الرئيسية / صوت الوطن / نظام قيس سعيد بلا شرعية ولا مشروعية
نظام قيس سعيد بلا شرعية ولا مشروعية

نظام قيس سعيد بلا شرعية ولا مشروعية

بقلم فرات السلامي

أعلن حزب العمال منذ شهر فيفري 2024 عن موقفه من الانتخابات الرئاسية ودعوته إلى مقاطعتها، وقد أثار موقفه في البداية استغراب العديد من الأحزاب والنشطاء السياسيين، لكن مجريات انتخابات 6 أكتوبر أثبتت صحة موقفه، كما بيّنت أيضا أن نظام قيس سعيد هو نظام يفتقد إلى الشرعية نظرا للخروقات القانونية الخطيرة التي انخرط فيها خلال المسار الانتخابي ومنذ 25 جويلية 2021 على الأقل، كما أنه نظام يفتقد إلى المشروعية، فهو نظام لا يحظى بدعم شعبي، أمر مفهوم نظرا لتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.

نظام بلا شرعية

ليس لنا وهم في أن النظام القانوني الحالي في البلاد هو نظام قانوني يكرّس سيطرة البرجوازية الكبيرة على المجتمع، فالقانون ليس محايدا ولا يقف على نفس المسافة من جميع الطبقات كما يعتقد الكثيرون، فللقانون دائما خلفية إيديولوجية، ليكرس إرادة الطبقة السائدة في المجتمع ويعمّق الحيف الاجتماعي. لكن التعرض إلى انتهاكات القانون التي تورّط فيها نظام قيس سعيد، تبيّن زيف خطابه وادّعاءاته، خصوصا وأنه استثمر صفته كأستاذ قانون في حملته الانتخابية سنة 2019 ووعد بحماية الدستور وتطبيق القانون، ومن يكذب على الشعب مرة يكذب ألف مرة أخرى.
سنبدأ بالحلقة الأولى من سلسلة الخروقات القانونية، لنا أن نذكر في البداية بالتأويل المغلوط للفصل 80 من دستور 2014 الذي ينص على أنه “لرئيس الجمهورية في حالة خطرٍ داهمٍ مهددٍ لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذر معه السير العادي لدواليب الدّولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشّعب وإعلام رئيس المحكمة الدّستورية، ويعلن عن التّدابير في بيان إلى الشعب”، كما نلاحظ أن اتخاذ تدابير الحالة الاستثنائية، يشترط استشارة رئيس الحكومة و رئيس مجلس نواب الشعب و إعلام رئيس المحكمة الدستورية، إلا أن قيس سعيد لم يحترم هذه الشروط مما يجعل هذه التدابير مرفوضة شكلا بقطع النظر عن محتواها.
تبع ذلك إسهال من المراسيم، لعل أبرزها المرسوم 117 لسنة 2021 الذي منح قيس سعيد لنفسه صلاحيات واسعة من خلال الفصل 5 بالإضافة إلى تمكنه من السلطة الترتيبية العامة من خلال الفصل 11 التي كانت معهودة سابقا إلى رئيس الحكومة حسب أحكام دستور 2014 في حين لا يتمتع رئيس الجمهورية سوى بالسلطة الترتيبية الخاصة. كما أقرّ حل الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين بموجب الفصل 21 من المرسوم المذكور.
تلى ذلك إصدار المرسوم 54 لسنة 2022 الذي فتح المجال، من خلال القسم الفرعي الثالث الذي يحمل العنوان “في الإشاعة والأخبار الزائفة”، لمراقبة تدوينات الناشطين السياسيين على مواقع التواصل الاجتماعي وتصريحاتهم الإعلامية واعتبار كل تعبير عن رأي نشرا لأخبار زائفة وإضرارا بالأمن العام، لا يخفى على كل من درس القانون غموض مفهوم الأمن العام في ظل غياب نص تشريعي يعرفه، أي أن اعتبار ما ينشره ناشط سياسي ما إضرارا بالأمن العام يظل رهين تأويل القضاء العدلي، جهاز يثبت كل يوم ولاءه لرئيس الجمهورية.
بعد محاصرة الحق في التعبير امتدّت سلطة الإستبداد لتضع يدها على القضاء بإصدار المرسوم عدد 11 لسنة 2022 والمرسوم عدد 35 لسنة 2022 ومن آثاره القانونية حلّ المجلس الأعلى للقضاء وتعويضه بالمجلس الأعلى المؤقت للقضاء، ليصبح المسار المهني للقضاة سواء تعلق الأمر بتعيينهم أو بترقيتهم أو بإعفائهم أو بنقلتهم أو حتى بمحاكمتهم رهين جرّة قلم من رئيس الجمهورية، وهو ما يمثل ضربا صارخا لاستقلالية القضاء و حياده ونزاهته.
