بقلم وليد بالضيافي
صرّح قيس سعيد في خضم “حملته الانتخابية” أنه يقود “حرب تحرير وطني” وعلى الجميع الانخراط فيها. لقد كانت تصريحات سعيد منذ توليه الحكم مليئة بالشعارات المفرغة من المحتوى. فهل يختلف هذا الشعار عن سابقيه؟
لنتفق أوّلا أن مسألة التحرر الوطني مسألة خلافية بين العديد من العائلات السياسة في تونس، فبينما تعتبر العائلة الدستورية أن الاستقلال تحقق إثر توقيع معاهدة 1956 بين تونس وفرنسا، تعتبر العديد من التنظيمات الثورية أن الاستعمار مازال متواصلا بأشكال جديدة. العديد من فصائل العائلة الوطنية الديمقراطية (الوطد) مثلا ترى أن المجتمع التونسي شبه إقطاعي شبه مستعمر وأن التحرر الوطني يكون عبر ثورة وطنية ديمقراطية، ولئن يتبنى حزب العمال مقولة الثورة الوطنية الديمقراطية، حيث يدعو برنامجه إلى المرور إلى الدولة الديمقراطية الشعبية، إلا أنه يختلف في تحليله لطبيعة المجتمع حيث يقرّ بأن الاستعمار المباشر تحوّل إلى استعمار اقتصادي تقوده القوى الإمبريالية (أساسا الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية) بمعية طبقة برجوازية عميلة كمبرادورية تدافع عن مصالح هذه القوى الخارجية. وبغضّ النظر عن صحة تحليل العائلة الوطنية أو حزب العمال، إلا أن هذه التنظيمات الثورية حدّدت الخصوم وبّينت كيفية التحرر عكس نظام قيس سعيد الذي واصل وعمّق سياسة التبعية للقوى الخارجية.
السياسة المالية لتونس رهينة لجهات “مانحة”
واصل قيس سعيد سياسة الأنظمة السابقة في تمويل الميزانية عبر التداين. ففي ميزانية 2024 تبلغ حاجيات الدولة أكثر من 16 ألف مليار دينار من الخارج وأكثر من 11 ألف مليار دينار من السوق الداخلية. علما وأن نسبة الدين العمومي ناهزت 80% من الناتج الداخلي الخام سنة 2023، 64% منها ديون خارجية، حسب المعهد التونسي للقدرة التنافسية والدراسات الكمية التابع لوزارة الاقتصاد.
ولفهم عواقب سياسة التداين وجب تحديد الدائنين. أعدّ محمد حداد تقريرا سنة 2021 بعنوان خارطة الدين العمومي الخارجي لتونس. حسب هذا التقرير يمكن تصنيف دائني تونس إلى ثلاثة أصناف وهم المؤسسات الدولية والدول والمؤسسات الخاصة (أو السوق المالية). يعتبر البنك العالمي للإعمار والتنمية أكبر مؤسسة دائنة لتونس ويحتل صندوق النقد الدولي المرتبة الثالثة وهي مؤسسات ليبرالية تهيمن عليها الدول الإمبريالية نظرا لأن التصويت داخل مجالس إدارتهم يتم حسب المساهمة المالية لها. لهذا تدافع هذه المؤسسات أساسا على المصالح الإستعمارية لهذه الدول وقروضها لدول الجنوب مشروطة بما تسميه مجموعة إصلاحات. هذه الإصلاحات تتبع عقيدة ليبرالية تقتضي تقليص عجز الميزانية عبر الضغط على نفقات الدولة لضمان خلاص القرض مستعملة سياسات تقشف صارمة. ففي تونس مثلا وقع تجميد الانتدابات في الوظيفة العمومية ممّا أضر بعديد القطاعات الحياتية كالصحة والتربية. كما تمّ تقليص دعم المواد الأساسية وإلى اليوم توجد محاولات لرفعه تماما. حاول العديد ممّن حكموا تونس أيضا التفويت في عديد المؤسسات العمومية إرضاءا للمؤسسات المانحة بدل إصلاحها لتنتفع بها المجموعة الوطنية.
أمّا بالنسبة للدول الدائنة فإن خارطة الدين العمومي لسنة 2019 تبيّن أن فرنسا تحتل المرتبة الأولى تليها المملكة العربية السعودية ثم ألمانيا وتحتل إيطاليا المرتبة الخامسة. بينما لعبت الولايات المتحدة الأمريكية دور الضامن للقروض التونسية في السوق المالية لعدة سنوات. هذه الدول عرفت باستعمال الدين كأداة لفرض سياساتها أو لإجبار الدول على الاصطفاف وراءها حتى أن اللجنة الدولية لإلغاء الديون الغير مشروعة تعتبرها أداة هيمنة.
