بقلم بوجمعة الدنداني
هناك حكاية أرويها دائما تقول أن بومدين رئيس الجزائر الأسبق المنقلب حتى لا ننسى وصل في سيارته إلى مفترق طرق سأله السائق إلى أين نتجه سيدي الرئيس فأجابه أشعل ضوء إشارة اليسار ودر إلى اليمين.
في الثمانينيات زارنا في مقر مجلة الباحث الكاتب والباحث السوري المعروف المرحوم الدكتور الطيب تزيني.
من بين ما قاله إن تصورات خصمكم السياسي في تونس واضحة، يقول إنه مع الغرب ومع الفرنكفونية ومع تقسيم فلسطين ومع الرئاسة مدى الحياة الخ فأنت تواجه خصما واضحا لا يخجل من قول ذلك ولا يسرق أفكارك.
أمّا نحن، حافظ الأسد يقول أنا مع تحرير فلسطين من الماء إلى الماء ومع اليسار ومع الاشتراكية ومع الديمقراطية يفتك منك خطابك ويعمل عكسه يتعامل مع الرجعية ويغازل الصهيونية والامبريالية ويتنازل عن الجولان وينسى لواء الإسكندرون ولا نستطيع أن نتهمه بالرجعية.
هذا بالضبط ما نعيشه اليوم مع قيس سعيد افتك خطاب اليسار ودفع بالبلاد إلى أقصى اليمين دون أن يدرك أن الفرق الجوهري بين اليسار والشعبوية هو أن اليسار يمضي بأفكاره إلى الأقصى ويثوّرها ويعوّل على وعي الشعب، الشعبوية تسرق أحلام الشعب تدغدغه بها وتُنوّمه وتستلّ منه إرادته وتتركه حيث هو.
وأشهر ذلك هو القانون المعروف بـ 54: التناقض الصارخ بين خطاب تحرري مؤمن بحقوق الإنسان إلى آخر الأسطوانة التي ترضي الغرب الذي يقول إنه يعاديه، والممارسة التي تلاحق كل تدوينة لا تروق للسلطة والإيقافات بالمئات وهو توجه قمعي.
أبرز ما جاء في المقال الصادر في 26 و28 ماي 2020 (*)
أشرت فيه إلى كتاب بسيكولوجية الجماهير للباحث الفرنسي غوستاف لوبون وكيف أن الجماهير بعاطفتها تبحث عن زعيم وعمّن يدغدغ عاطفتها ممّا يساهم في خلق تعصبها واستبداديتها لأنها تتحول كثيران إسبانيا يعميها اللون فتنساق وراءه دون تمييز أو تفكير.
تعرضت لأفكار القذافي والكتاب الأخضر وخطب وحوارات سعيد فوجدت تطابقا كبيرا.
رفض فكرة الدستور وأنه على المقاس وإمكانية التفكير في إلغائه.
أعلن عداءه للأحزاب من تحزب خان تحدث عن الانتخابات بسلبية ولا نستغرب أن يلغي الانتخاب
هو فوق الجميع لست في سباق مع أحد، إذن هو الملهم
انتقاد للمجالس البلدية وعوضها بمجالس محلية
شعار الشعب يريد صيغة للتخلص من المسؤولية
عداء مستحكم ضد الإعلام
والمتاجرة بقضية فلسطين ضد التطبيع ومع الاعتراف بالشرعية الدولية
رفض الاستعمار وتعيين رئيس حكومة من ذوي الجنسية المزدوجة
العداء للمرأة من خلال رفض المساواة.
علاقات وثيقة مع قطر وتركيا وهو محور إخواني
وختمت المقال بهذا السؤال: من يقف وراء سعيد؟
وذكّر لعله ينفع
لعلكم تذكرون انتخابات 2019 وما حدث لنبيل القروي تم إيقافه في عملية إنزال تاريخية واقتيد إلى السجن بتلك الطريقة الهوليودية وقيل إن جمعية أنا يقظ رفعت ضده قضية بتهمة التهرب الضريبي سنة 2016 فيتولى القضاء معالجتها سنة 2019 سنة الانتخابات.
ألا يذكّركم هذا بما يحدث اليوم من إيقافات منذ أكثر من سنة لخصوم سياسيين تعود قضاياهم إلى سنوات خلت أو قضايا مفتعلة على الأقل لا نعرف التهم ولم تصدر الأحكام لحد الآن رغم مخالفتها للمجلة الجزائية. ما أشبه اليوم بالبارحة.
نواصل
فما كان من المرشح المنافس قيس سعيد في الدور الثاني أن وقف وقفة رجالة وقال لا وألف لا لن أخوض الحملة الانتخابية ومنافسي في السجن وصفق جمهور الملاعب للهدف المسجل في الوقت الضائع.