أمّا المسار الانتخابي فقد شهد منذ بداياته توظيف كل الوسائل لإقصاء المرشحين، بامتناع وزارة الداخلية عن تسليم البطاقة عدد 3 للمتقدمين للترشح لانتخابات 2024 وهي من الوثائق المطلوبة في ملف الترشح. وحسب الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان فرع المهدية فقد تقدّم مجموعة من المواطنين بشكاية لدى المحكمة الابتدائية مفادها تزوير تزكيات، باستعمال معطياتهم الشخصية التي قدّموها لأحد أنصار قيس سعيد لبعث شركة أهلية في تزوير تزكيات لفائدة المرشح عدد 3، ما يثير الانتباه هو تلكؤ القضاء العدل في البتّ في هذه العملية رغم سرعته القياسية في البتّ في قضايا مشابهة تتعلق بتزوير تزكيات لفائدة مترشحين آخرين. كما لم يتمكن المرشحان المنافسان من تنظيم حملتيهما الانتخابية، فقد واجه أحدهما حملة قضائية انتهت بالحكم بسجنه 12 سنة.
وفي سابقة خطيرة، رفضت الهيئة المستقلة للانتخابات، رغم طابعها الإداري، تنفيذ أحكام المحكمة الإدارية الصادرة عن الجلسة العامة، أعلى هيكل في تنظيم المحكمة الإدارية، التي نصّت صراحة على قبول الطعون التي قدّمها ثلاثة متقدمين للترشح للانتخابات وأقرت صراحة في منطوق حكمها حقهم في الترشح ودعت الهيئة إلى إدراجهم في القائمة النهائية للمترشحين. إلا أن الهيئة قدّمت شتى المغالطات لتبرير رفضها وقد ردّت رئيسة اتحاد القضاة الإداريين السيدة رفقة المباركي على جلها واعتبرت أن الهيئة قد غالطت الرأي العام بتعلات واهية في تصريحات لها لبعض الإذاعات مثل ديوان موزاييك.
لم يكتف قيس سعيد بما سبق بل وظف التشريع لصالحه أيضا، حيث نقّح مجلس النواب القانون الانتخابي، بإصدار القانون الأساسي عدد 45 لسنة 2024، أثناء الفترة الانتخابية وأياما قليلة فقط قبل موعد الاقتراع في خرق للقواعد المتعارف عليها دوليا بعدم تنقيح القانون الانتخابي خلال السنة الانتخابية ضمانا للمساواة بين المترشحين وعدم التأثير على إرادة الناخبين أو المساس بحرية اختيارهم، هكذا لم تبق أيّ ذرة نزاهة لانتخابات 2024. أقرّ مجلس النواب هذا التنقيح الذي سحب نزاعات نتائج الانتخابات من اختصاص المحكمة الإدارية و إسنادها للمحكمة العدلية، رغم أنها نزاعات ذات طابع إداري ولا علاقة لها بالقضاء العدلي، بالإضافة إلى أن هذا الأخير، كجهاز، يفتقد إلى الخبرة للبت في مثل هذه النزاعات. ويمثل سحب نزاعات النتائج من اختصاص القضاء الإداري ضربا للازدواجية القضائية ومبدأ الأمان القانوني واستقرار الوضعيات القانونية. كما يمثل خرقا لمبدأ اتصال القضاء، ذلك أن الجلسة العامة قد بتّت في نزاع الترشح وأقرت حكما نهائيا وباتا وغير قابل للطعن بأيّ شكل من الأشكال فلا يجوز إعادة نشر النزاع بين نفس الأطراف لنفس السبب نظرا لما يفرضه القانون من حجية مطلقة للأحكام.
كما رفع التنقيح يد محكمة المحاسبات عن اختصاصها القضائي الأصيل والحصري في إجراء الرقابة تمويل الحملات الانتخابية بوصفها الجهة القضائية المخوّل لها من حيث تكوين قضاتها واختصاصهم تولى مهمة مراقبة حسن التصرف في المال العام والحفاظ على نقاء الحياة السياسية من المال الفاسد، في حين أسندها في المقابل إلى القضاء العدلي الذي لا علاقة له بخصوصية تلك النزاعات وموجباتها وبطبيعة الرقابة المالية ومقتضياتها سواء من حيث اختصاصاته القانونية التقليدية أو من حيث تكوين قضاته.
لقد تتالت البيانات والتصريحات التي ندّدت بالخروقات القانونية التي تورّط فيها النظام استعدادا للانتخابات مثل بيانات الجمعية التونسية للقانون الدستوري، التي كان قيس سعيد نائب رئيسها لمدة تقارب 20 سنة منذ 1995، وأساتذة القانون والعلوم السياسية والجمعية التونسية للقضاة التونسيين واتحاد القضاة الإداريين، حيث اعتبرت هذه الهيئات والفعاليات تنقيح القانون الانتخابي ورفض تنفيذ أحكام المحكمة الإدارية ضربا لدولة القانون ومبادئ النظام الديمقراطي ولحياد القضاء ولنزاهة الانتخابات.

