الرئيسية / أقلام / الاتّحاد العام التّونسي للشّغل وأزمة البيروقراطيّة النّقابيّة: أيّ مؤتمر نريد؟
الاتّحاد العام التّونسي للشّغل وأزمة البيروقراطيّة النّقابيّة: أيّ مؤتمر نريد؟

الاتّحاد العام التّونسي للشّغل وأزمة البيروقراطيّة النّقابيّة: أيّ مؤتمر نريد؟

بقلم إبراهيم العثماني

مقدّمة

يبدو أنّ الاتّحاد العامّ التّونسيّ للشّغل تعاقد، منذ مؤتمره السّادس (سبتمبر1956)، مع الأزمات الدّاخليّة والمناورات الخارجيّة. لذا كلّما تجاوز محنة اُبتلي بمحنة جديدة. ومردّ ذلك إلى غياب الممارسة الدّيمقراطيّة في صلبه. وهكذا أصبحت قضيّة الدّيمقراطيّة النّقابيّة معضلة استعصى حلّها وعقّدت وضعه من يوم لآخر، وأكبر دليل على ذلك حالة العطالة الّتي تعيشها القيادة اليوم وتجاهل السّلطة الحاكمة لها. وفي خضمّ هذا الوضع المثيرللقلق على مصيرهذه المنظّمة العتيدة ارتأينا أن نُسهم في هذا الجدل الّذي حفز أقلاما كثيرة إلى الكتابة تباينت أطروحاتها ومقترحاتها.

غياب الممارسة الدّيمقراطيّة

إنّ الأزمة الحاليّة الّتي يمرّ بها الاتّحاد ليست وليدة البارحة، وإنّ القيادة الحاليّة ليست إلاّ تتويجا طبيعيّا لمسار تخريبي بدأ منذ عقود. وفي الحقيقة لا يسمح لنا المقام باستعراض كلّ المحطّات الّتي تعرّض فيها أصحاب الرّأي المخالف وكلّ من تجرّأ على نقد قيادة الاتّحاد للتّشويه والتّجميد والتّجريد والتّنصيب منذ بداية سبعينات القرن العشرين وصولا إلى منصف الثّمانينات في مرحلة أولى ثم التّسعينات والألفية الجديدة.. وكلامنا هذا ليس تحاملا أو تجنّيا. وبإمكان كلّ من يريد تعميق النّظر في هذه المسألة أن يعود إلى المراجع التّالية:

  1. جريدة”الشّعب”- لسان الاتّحاد العام التّونسي للشّغل عدد257/غرة فيفري 1975 ص1،/جريدة الشّعب 14ماي 1976/ جريدة الشعب 17سبتمبر1976.
  2. بلقاسم حسن:قراءة في تاريخ نقابة التّعليم الثّانوي-“الرّأي الفكري”- ملحق عدد 329-الجمعة 12 جويلية 1985 وعدد230 –الجمعة 19 جويلية 1985.
  3. نصوص الطّاهر الهمامي في مجلّة”حقائق” 1985-1986.
  4. حوارات مؤسّسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات: صالح الزغيدي والجنيدي عبد الجواد يتحدّثان عن أزمة اتحاد اشغل – الشروق الأحد 16 ماي 2006 ص18، الجنيدي عبد الجواد حديث الذّاكرة: “الصّباح” الثلاثاء 16 ماي 2006 ص6.
  5. كتاب الجيلاني الهمامي: الاتحاد العام التونسي للشّغل –نظرة من الدّاخل.