من البديهي أن سياسة التداين وخاصة الدين الخارجي لم تبدأ مع قيس سعيد، فأوّل قرض خارجي تحصلت عليه تونس “المستقلة” كان سنة 1957 حيث فرضت فرنسا على الدولة التونسية تعويض المعمّرين الفرنسيين عند استرداد الأراضي والأملاك، ثمّ تواصلت سياسة التداين في الحقبات الموالية، إلا أنها تسارعت بشكل كبير إبان الثورة فتضخم الدين العمومي التونسي من حوالي 43% من الناتج الداخلي الخام سنة 2011 ليقارب 80% منه الآن. إنّ قيس سعيد حريص كل الحرص على خلاص هذا الدين، حيث صرح يوم 6 سبتمبر الماضي بأن تونس “أوفت بكل تعهداتها المالية” وكانت وزيرة المالية قد صرحت أيضا يوم 2 جويلية بأن تونس تمكنت من سداد جميع أقساط الدين الداخلي والخارجي لسنة 2023. لكن بأي ثمن؟
خلاص أقساط الدين كان على حساب قوت التونسيين حيث عانت تونس من نقص في التزويد بالمواد الأساسية. وشهد التونسيون عودة الطوابير والصفوف والحوصصة (rationnement) لشراء السكر والسميد والزيت المدعّم… واختفت العديد من الأدوية من السوق التونسية بعضها حياتي وعجّت مجموعات المغتربين على شبكات التواصل الاجتماعي بطلبات المرضى اليائسين لمحاولة جلب أدويتهم من الخارج. قيس سعيد خيّر تسديد القروض على تلبية الحاجيات الحياتية لمواطنيه. في حين أن العديد من الأحزاب والمنظمات كحزب العمال والشبكة الدولية للجنة من أجل إلغاء الديون غير المشروعة (cadtm) وغيرهما تطالب بجرد للدين العمومي التونسي لحصر الديون الكريهة التي يحق لتونس عدم خلاصها، ويؤكد حزب العمال في هذا الصدد أن القانون الدولي يسمح بفترة جرد تمتد إلى ثلاث سنوات تعفى بموجبه البلاد من سداد الأقساط إلى جانب تقليص الدين الكلي. لكن تبجيل قيس سعيد سداد القروض يجعلنا نستنتج أنه يبحث عن فكّ عزلة نظامه عبر لعب دور التلميذ المطيع للمؤسسات والدول الناهبة على حساب الحاجيات الأساسية لمواطنيه.
من ناحية أخرى قام موقع نواة بنشر خارطة جديدة للديون التي تحصلت عليها تونس سنتي 2023 و2024 بيّنت أنه وبالرغم من الشعارات المرفوعة فإن تونس في عهد قيس سعيد واصلت سياسة التسول الدولي وأن غالبية القروض الجديدة خصّصت لخلاص أقساط الديون القديمة. حيث تحصلت تونس على أكثر من 810 مليون يورو من مؤسسات ودول أوروبية وأكثر من 1620 مليار دولار من مؤسسات ودول عربية وإفريقية وآسيوية بين 2023 و2024 بل إن قيس سعيد صادق بأوامر رئاسية على قروض بقيمة 1335 مليار دولار سنتي 2021 و2022 في غياب البرلمان ومازالت ميزانيات تونس تعوّل على فرضيات تداين ضخمة. حكومة قيس سعيد واصلت أيضا سياسة تجميد الانتدابات في الوظيفة العمومية والضغط على دعم الدولة للمواد الأساسية ممّا يثبت أن خطاب السيادة والتعويل على الذات هو خطاب موجه لاستهلاك مناصري قيس سعيد فقط في غياب مشروع سياسي واقتصادي حقيقي يهدف إلى خلق الثروة.
تواصل للاتفاقيات الاستعمارية
أمضى قيس سعيد يوم 16 جويلية 2023 مذكرة تفاهم مع الاتحاد الأوروبي بإيعاز من رئيسة الوزراء الإيطالية الفاشية جورجيا ميلوني. شملت مذكرة التفاهم عدة مجالات كالطاقة والبيئة والفلاحة والهجرة…
في المجال الطاقي تعرضت المذكرة لإمكانيات (potentiel) تونس في مجال الطاقات المتجددة وهو ما حثّ الاتحاد الأوروبي على إبرام اتفاق شراكة استراتيجي “يمكّن الطرفين من تأمين التزوّد بالطاقة”. كما عرّجت المذكرة أيضا على تعهدات تونس المناخية للتقليص من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون حيث تعهدت أوروبا بمساعدتها على تنفيذها لتصبح تونس ملزمة بها دون ذكر أو التلميح إلى الانبعاثات الأوروبية والتي لها دور كبير في التغيّر المناخي الذي يشهده العالم. حيث كان تطوّر القارة الصناعي منذ الثورة الصناعية إلى اليوم على حساب المناخ وتعتبر تونس من أبرز الدول المتضررة منه (دراجات حرارة مرتفعة، شحّ مائي…). لقد تهربت أوروبا من مسؤوليتها كقارة ملوِثة و تعهداتها أمام دول الجنوب كتونس.
