بقلم سناء بعزاوي
منذ انقلاب 25 جويلية 2021 تعيش البلاد التونسية طورا خطيرا من الالتفاف على مكتسبات الثورة وعلى رأسها حرية التعبير وحرية التنظم، حيث شنّت السلطات منذ ذلك الحين موجات متعاقبة من الاعتقالات استهدفت معارضين سياسيين وصحفيين ومحامين ونشطاء حقوقيين ونقابيين وطالت حتى مواطنين عاديين انتقدوا الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المزرية في ظل حكم الشعبوية.
لم يكن الشباب بمنأى عن مرمى القمع، بغض النظر عن انتماءاتهم، فاعتقل مثلا رشاد طمبورة في 17 جويلية 2023 ويقضي الآن عقوبة بالسجن لسنتين على خلفية رسمه على الجدران منتقدا تصريحات قيس سعيد العنصرية المتعلقة بملف الأفارقة جنوب الصحراء، الملف الذي استغلّه سعيد لتسوّل بعض “اليوروهات” من إيطاليا وإلهاء الرأي العام التونسي عن قضاياه الحقيقية كلما اشتدت الأزمة الاقتصادية وضاق الخناق.
كما اعتقل عديد الشباب الآخرين على خلفية نشاطهم وممارستهم حقهم الكوني في التعبير ورفض الخيارات الاقتصادية والاجتماعية التي فاقمت الأزمة فارتفعت نسب البطالة والانقطاع عن الدراسة والفقر كما ارتفعت نسبة الهجرة قانونية كانت أو غير قانونية (حرقة) كإحدى الظواهر التي تعكس حالة من الإحباط واليأس بسبب قتامة الواقع وضبابية المستقبل. فمثلا الدراسة التي كانت تعتبر سلما اجتماعيا لم تعد كذلك اليوم حيث بلغت نسبة البطالة في صفوف حملة الشهادات العليا 23,4 % خلال الثلاثي الأول من ســنة 2024 حسب المعهد الوطني للإحصاء علما وأن منظومة احتساب المعطلين عن العمل هي منظومة متخلفة تحتسب فقط المسجلين في مكاتب التشغيل وفي صورة عدم التسجيل حضوريا قبل يوم 5 من كل شهر يتم آليا اعتبار أنهم تحصلوا على شغل، وهو ما يجعل نسبة البطالة أعلى بكثير من الأرقام المعلنة.
إن النظام الشعبوي العاجز اليوم بسبب خياراته عن توفير الحد الأدنى من شروط الحياة الكريمة لغالبية الشعب التونسي بل العاجز حتى عن توفير بعض المواد الأساسية، لا خيار أمامه للاستمرار سوى السعي لدكترة البلاد وحكمها بالحديد والنار، وهو ما فضحه خاصة سلوك سعيد في الإعداد للانتخابات الرئاسية المقبلة من تلاعب بالقوانين وتلفيق قضايا لكل منافس محتمل إلى جانب محاولات تدجين الإعلام وإخضاع القضاء واستهداف كل الحقوق والحريات…
ما لا يعيه قيس سعيد أو يحاول تجاهله، هو أن هذا الجيل من الشباب يختلف جذريا عن الأجيال السابقة حيث أنه لم يعاصر فترة الدكتاتورية متى كان النضال مقتصرا على قلة من المنتظمين في أحزاب سياسية حلموا بالحرية ودفعوا الغالي والنفيس في سبيلها من سجون وحرمان من العمل وشتى أنواع المضايقات… هذا الجيل لم يتربى على الخوف وإنما هو جيل ولد في مخاض الثورة التي دفع فيها الشعب التونسي وقواه الحية دماءهم من أجل الشغل والحرية والكرامة الوطنية، وذاق لذة الشعور بالحرية وأبدع أشكالا تتلاءم وعصره للتعبير عن الرأي، وقد فشلت حركة النهضة طيلة فترة حكمها في محاولتها لتركيع الناس ولم تخمد نبض الشارع بل أرغمها الشعب التونسي وقواه الحية وعلى رأسها الشباب الذي كان عماد الاحتجاجات على التراجع في عديد المناسبات منها قانون زجر الاعتداء على الأمنيين وقانون المصالحة… واليوم رغم كل محاولات تسطيح الوعي وزرع الخوف وتدجين الحياة السياسية ومحاولات العودة بالبلاد إلى عهود الاستبداد الغابر مازال هذا الجيل يمارس حقه في التعبير الحر عن رأيه من خلال الكتابة على الجدران والتدوين على مواقع التواصل وأيضا من خلال غناء الراب والمسرح الذي أخضعه سعيد للرقابة وحتى من خلال تشبث جزء منه بحقه في التنظّم في الأحزاب والجمعيات رغم محاولات ضرب كل الأجسام الوسيطة لما تمثله من تهديد للسلطة المطلقة للشعبوية… ورغم كل القوانين القمعية وعلى رأسها المرسوم 54 ورغم الملاحقات والترهيب كان شارع الحبيب بورقيبة يغصّ بالشباب المشارك في التحركين الأخيرين للشبكة التونسية للدفاع عن الحقوق والحريات.
إن الحرية إذن جزء من هوية جيل الشباب الحالي وأحد عناصر شخصيته لا يمكنه التنازل عنها بسهولة تحت أيّ ضغط بل إنه لأكيد أن الشباب لن يتهاون في الدفاع عنها كخطوة للمراكمة من أجل إيجاد واقع جديد تكون فيه الحرية مدخلا لدحر الخيارات الاقتصادية والاجتماعية البالية والتي فقّرت لعقود الشعب التونسي وجوّعته وحكمت على شبابه بالبطالة وإرساء مشروع قائم على العدالة والمساواة، ولعل أهم خطوة في هذا الاتجاه هي إفشال انتخابات 6 أكتوبر المهزلة من خلال المقاطعة النشيطة لا فقط لضرب مشروعيتها المزعومة ومشروعية قيس سعيد الرئيس “الفائز” منذ ما قبل بداية السباق وإنما للمراكمة أيضا في اتجاه إسقاط المنظومة القائمة وبناء ديمقراطية شعبية تضمن كرامة المواطنين وحقوقهم.