لقد خنقت ما يُسمّى “المدرسة العاشورية” كلّ نفس ديمقراطي، وأجهضت كلّ محاولة لدمقرطة الاتّحاد واستقلاليّة قراره، وحصرت القرارات والإجراءات في دائرة ضيّقة لا تتجاوز المكتب التّنفيذي بل الأمين العام الحبيب عاشور الّذي تربّى في مدرسة الحزب الدّستوري المعادية للدّيمقراطيّة أوإسماعيل السّحباني في فترة التّسعينات .وهكذا عاش النقابيّون الدّيمقراطيّون في قطاع التّعليم واليسار النّقابي أحلك الفترات وتعرّضوا لأبشع أنواع التّنكيل ولكنّهم قاوموا الظّلم وسجّل لهم التّاريخ مآثر لا تزول.
ولم تكتف هذه المدرسة النقابيّة البائسة بالتّحالف مع حزب الدّستور بل ارتأت، في منتصف الثّمانينات وفي إطار صراعها مع شقوق السّلطة الحاكمة على خلافة بورقيبة، أن تعقد تحالفا مع حركة الاتّجاه الإسلامي وتفتح لرموزه صفحات جريدة” الشّعب” وتقيل الطيب البكوش المسؤول عنها وتشنّ هجمة شرسة على اليسار النقابي (انظر نصوص الطاهر الهمامي في مجلّة”حقائق” ماي/ 1985جوان/ جويلية/ سبتمبر/ نوفمبر 1985)، وشهادة الطيب البكوش في كتابه “الرّئيس بورقيبة كما عرفته” ص161.
وبعد انقلاب 7نوفمبر1987 انقسمت المدرسة العاشوريّة إلى شقّين متباينين قبل مؤتمر الاتّحاد الاستثنائي بسوسة (1989) وأثناءه وبعده: شق مرتبط بالسّلطة الحاكمة يقوده إسماعيل السّحباني، وشقّ مرتبط بحركة الاتّجاه الإسلامي يقوده علي بن رمضان. وانتصر شقّ السّحباني ودشّن الاتّحاد، في عهده وبمساعدة عبد السلام جراد المسؤول عن النّظام الدّاخلي، مرحلة من أخطر مراحل تاريخه تواصل تأثيرها إلى حدّ هذه اللّحظة. فلم يكتف السّحباني بدوس قوانين المنظّمة والزجّ بمعارضيه في السّجن واختلاس أموال الاتّحاد والعبث بممتلكاته، والموافقة على تفكيك المؤسّسات العموميّة (تفويتا وخوصصة)، وتزكية ترشيح الرئيس ابن علي دون قيد أوشرط بل أحدث شرخا في صفوف اليسار النّقابي واستمال الشق المنادي ب”الموقع قبل الموقف” وعادى كلّ صوت ناقد لسلوكه وممارساته وصفّى النقابيين المناضلين. وأصبحت جماعة”الموقع”، رغم شعاراتها اليسراويّة، مدافعا شرسا عن البيروقراطيّة النقابيّة بل جزءا منها لايتجزّأ، وهي اليوم من مهندسي الانقلاب على الفصل 20، ومن الرّافضين لعقد أي مؤتمر استثنائي لتجاوز الأزمة الخانقة الّتي يتخبّط فيها الاتّحاد.
ولْنذكّر أصحاب الذّاكرة الضّعيفة أنّ الأمين العامّ الحالي هو الابن المدلّل للإخواني علي بن رمضان الّذي أجرم في حقّ النّقابيّين والاتّحاد لمّا كلّف بالنّظام الدّاخلي بعد مؤتمر المنستير 2006 (تجريد وتجميد وانقلابات ومؤتمرات استثنائيّة). ألم ينقلب على توفيق التواتي الكاتب العام للاتّحاد الجهوي بتونس سنة 2009 ويعقد مؤتمرا استثنائيّا أوصل بموجبه نور الدّين الطبوبي إلى الكتابة العامّة؟ ألم “يؤدّب” الكاتبين العامين للاتحاد الجهوي بنابل، وبنزرت لأنّهما لم يساندا قائمته في مؤتمر المنستير. وعلي بن رمضان هذا هو صاحب بدعة “المؤتمر الاستثنائي غير الانتخابي”.
إنّ وضع الاتّحاد الحالي هو خلاصة هذه المحطّات المتشابكة المتداخلة منذ أكثر من ثلاثة عقود ينضاف إليه طابور جديد يدين بالولاء للسّلطة الحاكمة . وقد ظلّت هذه التيّارات متنافرة تارة متآلفة طورا ولم تُفلح إلاّ في العبث بقوانين المنظّمة ، وتجميد هياكل الاتّحاد وسلطات القرار وتدليس المؤتمرات وإقصاء المختلفين معها. تقوم بكلّ ذلك وهي غير مدركة خطورة ما تخبّئه لها السّلطة الحاكمة الّتي لا تؤمن بأيّ دور للعمل النّقابي.