من بين محاور التعاون “البيئي” أتت المذكرة على الطاقات المتجددة وخاصة الهيدروجين الأخضر. فأصدرت تونس استراتيجيتها للهيدروجين الأخضر إثر الإمضاء على مذكرة التفاهم. وقد موّلتها وكالة التعاون الفني الألمانية وأنجزها مكتب دراسات ألماني وآخر تونسي. أي أن السياسة الطاقية لتونس صيغت بتمويل أجنبي وعقل أجنبي لم تشارك فيه لا الإدارة ولا الجامعة التونسية. وكانت مجموعة العمل من أجل ديمقراطية الطاقة قد انتقدت هذه الإستراتيجية. وكانت “صوت الشعب” قد تعرّضت لها في مقالين بيّنا مخاطرها. إذ تعتزم تونس إنتاج 8300 مليون طن من الهيدروجين الأخضر في حدود سنة 2050، أكثر من 70% منها معدة للتصدير. إنتاج الهيدروجين سيتمّ عبر تحلية مياه البحر وهي عملية ملوثة في جميع مراحل الإنتاج. أغلب عمليات التصدير ستكون في اتجاه الاتحاد الأوروبي منها ماهو عبر أنابيب. وقد أمضت تونس عدة مذكرات تفاهم مع شركات أجنبية لهذا الغرض. أولها مع شركتي طوطال الفرنسية وشركة فاربوت النمساوية لإنتاج و نقل هذه المادة. النتيجة، إنتاج الهيدروجين الأخضر تتحمل أخطاره البيئية تونس لتزويد به الاتحاد الأوروبي عبر شركات أجنبية ستجني أغلب أرباحه. فمن يساعد من لتحقيق أهدافه المناخية؟ أليست تونس هي التي تساعد أوروبا على تحقيق الانتقال الطاقي وضمان أمنها الطاقي؟ أليس هذا استعمارا طاقيا جديدا؟
كما تعرّضت مذكرة التفاهم بين الاتحاد الأوروبي وتونس لمشروع ELMED وهو مشروع ربط بين الشبكة الكهربائية التونسية والأوروبية عبر جزيرة صقلية (Sicile) ليتمكن الطرفان من بيع ما زاد من إنتاجهما عن حاجاتهما الكهربائية. هذا المشروع تقوم به الشركة التونسية للكهرباء والغاز (STEG) من الجانب التونسي وشركة Terna من الجانب الإيطالي. تختلف كلفة المشروع من مصدر إلي آخر (أو من وزارة إلى أخرى)، حيث ورد في موقع african manager بتاريخ 31 جانفي 2024 أن الكلفة الجملية للمشروع تصل إلى 1014 مليون يورو على لسان وزيرة الاقتصاد والتخطيط السابقة، عكس ماهو موثق على موقع المشروع أين تبلغ الكلفة المصرح بها حوالي 850 مليون يورو، لكن المدير العام للكهرباء والطاقات المتجددة في وزارة الصناعة والمناجم أكد يوم 25 أفريل في مجلس نواب الشعب أن كلفة المشروع تبلغ 840 مليون يورو.
