بقلم زياد بن عبد الجليل
من ثوابت السياسة القنصلية التونسية التضييق على التونسيين بالخارج وفي أحسن الحالات إهمال شؤونهم. ويبدو أن نظام العلو الشاهق لم يشذ عن هذه السياسة التي وضعها “آباء الدولة الوطنية الحديثة” بل زاد فيها من عنده وأبدع فيها بدعا جديدة.
التونسيون بالخارج من هم؟
بلغ مجموع التونسيين بالخارج (أي حاملي الجنسية التونسية بقطع النظر عن مكان ولادتهم وجنسيتهم الثانية إن وجدت) 1.816.833 تونسيا حسب معطيات ديوان التونسيين بالخارج لسنة 2022، ويتواجد 1.540.183 منهم بأوروبا، ويبلغ عددهم بفرنسا 976.562 تونسيا حسب نفس المصدر.
وبلغ عدد التونسيين المولودين على أرض الوطن والمقيمين “نظاميا” في الخارج حوالي 566.000 سنة 2021 ثلثاهم من الذكور وثلثهم من الإناث، وقد هاجر حوالي نصفهم بعد الثورة وتوجهوا أساسا إلى ثلاث دول أوروبية، حيث تستقبل فرنسا حوالي 52% منهم وتستقبل إيطاليا 14% وتستقبل ألمانيا 8%، حسب تقرير مشترك للمعهد الوطني للإحصاء والمرصد الوطني للهجرة صادر في سنة 2021. كما يذكر التقرير أن 47% ممّن هاجر خلال سنوات ما بعد الثورة هم من ذوي التحصيل الجامعي، وقد تضاعف عدد الإطارات العليا المهاجرة من حوالي 70.000 في بداية الألفية إلى 143.000 في سنة 2016 حسب دراسة للأستاذ عادل بوسنينة صادرة في 2023. ويستعرض التقرير المشترك بين المعهد الوطني للإحصاء والمرصد الوطني للهجرة المذكور أعلاه أسباب الهجرة ويلخص أهمها في: البحث عن العمل أو تحسين الدخل (خاصة للذكور)؛ التحصيل الجامعي: أكثر من 20.000 طالب في 2024، نصفهم في فرنسا، مع تناصف في النسب بين الذكور والإناث؛ التقريب العائلي (خاصة للإناث).
وقد بلغ مجموع المهاجرين التونسيين الذين عبروا الحدود البحرية مع إيطاليا بطريقة غير نظامية منذ 2011 إلى أوت 2024 حوالي 118.000 حسب المرصد التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، مع تصاعد وتيرة عبور الحدود البحرية منذ سنة 2019 إلى حدود سنة 2023.
ورغم استفحال الأزمة الاقتصادية العالمية التي انعكست سلبا على مستوى معيشة التونسيين بالخارج فقد ضخ عموم التونسيين بالخارج حوالي 2.7 مليار دولار من العملة الصعبة في الاقتصاد التونسي في سنة 2023 أي ما يمثل 5.3% من الناتج الداخلي الخام لتلك السنة. وتجدر الإشارة هنا أن قيمة تحويلات التونسيين بالخارج بالدولار تطورت بنسبة 30% بين 2011 و2023. وفي تصريح سابق له، أكّد مدير عام ديوان التونسيين بالخارج، أنّ هذه التحويلات غطت 65% من قيمة الديون الخارجية المُستخلصة سنة 2023، بما يبيّن الدور الاقتصادي المهم الذي يلعبه التونسيون بالخارج.
نظام قيس سعيد وسياسة الهجرة للاتحاد الأوروبي: السيادة في مهب الريح
إن تبعية النظام التونسي هي السمة الأساسية التي تطبع العلاقة بين تونس والاتحاد الأوروبي في مجال سياسات الهجرة. وهو ما تؤكده نصوص المعاهدة المؤطرة للإدارة المشتركة للهجرة والتنمية بين الحكومتين التونسية والفرنسية بتاريخ 28 أفريل 2008 ومعاهدة 3 مارس 2014 بين تونس والاتحاد الأوروبي. ولا يخفى على أحد أن المعاهدة التونسية الفرنسية جاءت لتكرّس سياسة “الهجرة المنتقاة” التي وضعها ساركوزي آنذاك. وهي تقوم على تحقيق هدفين أساسيين: تلبية حاجيات فرنسا من اليد العاملة المختصة في مجالات محدّدة؛ وتكليف بلدان الجنوب بحراسة الحدود.
تعززت التبعية مع تفرد سعيد بالحكم، حيث رضخ لحكومة اليمين الفاشي في إيطاليا وتماهى مع سياسة حكومة ماكرون وغيرهما من الحكومات الأوروبية المعادية للمهاجرين، طمعا في إسناد سياسي واقتصادي خارجي لحكمه. لا يكتفي النظام التونسي بحراسة حدود إيطاليا البحرية، مهملا حراسة حدوده البرية مع ليبيا والجزائر ومحوّلا تونس بذلك إلى مصيدة للمهاجرين العابرين إلى أوروبا، بل يتعاون بكل جد وتفان في تسريع عمليات الترحيل القسري للعديد من المهاجرين التونسيين المقصيين من “حق الإقامة النظامية”، حيث تستجيب القنصليات التونسية لمطالب الحكومات الأوروبية بإعداد وثائق السفر التي تطلبها اللازمة لترحيل التونسيين، متذيلة بذلك إلى الحكومات الأوروبية اليمينية التي نوهت علنا بتعاون النظام التونسي. غالبا ما تجري عمليات الترحيل في ظروف لا إنسانية ودون احترام الإجراءات القانونية من طرف السلطات التنفيذية الأوروبية، كما تجري بعيدا عن الأنظار عبر رحلات خاصة بين مطارت نائية (طبرقة والنفيضة بالنسبة إلى تونس). وبفضل تواطؤ نظام قيس سعيد تسارعت جريمة الترحيل القسري نحو تونس حيث يقدر المرصد التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية ارتفاع أعداد المرحلين من إيطاليا بـ1922 سنة 2020 إلى 2300 سنة 2023.
