاني اليوم نقصا حادا في إطار التدريس تجاوز في التعليم الإعدادي والثانوي 12 ألف مفتتح هذا العام، وذلك دون احتساب من سيتمتعون بالتقاعد طوال العام الجاري وهم يعدّون بالآلاف في مختلف مستويات التعليم. في المقابل من ذلك تواصل الدولة في ظل حكم سعيد استغلال آلاف من النواب في التعليمين الأساسي والثانوي، وهم يعيشون ظروف عمل أقرب إلى نظام السخرة الإقطاعي، وقد حوّل النظام الشعبوي مأساة هؤلاء إلى ملف من ملفات الدعاية في الحملة الانتخابية، والجميع يتذكر خطاب وزيرة التربية السابقة التي تلاعبت بمشاعر النواب وأهانتهم على الأثير مباشرة حين جمّعتهم أمام الوزارة في سهرة استعراض شعبوي انتهى بتنظيم مسيرة لهؤلاء الضحايا من أبناء الشعب الذين يتقاضون أجور بؤس ويعملون أكثر من 20 ساعة أسبوعيا، وهم لا يتلقون تكوينا بيداغوجيا يسهل إنجاز مهماتهم، علما وأن حجم الشغورات فرض في السنوات الأخيرة أن يقوم النواب بتدريس الأقسام النهائية بما فيها البكالوريا وفي مواد أساسية تفترض الخبرة والتجربة والقدرة العلمية. وللعلم فإن عديد المؤسسات التربوية تبقى دون معلمين وأساتذة طوال العام، ولا يطال الأمر الأرياف القصيّة بل حتى مدارس حضرية. علما وأن معضلة الانتدابات تنعكس على أهرام المؤسسات والأقسام التي تعاني الاكتظاظ الذي تعانيه أغلب المؤسسات أين يصل عدد التلاميذ في القسم الواحد أكثر من أربعين تلميذا بما يحوّل عملية التمدرس لدى المعلم والمتعلم إلى عملية شاقة ومرهقة إن لم نقل مستحيلة، خاصة مع غياب وسائل العمل أو تهرّمها.
إن الأوضاع المادية للمؤسسة التربوية تواصل الانحدار والفاعلون التربويون يعون جيدا حقيقة الدعاية السمجة التي تعتمدها السلطة. إن المدرسة العمومية تعيش اليوم أسوأ أوضاعها منذ الخمسينات إلى اليوم. وسيسجل التاريخ أن هذا الوضع شهد الانحدار مع الشعبوية. لقد اضطر الآلاف من الأولياء حتى من الطبقات الشعبية ومحدودة الدخل إلى التوجه إلى التعليم الخاص، ويستقطب هذا القطاع أعدادا متنامية في التعليم العالي أين تضطر بعض العائلات التونسية إلى التضحية القصوى لتدريس أبنائها خاصة في الاختصاصات شبه الطبية والهندسية أملا في شغل أو في فرصة سفر للخارج أصبحت اليوم مشروعا عائليا، فالبلاد برمتها تحولت لدى أوساط واسعة إلى سجن كبير ولا خيار إلا الحرقة والحرقة المقنعة.
هذا وتسفّه المعطيات أكذوبة مجانية التعليم لا بمعلوم الترسيم والوثائق المصاحبة له، بل أيضا وأساسا بحكم الغلاء المشط للوازم المدرسية التي أطلق العنان فيها لمصاصي دماء الشعب كي يراكموا الثروة على حساب الفقراء والبؤساء، فحقيبة تلميذ إضافة إلى الملابس و لمجة الصباح والمساء ومعاليم النقل والنسخ اليومي للدروس والوثائق بعد إلغاء الجزء الأهم من ميزانيات المدارس وتقليص نصيبها الذي أصبح لا يؤمن الشروط الدنيا، لذلك تحوّل أغلب مديري هذه المؤسسات إلى “متسولين” على أعتاب الخواص لتأمين السير اليومي للمؤسسة التربوية.
وآخرها بعث مجلس أعلى للتربية
تزامنت العودة مع انعقاد مجلس وزاري تحت إشراف قيس سعيد وقرر المصادقة على مرسوم بعث المجلس الأعلى للتربية وذلك على خلاف ما نصص عليه دستوره ببعث هذا المجلس وفقا لقانون، وهو ما يعني أن رأس النظام لا يريد تشريك مجلس نوابه في قراره لأنه لا يقبل إمكانية النظر والنقاش وإبداء الرأي فيما يصدر عنه والذي يجب أن يُطبّق على الفور باعتباره منزّلا. أمّا عن مضمون هذا المرسوم الذي اطلع عليه الفاعلون التربويون مثل بقية الناس في وسائل التواصل الاجتماعي، فانه لم “يقنع” حتى أنصار المسار الذين لم يجدوا ما يدافعون به. لقد ورد المرسوم خال من أيّ رؤية ولا تصور ولا صلاحيات للنظر في المنظومة التربوية في أفق تقديم معالجات لإصلاحها. كل ما في المرسوم هو جيش من المعيّنين للنظر وإبداء الرأي فيما يعرض عليهم من الوزارات أو “غرفتي الوظيفة التشريعية” ما له صلة بالشأن التربوي.
إن هذا المجلس لن يكون سوى غرفة صورية مثل البرلمان المكلف ومجلس الأقاليم المعيّن، وسيبقى الشأن التربوي ضحية معالجات شعبوية يدفع فاتورتها أبناء الشعب وبناته الذين فقدوا الثقة في المدرسة التونسية لحساب مؤسسات أخرى تدمّر الوعي وتلغي الشخصية وتصنع بشرا طيعا ومدجّنا.