يتمتع المشروع بهبة من الاتحاد الأوروبي تبلغ 307 مليون يورو (رفعت إلى 334 مليون يورو حسب موقع الاتحاد الأوروبي) بينما تتقاسم الشركتان (التونسية والإيطالية) بقيّة التكاليف مناصفة بالرجوع إلى تصريح وزيرة الاقتصاد والتخطيط السابقة، كلا الشركتين بحاجة إلى تمويلات خارجية لتنفيذه. لكن لم يعلن الجانب الإيطالي إلى اليوم عن كيفية تمويله لهذا المشروع بينما اشترط الاتحاد الأوروبي موافقة البنك العالمي على قرض لتونس لصرف المنحة، بالمقابل لم نعثر على مثل هذه الشروط للجانب الإيطالي الذي له حرية التمويل. وفعلا تحصلت تونس على الموافقة على قرض بقيمة 268 مليون دولار (قرابة 247 مليون يورو) يوم 22 جوان، أي أياما قبيل توقيع المذكرة. كما صادق مجلس النواب التونسي على قروض بقيمة تفوق الـ100 مليون يورو من البنك الأوروبي للتنمية والبنك الأوروبي للاستثمار والبنك الألماني للتنمية. وفي انتظار اتفاق الوزارات حول كلفة المشروع يحق لنا أن نتساءل حول مفهوم تقاسم التكلفة مناصفة؟ وتعلل وزيرة الاقتصاد السابقة الحاجة لهذا المشروع بتعزيز الأمن الطاقي لتونس وذلك عبر جعل الشبكة التونسية للكهرباء رهينة السوق الأوروبية التي يعاني مستعملوها من ارتفاع غير مسبوق لكلفة الطاقة جرّاء تحرير سوقها. أي أن الشركة التونسية للكهرباء والغاز، المؤسسة المسؤولة على تزويد كل التونسيين بالطاقة بأسعار في المتناول، تحملت عبء قروض كثيرة لتستورد الطاقة من سوق أغلقت فيه شركات صغرى وعانى مواطنوها برد الشتاء نظرا لغلاء أسعار الطاقة.
وعلى غرار الطاقة، حضي محور الهجرة أيضا بمكانة مهمّة في هذا الاتفاق التونسي الأوروبي. سبق التوقيع على هذه المذكرة حملة عنصرية أطلق عنانها قيس سعيد بتصريحاته خلال مجلس أمن قومي يوم 21 فيفري 2023 لم تشهد تونس مثيلها من قبل. حيث عقبت هذه التصريحات حملة عنف غير مسبوقة كان ضحيتها المهاجرون والمغتربون من دول إفريقية شقيقة وتونسيون من ذوي البشرة السوداء. وقد لاقت هذه التصريحات صدى لدى قوى اليمين العنصري في أوروبا، ممّا دفع جورجيا ميلوني ووزرائها إلى القيام بعديد الزيارات لتونس. ضغطت إيطاليا لصياغة اتفاق أوروبي تونسي احتلت فيه مسألة الهجرة مكانة هامة. فأوروبا تحاول منذ مدة تصدير حدودها الجنوبية إلى دول شمال إفريقيا وجعل تونس حارسا لحدودها. ورد في الوثيقة أن “تونس لن تحرس إلا حدودها”، لكن بتمويل و تكوين أوروبي. إذن تونس ستحرس حدودها بعقيدة أوروبية. بل أن المذكرة تفرض أيضا على تونس قبول مواطنيها المرحلين قسرا من الدول الأوروبية.
بالرغم من أن الجانب التونسي دوّن أنه لا يقبل من جعل تونس أرض “توطين” أو “عبور” (وهي عبارات تفضح الطابع العنصري للوثيقة) إلا أن المذكرة تجعل من تونس أرض ترحيل لمهاجرين هدفهم الوصول إلى أوروبا.
من ناحية أخرى، حسب موقع euronews، تحصلت تونس على 127 مليون يورو كمنحة من الاتحاد الأوروبي تطبيقا لمذكرة التفاهم. خصصت منها 67 مليون يورو (أكثر من النصف) لمسألة الهجرة، وقع رصد جزء كبير من هذا المبلغ لشراء معدات حراسة حدود (قوارب، كاميرات حرارية…) في وقت تعاني فيه تونس من نقص في التزويد بالمواد الأساسية. فمن الصعب إذن تصديق أن نظام قيس سعيد لا يلعب دور حارس للحدود الأوروبية.
ختاما رغم زعمه أنه يخوض حرب تحرير وطني إلا أن نظام قيس سعيد واصل سياسة الارتهان للخارج عبر التداين كما واصل تنفيذ سياسات التقشف المفروضة من المؤسسات المالية العالمية وخيّر سداد الديون وشراء معدات حراسة الحدود على توفير المواد الأساسية كما جعل أمننا الطاقي رهينة للسوق الأوروبية وسخّر نظامه العنصري لحراسة الحدود الجنوبية لأوروبا. نظام قيس سعيد غير معني بالتحرر الوطني. وفي غياب التحرر الوطني الحقيقي تبقى حرب نظام قيس سعيد الحقيقية هي حرب تصفية كل نفس حر ومعارض عبر التشويه وكيد التهم والتخوين. هذه الحرب بلغت ذروتها مؤخرا خلال الفترة الانتخابية إذ سخر جميع موارد الدولة ومؤسساتها ليتمكن من البقاء في الحكم.