عداء السّلطة الحاكمة للعمل النّقابي

تعرّضت عدّة كتابات لعلاقة السّلطة الحاكمة بقيادة الاتّحاد وتعطّل لغة الحوار بينهما منذ أشهر، والتّنكّر للاتّفاقات المبرمة بينهما، وافتعال القضايا الكيديّة للنّقابيّين والزجّ بالبعض منهم في السّجون. وهكذا أحيلت قيادة الاتّحاد على العطالة. وقد اعترف أحد أعضاء المكتب التّنفيذي، في المجلس الوطني المنعقد في بداية شهر سبتمبر 2024 بأنّ القيادة “تنش في الذبان”. وهكذا خلا الجو لرأس السلطة الحاكمة الّذي يكنّ عداء مقيتا للعمل النّقابي وكلّ الأجسام الوسيطة. وفي مثل هذا الوضع المعقّد ضاعت مصالح العمّال وانفلت أرباب العمل من عقالهم واشتعلت الأسعار، ولم يتورّع أحد الوزراء من أشباه النقابيّين عن التشفّي من الأساتذة والمعلّمين والتّنكيل بهم وقطع أرزاقهم ولو استطاع لقطع أعناقهم.
هكذا يبدو المشهد معقّدا مركّبا وتبدو قيادة الاتّحاد غير مدركة جسامة الجرم الّذي اقترفته في حقّ العمل النّقابي، والخطرالّذي تمثّله السّلطة الحاكمة على الاتّحاد. وفي خضمّ هذا الوضع يُطرح السّؤال التّالي: ما العمل؟

المقترحات

إنّ وضعا كهذا يقتضي التّشخيص الموضوعي لمكوّناته، وتحديد التّناقض الرّئيسيّ في هذه اللّحظة بالذّات، والتّركيز على الخطرالمباشرالّذي يتهدّد الاتّحاد ،والاتّعاظ من دروس الماضي والمؤامرات والدّسائس الّتي تعرّضت لها المنظّمة لتصفيتها.
إنّ الحصافة والرّصانة والتّعقّل أمور تجنّبنا التّهريج والغوغائيّة والإسفاف والابتذال اللّغوي. وفي هذا الاتّجاه نتقدّم بجملة من المقترحات:

  • ندعو أعضاء المجلس الوطني الّذي انعقد في المنستير أيّام 5 و6 و7 سبتمبر والّذين نادوا بعقد مؤتمر استثنائي إلى صياغة عريضة تتضمّن الدّعوة إلى التّعجيل بعقد هذا المؤتمر في بداية سنة2025.
  • التّمسّك بالفصل 20 وتعميم العهدتين على الاتّحادات الجهويّة والجامعات.
  • إلزام المسؤولين من أعضاء النّقابة الأساسيّة إلى أعضاء المكتب التّنفيذي بقوانين المنظّمة واحترام مقرّرات الهياكل وتكريسها بدون لفّ ودوران.
  • التّخلّي عن العقوبات الزّجريّة من قبيل التّجميد والتّجريد وسحب الانخراط.
  • تنشيط الحياة الدّاخليّة للمنظّمة: هيئات إداريّة جهويّة/ مجالس جهويّة/ مجالس محليّة/ مجالس قطاعيّة/ الشّباب العامل/ لجنة المرأة العاملة.
  • إلغاء كلّ الامتيازات الماديّة المسداة إلى أعضاء المكتب التّنفيذي والكتاب العامين للاتّحادات الجهويّة.
  • تكليف جامعيين نقابيين مختصّين بمالية الاتّحاد وإطلاع النقابيّين على مصاريف الاتّحاد لمراقبتها ومقاومة الفساد المالي ومحاسبة المسؤولين عنه.

هذه جملة من المقترحات قابلة للإثراء والتّعميق وإضافة ما يساعد النقابيين على الخروج من هذه الورطة التي تكبّل العمل النّقابي وتشوّه صورة النقابيين المناضلين النّزهاء الّذين نذروا حياتهم لخدمة البلاد والعباد في زمن لا ترحم فيه الوسائط الاجتماعيّة لا المذنب ولا البريء.

خاتمة

ما يُطرح، اليوم، على النّقابيّين الدّيمقراطيّن الّذين نادوا، في المجلس الوطني الأخير، بعقد مؤتمر استثنائي هو شقّ طريقهم بعيدا عن أطروحات شقي البيروقراطيّة المتصارعين على تقاسم الغنيمة وتحصين المواقع واستمراريّة وجودهم من ناحية، وتهريج الفوضويين المرتبطين بالسّلطة الشّعبويّة من ناحية أخرى.
إنّ إنجاز مؤتمر ديمقراطي تصدر عنه مقرّرات ولوائح تقطع مع إرث الماضي الّذي كبّل تطوّر المنظّمة وأفقدها إشعاعها ونفّرمنها النّقابيّين وعزلها عن الأحزاب الدّيمقراطيّة ومنظّمات المجتمع المدني هو خطوة أولى في مسار شاق يحتاج إلى تضحيات أجيال قادمة تكرّس حياتها لخدمة العمل النّقابي المناضل والنّزيه.

إلى الأعلى
×