بقلم شريف خرايفي
نبذة عن هذا المشروع وتذكير بدوافعه
في أواسط شهر نوفمبر 2021 أقدم رئيس الجمهوريّة على إلغاء قانون 38 الذي ينصّ على الانتداب الاستثنائي في القطاع العمومي، والذي كان قد صادق عليه البرلمان أواخر شهر جويلية 2020 ثمّ أمضى عليه الرّئيس نفسه وأمر بنشره في الرّائد الرسمي للجمهورية التونسية في شهر أوت. ولكن، بعد أن نفّذ انقلابه على الدستور واستفرد بالحكم وبكل السلطات، بدأ يفكّر في تنفيذ أجندات أخرى، إمّا بالتراجع عن بعض الاتفاقات والقوانين، ومنها هذا القانون الذي مثّل بارقة أمل لآلاف من المعطّلين خاصة من الذين طالت بطالتهم، أو بسنّ قوانين ومشاريع ومبادرات تتماشى مع رؤيته الجديدة لمنظومة حكم يكون فيها هو المتحكّم في كلّ بُناه: السياسية والاقتصادية والاجتماعيّة. ومن ثمّة جاءت فكرة الشركات الأهلية لأوّل مرة كبديل عن القانون 38 الذي تراجع عنه وخلّف استياء وغضبا كبيرا في صفوف المعطلين عن العمل.
ومنذ 25 جويلية 2021 بدأ سعيّد في تنفيذ أركان مشروعه السياسي: البناء القاعدي، وهو خليط ومزيج من تصوّرات قديمة وجديدة، بعضها محلّي وبعضها مستورد، تنهل بشكل فوضوي من كلّ النّظريّات (المجالسيّة، القذافيّة، الديمقراطيّة المباشرة…)، وهي في المحصّلة لا هويّة واضحة لها ولا منطق واقعي لتطبيقها في السياق المحلي التونسي.
وإذا كان سعيّد قد باشر فعلا تنفيذ برنامجه السياسي في هذا المشروع، عبر إلغاء دستور 2014 وصياغة دستور أحادي جديد وتنظيم انتخابات تشريعيّة انطلاقا من الدستور الجديد وبعض هيئات تمثيلية جديدة (المجالس المحلية والجهوية ومجلس الأقاليم والجهات) وانتهاءً بانتخابات رئاسيّة قدّت على المقاس وشابتها كلّ أشكال الإقصاء والتوظيف المؤسساتي ورافقتها إخلالات قانونية فظيعة، فإنّه، بالتوازي مع ذلك يقوم ببروباغندا متواصلة لتنفيذ مشروع “اقتصادي” و”تنموي” جديد وهو الشركات الأهلية.
عرّف المرسوم عدد 15 لسنة 2022 الذي يتضمّن 97 فصلا تتوزّع على ثمانية أبواب في فصله الثاني، الشركات الأهلية بـ “كلّ شخص معنوي تحدثه مجموعة من أهالي الجهة يكون الباعث على تأسيسها تحقيق العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروات من خلال ممارسة جماعية لنشاط اقتصادي انطلاقا من المنطقة الترابية المستقرّين بها”. ورسم لها الفصل الثالث هدف “تحقيق التنمية الجهوية وأساسا بالمعتمديات وفقا للإرادة الجماعية للأهالي وتماشيا مع حاجيات مناطقهم وخصوصياتهم”. وحدّد الفصل الرابع مجال نشاطها “تمارس الشركات الأهلية نشاطا اقتصاديا انطلاقا من الجهة الترابية المنتصبة بها”، ومكّنها الفصل الثالث في نقطته الثالثة من “التصرّف في الأراضي الاشتراكية (أراضي القبائل والعروش الجماعية) مع مراعاة التشريع الجاري به العمل بخصوص الملكية العقارية بناء على قرار مجلس التصرف”.
وتتكون الشركات الأهلية من أشخاص طبيعيين لا يقل عددهم عن 50 شخصا وتتوفر فيهم صفة الناخب في الانتخابات البلدية. ويمكن الجمع بين صفة المشارك في الشركة الأهلية وصفة الأجير.
امتيازات فاقت كلّ المعقول
منذ أن تمّ الإعلان عن هذا المشروع (الشركات الأهلية) رافقته موجة دعاية رسمية كبيرة، وسخّر لها الرّئيس وأدواته (التنسيقيات، “المفسّرين”، الإعلام، الوزراء…) كلّ المنابر وكلّ المساحات المتاحة في سعيٍ لدفع النّاس، وخاصّة المعطلين والمهمّشين، للإقدام عليها وتبنيّها وتأسيسها، حتّى أنه أشرف بنفسه على تأسيس شركة أهلية بمسقط رأسه في أكتوبر 2022، وأشرف وزير الشؤون الاجتماعية السابق، مالك الزاهي على أن تكون الشركات الأهلية ضمن أولوياته الوزارية، حتى أنه كلّف أحد مستشاريه بمهمة الشركات الأهلية.