اليوم بعد خمس سنوات يقوم قيس سعيد بنفسه وضع كل منافسيه في السجن وينطلق في حملة انتخابية سابقة لأوانها وبأموال الدولة.
قال الفيلسوف أعتقد أنه (كانط)، أخلاق الهُنا تختلف عن أخلاق ما وراء جبال البيريني وهذا يعني أخلاق 2019 غير أخلاق 2024 بينهما جبال ربما لا نراها ويراها.
يقول المثل الشعبي “كسكسلو يرجع لاصلو”.
لا رجوع إلى الوراء
الردة هي الرجوع إلى الوراء والتحول عن الشيء إلى غيره، إذن الردة هي الرجوع عن الثورة وما تحقق فيها ومنها أي النكوص، وما قام به سعيد يوم 25 جويلية 2021 هو ارتداد عن أهداف الثورة التي بدأت تتبلور رغم كل الهنات التي تستوجب المراجعة والاستفادة من تجربة عشر سنوات “حرية”.
ماذا فعل سعيد انقلب على الثورة وعلى أهدافها وعادى الحريات الخاصة والعامة وأوقف العمل بالدستور وكتب دستوره وألغى الهايكا وسيطر على الإعلام ودجّنه وتركه لرغباته دون ضابط ورفض تكوين المحكمة الدستورية وخلط السلط بعضها ببعض ونصّب نفسه الحاكم بأمره وظل يردد خطاب التخوين والجعجعة الفارغة واحتكر الوطنية كأن الوطنية قميصا ننزعه متى نشاء ونرتديه متى نشاء وشلّك الأحزاب وحيّد المنظمات والجمعيات والأجسام الوسيطة عموما عملا بقول القذافي من تحزب خان واللجان الثورية والجماهيرية هي الحل ومسح الساحة من كل نفس ديمقراطي وعمل بقولة بوش من ليس معي فهو ضدي وزج بالمعارضة السياسية في السجون.
ورغم ذلك وغير ذلك فإنه لا ينفك يردد في خطبه لست ضد الحرية ولا الديمقراطية واليوم تونس تشهد أكبر مهزلة في الانتخابات الرئاسية لم تحدث حتى زمن بورقيبة ولا بن علي ولا في عهد عليسة. كم عاد بنا إلى الوراء.
إنه النكوص المدوّي.
التسطيح بين الجماهيرية ومعركة التحرر الوطني
الصورة بعد حكم خمس سنوات عجاف هو تدمير كل مقومات الحكم الديمقراطي: البرلمان، الأحزاب، الإعلام الحر، القضاء، المجتمع المدني، المنظمات التعديلية، تفريق السلط وتعويضها ببرلمانات شكلية تحت سلطته ولم يقرر لحد الآن تكوين المحكمة الدستورية فالدولة هي سعيد وسعيد هو الدولة.
القذافي سطح الحياة السياسية في ليبيا وقضى على كل نفس ديمقراطي وإعلام حر وأحزاب وجعل من نفسه الثائر العالمي والرئيس الذي لا يحكم بل يفكر. لهذا بعد رحيله ترك ليبيا في صراعات قبلية دون مؤسسات أو وعي، بها تناحر، تخلف فكري وحزبي وسياسي، غياب كلي للعقلية المدنية، نظام يتأرجح بين القبلي والديني.
بين الجماهيرية والتحرر الوطني تختفي الدكتاتورية وعملية تسطيح ومسح للمجتمع وتدمير كل النتوءات بما تعني من اختلاف والإعلام تابع، وقتل كل إمكانية للرقابة والمحاسبة والنقد.
طبعا القذافي اختفى خلف كلمة هلامية الجماهيرية ليحكم أربعين سنة ويترك ليبيا هباء منثورا ومعركة التحرير الوطني كلمة أيضا فضفاضة لم يقدم صاحبها أي تفسير ولا معنى وسيتولى الرئاسة مدى الحياة إلا إذا رحمنا ربك.
وعلى طريقة القذافي نهج سعيد، الفرق أن سعيد وُجد في مجتمع سياسي حررته ثورة قام بها وأزاح الدكتاتورية واليوم لن يعود إلى الوراء فقد تعلّم الحرية بكل أنواعها وتعلّم مواجهة السلطة مهما طغت ولم تعد السجون تخيف المناضلين ولا الشعب بكل طبقاته.
بين اللغة العربية والفرنكوفونية
سبقه بن علي حتى لا ننسى إلى مخاطبة الشعب باللغة العربية في خطب مكتوبة ولكن سعيد كان يرتجل علامة دراية وثقة بالنفس وقدرة على التعبير، إلا أن هذا لم يصاحبه قرارات لحماية اللغة العربية ففي الإعلام بعد أن كان لا يتجرأ على استعمال الدارجة أصبح في عهد سعيد يستعمل الازدواجية فأصبحت القنوات العامة والخاصة بلا هوية وتلوث لغوي سمعي مقيت.
