الرئيسية / الافتتاحية / تونس ما بعد 6 أكتوبر أو الطريق السريعة نحو مزيد الاستبداد
تونس ما بعد 6 أكتوبر أو الطريق السريعة نحو مزيد الاستبداد

تونس ما بعد 6 أكتوبر أو الطريق السريعة نحو مزيد الاستبداد

انتهت مهزلة 6 أكتوبر الانتخابية كما أرادها الحاكم بأمره، تمّت البيعة وحصل الرئيس على الرقم الذي يريد، حصل على النسبة “التّسعينيّة” التي يتربّع من خلالها حاكما عربيا أصيلا يضاهي في نسبة الولاء السيسي العسكري وتبّون واجهة العسكر في حكم الجزائر. انتهت المهزلة كما أرادها أنصار الحكم الفردي وبرمج لها سعيّد منذ انقلاب 25 جويلية 2021 وأراد من خلالها تتويج مسار كامل بدأ بتجميد المؤسسات والقوانين والدستور وتعويضها بمؤسسات معيّنة وطيّعة وبتشريعات كتبها بنفسه لنفسه بدْءًا بالدستور وانتهاء بالمراسيم والأوامر التي لازال يصدرها، فبعد تعيين كمبارس “الوظيفة التشريعية” بغرفتيها، والتي لم يفهم أيّ تونسي/ة علاقتهما ببعضهما ولا مهامهما، وبعد إعادة تشكيل “الوظيفة التنفيذية” في مختلف مستوياتها والتي عادت كما كانت زمن الدكتاتورية الدستورية، مجرّد موظفين عند رئيس الدولة لا غير، مرّ النظام إلى “تجديد الشرعية” الخاصة بالرئيس والتي من أجل تثبيتها ارتُكِبت كل الجرائم القانونية التي ذكّرت الناس بأساليب الحكم في ستينات وسبعينات القرن المنصرم. وفي المسار الانتخابي فإن سعيّد عيّن نفسه واختار منافسيه، وفرض منطقا غير مسبوق في إدارة الانتخابات حتى في أعتى الدكتاتوريات، فسعيّد لم يقم بحملة ولم يتوجّه للشعب بكلمة دعائية، ولم يحضر اجتماعا ولا مهرجانا انتخابيا واحدا، لقد اكتفى بتسيير الدولة وكأنّ الانتخابات تجري في بلد بعيد جدا عن تونس. أمّا منافسيه فبعد استبعاد أغلب المتقدمين للترشح، بمن فيهم من حكمت المحكمة الإدارية لصالح مشاركتهم، فقد زجّ بالأوّل (الزمال) في السجن لتَصدر ضدّه أحكام ثقيلة سالبة للحرية وتُرتكب في حقه “مجازر قانونية” لم تحدث حتى زمن بن علي وبورقيبة، والثاني (المغزاوي) تمّ التضييق عليه وفرض عليه “مجاراة” المنظومة التي حاول التمايز معها خطابيا بعد أن كان من أكبر مسانديها. لقد تمّت المهزلة في ظلّ صمت انتخابي مطبق حكم على الحدث بأن يكون اللاحدث، وفرض الحاكم بأمره صمت المقابر ممّا أقنع قطاعا واسعا بأن ما يجري هو بيعة معلومة النتائج مسبقا. وفيما اتّجه جزء من الديمقراطيين إلى الترويج لفكرة إمكانية هزم الدكتاتورية عبر الصندوق، فإن موقف عديد القوى التقدمية والديمقراطية كان الدعوة إلى مقاطعة المهزلة وعدم التورّط في مساندة الاستبداد والعمل على تقليص مساحة مسانديه والقابلين بمنظومته ما أمكن، وقد أثبتت التّجربة الملموسة مرة أخرى قصور المقاربة التي انقادت بالوهم في التعاطي مع الدكتاتورية، فمن وصل إلى الكرسي بالانقلاب لا يمكن أن ينزاح عنه بالانتخاب، وسعيد قام بكل شيء من أجل تأبيد بقائه، فهو لم يتردّد لحظة في تغيير القانون الانتخابي أسبوعا قبل موعد التصويت لاستبعاد المحكمة الإدارية من النظر في الطعون، بما شكّل ضربة قاسمة للوهم الذي تشبّث به بعض الديمقراطيين. علما وأن الضّربة القاسمة لوهم دعاة المشاركة والتغيير عبر الصندوق كانت من خلال الاستنكاف عن تقديم طعون من طرف المرشحين الذَيْن دعا البعض للتصويت لهما، فرغم حجم التجاوزات والفظاعات المرتكبة فإنهما، أي الزمال والمغزاوي، خيّرا الصمت، بما يعني اعترافا بالنتائج وتأكيدا لشرعيتها.
إن ما انتهت إليه الصورة مساء يوم 6 أكتوبر، هي صورة وملامح دكتاتورية لا غير، فرغم ضعف نسبة الإقبال التي يشكّك العديد في صدقيّتها، فإن الإصرار على الرقم التسعيني هو تأكيد لحقيقة ما يجري في بلادنا من تصاعد السرعة نحو الاستبداد بمختلف شروطه، فالمحاكمات والاعتقالات تتواصل بما في ذلك على خلفيّة مساندة فلسطين، وتخويف النشطاء وإغراق الشعب في مصاعب المعيشة، والاتجاه نحو التأطير الأمني والقضائي للمجتمع يتّسع تحت سياط خطاب شعبوي ترهيبي لا هدف له اليوم إلا فرض الاعتراف بشرعية مهزوزة ومختلّة. شرعية تجد صعوبات جمّة لدى أغلبية التونسيين الذين لم يتوجّهوا للتّصويت، وشرعية أصبحت يشار إليها بـ”البنان” في الصحافة العالمية ومنظمات حقوق الإنسان والشفافية الانتخابية ذات المصداقية، شرعية أوّل من هنّأ بها هم فاقدو الشرعية مثل بن زايد والسيسي والمثني ودبيبة وتبّون.
إن تونس تدخل اليوم طورا جديدا من الأزمة العميقة والشاملة التي يضاف إليها أزمة الشرعية بفعل مسار كامل من الانتهاكات والتلاعب على شاكلة ما فعله بن علي بعد انقلابه على بورقيبة. إن الطعن في شرعية الانتخابات ونتائجها يتأطّر ضمن طعن في مجمل المسار الذي قاده سعيد. وهذا الطعن لا يعني بأيّ وجه من الوجوه الدعوة إلى العودة إلى ما قبل الانقلاب، على العكس من ذلك فإن منظومة ما قبل 25 جويلية بعجزها وفشلها وخياراتها اللاوطنية واللاشعبية هي التي خلقت الشروط كاملة للمنظومة الحالية.
إنّ الخيار الأقصر أمام شعبنا للخروج من أزمة الشرعية والمشروعية هو استعادة النضال الواعي والمنظّم على خلفية مطالب الثورة وشعاراتها وأهدافها والتي لا تحقيق لها إلا بحكم شعبي ديمقراطي وطني يقطع نهائيا مع خيارات التبعية والتفقير والاستبداد والتي مثَّلها في بلادنا ولا يزال ثالوث الدساترة والخوانجية والشعبوية كتعبيراتٍ عن الطبقات والفئات الاجتماعية الأكثر رجعيّة وصلفًا وجشعًا.

إلى الأعلى
×