التونسيون بالخارج مواطنون من درجة ثانية
إن التمثيلية السياسية هي وجه مهمّ من أوجه تمتع التونسيين بالخارج بحقوق المواطنة. وقد تواطأت كل الأنظمة التي حكمت تونس على التنصل من ضمان هذه الحقوق للتونسيين بالخارج. وحتى المجلس الوطني للتونسيين المقيمين بالخارج الذي تمّ إقراره في 2016 لم ير النور رغم طابعه الاستشاري وتحكم السلطة التنفيذية في تعيين أغلب أعضائه. لتقتصر تمثيلية التونسيين في الخارج بعد الثورة في 18 نائبا في البرلمان.
أمّا بعد الانقلاب فقط حطّ سعيد من عدد نواب التونسيين بالخارج إلى 10 نواب، كما شطّط في شروط الترشح ممّا قلّص التمثيلية الفعلية إلى نائبين صعدا إلى غرفة التسجيل دون تنافس انتخابي، وحجّر الترشح إلى رئاسة الجمهورية على مزدوجي الجنسية مهينا بذلك قسما من التونسيين ومجرّحا في وطنيتهم. وحتى بعد سنة من تنصيب غرفة التسجيل بقي الشغور على حاله في 8 دوائر انتخابية وبقيت المسألة تتقاذف بين المؤسسة التمثيلية الصورية وهيئة بوعسكر المنصّبة، ممّا يشي بالاستهتار بتمثيلية المواطنين التونسيين بالخارج وبحقوق المواطنة.
الخدمات القنصلية والاجتماعية: خدمات سيئة وباهظة
لا يختلف تونسيان في الخارج على سوء الخدمات القنصلية شكلا ومضمونا. ورغم الإيهام بإدخال بعض التحسينات الظاهرية (كرقمنة حجز المواعيد في بعض القنصليات)، إلا أن نقص الملاحق القنصلية في الجهات، وصعوبة الحصول على المعلومة وإجبارية القدوم لاستخراج الوثائق وسوء الاستقبال وطول الآجال وغلاء معلوم الخدمات ينفر التونسيين بالخارج من القنصليات، فلا يتوجهون إليها إلا مرغمين مغلوبين على أمرهم. وفي الوقت الذي عرف فيه التونسيون بالخارج صعوبات مادية واجتماعية كبرى جراء استفحال الأزمة الاقتصادية في العالم وجراء الجائحة الصحية، أقدمت حكومة الفخفاخ، والتي كانت في تناغم مع قيس سعيد، على الزيادة في معاليم الخدمات القنصلية بحوالي 300% في ماي 2020. لقد عكست هذه الزيادات طغيان منطق الغنيمة في تعامل الدولة التونسية مع التونسيين بالخارج، فهي تعتبرهم مجرّد مصدر للعملة الصعبة. وقد حاول قيس سعيد ذر الرماد في العيون حين تراجع في بداية 2021 بإقرار تخفيضات هزيلة في معاليم الخدمات القنصلية، مكرّسا الاستهزاء بالتونسيين بالخارج ومرسخا سياسة السطو التي انتهجتها الدولة تجاههم عبر عقود.
أمّا العودة الصيفية فقد تحوّلت إلى جحيم لا يطاق بسبب شطط أسعار التذاكر، حيث يدفع التونسي حوالي 500 يورو كسعر متوسط لاقتناء تذكرة سفر ذهاب وإياب بالطائرة من فرنسا إلى تونس خلال ذروة العودة الصيفية والمواسم الدينية، ويدفع التونسي في قطر حوالي 4700 ريال لاقتناء تذكرة لقضاء العطلة في تونس وهو ما يعتبر مشطا للغاية. إن عدم قيام الناقلة الوطنية بدورها التعديلي في علاقة بالتونسيين بالخارج، يعكس تواصل الخيارات اللاشعبية للسلطة السياسية في تونس. ولم تحرك سلطة الانقلاب ساكنا إثر ارتفاع أسعار التذاكر بنسبة قاربت الـ24% في 2022 مقارنة بـ2019.
إن ما يطبع علاقة الدولة التونسية بمواطنيها في الخارج هو الإهمال والسطو. ولقد بقيت سلطة الانقلاب وفية لهذه السياسة الخرقاء بل تعمل على تعزيزها وتأبيدها امتدادا لسياساتها اللاشعبية داخل الوطن. إن المطلوب من التونسيين المهاجرين بكل شرائحهم هو التنظم وابتداع أشكال المقاومة المناسبة ضد سياسة “إهمال العيال” وضد دولة السطو.