رفعت قضية ضد الهايكا، التي أنهى وجودها ليستفرد بالإعلام، باعتبارها الجهة التعديلية للإعلام مطالبا بأن يحترم الإعلام اللغة لغة البلاد والعباد. خسرت القضية بعد خمس سنوات من الانتظار. المهم كان يمكن للرئاسة أن تستغل ذلك وتجبر الإعلام على احترام اللغة. سعيد لن يقوم بذلك؟ لماذا؟
يريد أن يكون الفصيح الوحيد حتى يشار إليه بالبنان ويترك التلوث اللغوي يعمّ البلاد وليس مهمّا أن تدمّر العربية المهم أن يظل كصالح في ثمود.
ولا ننسى حرصه الشديد على إقامة القمة الفرنكوفونية في جربة وهي قمة تستنقص من السيادة الوطنية وترسخ التبعية للآخر فعن أيّ سيادة يتحدث وهو الذي انحنى يقبل كتف ماكرون تزلفا وضعفا وخوفا.
مع فلسطين من الماء إلى الماء
هل نسيتم الشعارات التي ظل يرددها بحماسة وقوة التطبيع خيانة وارتفعت الأصوات من المؤيدين للانقلاب معتقدين أنهم أخيرا مسكوا بخيط لتأكيد وطنية الرجل وصدقه ولكنه في أول امتحان جدي تدخل بقوة لإيقاف تمرير قانون يجرّم التطبيع في مجلس هو من أسسه وانتخبه وعيّنه وبهت الذي آمن ولم يبهت الذي كفر بالانقلاب.
القضايا الكبيرة سواء أكانت وطنية أو قومية لا يقوم بأعبائها إلا الرجال الوطنيين الصادقين المؤمنين.
ضد صناديق التداين
وزراء طاروا لمجرد أن عبّروا عن إمكانية وضرورة التعامل مع الصندوق الدولي مناقضين بذلك خطابه الرافض للتداين من هذه الصناديق. الحقيقة أن سعيد يريد أن يكون هو المتحدث الوحيد عن رفض هذه الصناديق ولا يريد من الوزراء أن يتحدثوا عن إمكانية التعامل معها بل عليهم الصمت المطبق.
هو الوحيد المؤذن.
الحل هو التعامل معها دون ضجيج، الخطاب ثوري يساري والممارسة رجعية يمينية ولهذا في آخر إحصائية حصلت تونس على مئات المليارات من القروض.
ضد أوروبا الاستعمارية
ماذا نقول عن الأفارقة الذين تدفقوا إلى تونس من كل الجهات وصمت الدولة وقبولها بالأمر الواقع وماذا نقول عن الاتفاقية مع إيطاليا لمنع تدفق المهاجرين إليها مقابل فتات وتحويل تونس إلى بلد استقبال نيابة عن أوروبا.
هل من دورنا وهل لنا الإمكانيات وهل علينا أن نعوّض أوروبا في القيام بدورها التاريخي تجاه مستعمراتها بعد أن نهبتها وأفقرتها وتونس نفسها عليها أن تطالب بالتعويض لسنوات الاستعمار والنهب والقتل.
لماذا تتحوّل تونس إلى حارس لحدود أوروبا؟
هذا لا تجده في خطب سعيد بل تجد خطابا ناريا ضد الاستعمار وأننا لسنا لا بلد عبور ولا استقرار والحقيقة أننا بلد استقرار وحراس ونقبل بالفتات.
كلمة الختام
طبعا لم أشر إلى المعركة الكبيرة وهي معركة ضد الفساد لأنه لم نر معركة أصلا ولم نستعد الأموال من أيدي رجال الأموال الفاسدين وقد أنشأ لجنة خاصة بذلك لم تجن إلا الفُتات وليس الأرقام المهولة التي ذكرها سعيد وكررها مرارا وتكرارا.
ولم أتعرض إلى برنامجه السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي إذ لا برنامج له والمؤسف وهو طبيعي غياب الثقافة تماما.
أخطر ما في الدكتاتوريات وعقلية الاستبداد هو غياب الحوار. النظام الذكي هو الذي يترك منافذ للنقاش وعبور الأفكار سواء مباشرة أو عن طريق الإعلام والأحزاب والنقابات الخ لكن أن تغلق كل المنافذ وتستبد بالحكمة وهو غير صحيح فهذا يؤدي حتما للإنفجار.
فانتظروا الانفجار.
(*) كنت نشرت مقالا بجريدة الشروق بتاريخ 26 و28 ماي 2020 بعنوان القذافي يكمن في التفاصيل.. محاولة في فهم قيس سعيد.