منذ أن تمّ الحديث عن الشركات الأهلية من قبل رأس السلطة، بدأ معه الحديث عن توفير الاعتمادات الضرورية لتكريسها، وخاصة توفير حوافز مالية وإدارية لتشجيع الإقدام عليها. وقد خصّها رئيس الدولة بالأولوية المطلقة في حملته الانتخابية طويلة الأمد (التي انطلقت تقريبا منذ تفرّده بالحكم وبكل السلطات وتحويلها إلى وظائف)، وأمر، عبر مجلس النواب الذي يتحكّم فيه بشكل مطلق، بوضع خطوط تمويل في كل الميزانيات المصادق عليها (ميزانيات 2022 و2023)، وهي خطوط تزيد قيمتها في كلّ مرة. فقد تضمن الفصل 29 من قانون المالية لسنة 2023 إحداث خط لتمويل الشركات الأهلية الجهوية أو المحلية المنصوص عليها بالمرسوم عدد 15 لسنة 2022 المؤرخ في 20 مارس 2022، يخصص لإسناد قروض بشروط تفاضلية وذلك خلال الفترة الممتدة من غرّة جانفي إلى 31 ديسمبر 2023. سيتم تخصيص اعتماد قدره 20 مليون دينار على موارد الصندوق الوطني للتشغيل لفائدة هذا الخط. ويعهد بالتصرف في خط التمويل إلى البنك التونسي للتضامن. كما نصّ قانون المالية لسنة 2024 على تخصيص اعتماد إضافي بمبلغ 20 مليون دينار على موارد الصندوق الوطني للتشغيل لفائدة خطّ تمويل الشركات الأهلية.
ولا يمكن أن ننسى اللّغط الكبير الذي رافق المرسوم عدد 13 لسنة 2022 مؤرخ في 20 مارس 2022 المتعلق بالصلح الجزائي وتوظيف عائداته. حيث تضمّن أنّ الأموال المودعة “بحساب عائدات الصلح الجزائي لتمويل المشاريع التنموية” توظّف في تمويل إنجاز مشاريع تنموية اعتمادا على خصوصية المناطق واحتياجات الأهالي والأولويات الوطنية والمحلية والأهداف المرسومة بمخططات التنمية، وتُوزع عائدات الصلح الجزائي كما يلي: 80 % تُرصد لفائدة المعتمديات المنتفعة بالمشاريع المذكورة حسب ترتيبها من الأكثر فقرا إلى الأقل فقرا، و20 % تُخصّص لفائدة الجماعات المحلية بغاية المساهمة في رأس مال مؤسسات محلية أو جهوية تأخذ شكل شركات ذات صبغة أهلية أو استثمارية أو تجارية طبقا للتشريعات الجاري بها العمل.
ومن البديهي أن يتمّ تسخير كل الإدارات، مركزيا وجهويا، لتسهيل وتيسير بعث هذه الشركات، حتّى أن “كبير المفسرين” أحمد شفتر وكذلك المستشار لدى وزير الشؤون الاجتماعية المكلف بالشركات الأهلية كانوا يجوبون البلاد طولا وعرضا ويعقدون الحملات التحسيسية ويشرفون على الجلسات مع المؤسسات الجهوية (مندوبيات الفلاحة والمالية والملكية العقارية ويغرها) لتذليل “كلّ الصعوبات البيروقراطية” أمام الراغبين في بعث هذه المشاريع.
وآخر هذه الحوافز هو ما صدر عن وزارة التشغيل، التي أصبح صلبها كتابة دولة للشركات الأهلية، قرارا لتوفير منحة لباعثي هذه الشركات، وقبلها عقد كاتب الدولة المعني بعقد جلسة مع مجموعة من البنوك لـ”تنويع مصادر تمويل الشركات الأهلية” مثلما ورد في بيان للوزارة. كما أصدر كاتب الدولة المذكور بلاغا إعلاميا منذ أسبوعين متعلّق بـ”إلغاء شرط طلب دراسة المؤثرات على المحيط وكرّاس الشروط للحصول على شهادة التصريح بالاستثمار لدى وكالة النهوض بالصناعة والتّجديد”، وهي إحدى الوثائق التي تمثّل عائقا كبيرا أمام المستثمرين وصعبة المنال لباعثي المشاريع الشبّان، وها هي بقدرة قادرة يتمّ إلغاؤها لفائدة شركات “دعم البناء القاعدي”.
إنّ ما يمكن استنتاجه أن الشركات الأهلية مازالت بعيدة كليّا ودون ما يروّج له من أنها ستخلق مواطن الشغل وستجلب الرّخاء للمناطق المهمّشة والمفقّرة وستمثّل أداة لتكريس العدالة التنمويّة، بل هي إلى حدّ الآن رؤية هلاميّة غير واقعيّة، لأن المعضلات المشار إليها (الفقر والبطالة والانخرام التنموي)، تُحلّ بخيارات بديلة ومراجعات عميقة وجوهريّة للمناويل التنموية الفاشلة التي احتكمت إليها الإدارة السياسية منذ أكثر من نصف قرن، ولا تحتاج إلى شركات الوهم والفشل التي يدعو إليها الرئيس وزمرته.
إنّ لمحة متأنّية لهذا المشروع وللقائمين عليه، سواء من الدّعاة أو من المنتفعين، سنقف على حقيقة واحدة: أنّ النظام الشعبوي يبحث عن إسناد مادّي، اقتصادي واجتماعي، لمشروع البناء القاعدي، وبالتالي فهو بصدد خلق “فئة” من المستفيدين من هذه الامتيازات والمنخرطين عضويّا في مشروع التّأسيس للمنظومة السياسية المرجوّة. وهذا ما سيخلق أيضا فئة من المتمعّشين الجدد والذين ينتظمون اقتصاديا في شركات أهلية وسياسيا في تنسيقيات البناء القاعدي. النّظام بصدد خلق حُماة له.