نظام بلا مشروعية

لم يشارك في الانتخابات الرئاسية لسنة 2024 سوى 28.8 % من المسجلين، أي أن قرابة ثلاثة أرباع المسجلين قاطعوا هذه الانتخابات نظرا لغياب مرشحين يعبّرون عن تطلعات الشعب التونسي، كما لم تتجاوز نسبة مشاركة الشباب سقف 6 %. يعود ضعف مشاركة التونسيين في الانتخابات إلى عدة عوامل منها عدم تحمل المترشحين للانتخابات مسؤولية وعودهم الانتخابية، إذ أصبحت هذه الأخيرة مرادفا للزيف والوهم. ووعود قيس عيد التي قدّمها سنة 2019 ليست استثناء، إذ لم يتحقق منها سوى 12% متعلقة أساس ببعث مجالس الأقاليم والجهات، التي تفتقد لأيّ صلاحيات حقيقية يمكن أن تساهم في تغيير الواقع المرير الذي يعيشه التونسيون.
بعد انقلابه على البرلمان وانقلابه على المكاسب الديمقراطية للشعب التونسي، انقلب قيس سعيد حتى على وعوده في احترام و حماية الدستور و ضمان الحقوق و الحريات و تطبيق لقانون، بإلغائه العمل بدستور 2014 بموجب إصداره المرسوم عدد 117 لسنة 2021 و هجومه على حرية التعبير من خلال المرسوم 54.
لقد حوّل النظام القائم البلاد التونسية إلى مركز احتواء للمهاجرين من أجل منعهم من الوصول إلى السواحل الإيطالية، بالنيابة عن السلطات الإيطالية، ضاربا بذلك السيادة الوطنية، المفقودة أصلا، عرض الحائط مقابل بعض الفتات. وبيّن أن خطاباته الانتخابية لسنة 2019 عن “الخيانة العظمى” لم تكن سوى مزايدة رخيصة، إذ رفض مجلس نواب الشعب تمرير قانون تجريم التطبيع الذي طرحه و فرضه الشعب التونسي بتحركاته في الشوارع، بل إن بودربالة قد صرح أن قيس سعيد دعاه صراحة إلى عدم تمرير هذا القانون بتعلة أنه يتعارض مع مصالح البلاد.

اقتصاديا واصل قيس سعيد سلسلة الفشل، ما تبينه عديد المؤشرات. يواصل الدينار انزلاقه المستمر ليصبح سعر الدينار الواحد 0.29 يورو ممّا يؤثر سلبا على المبادلات التجارية وعلى أسعار المنتوجات والقيمة الحقيقية للأجور. ارتفع بالمقابل عجز الميزان التجاري من 1617 مليون دينار إلى 2291 مليون دينار، كما بلغت نسبة عجز الميزانية 7.1 % واستقرت نسبة الفائدة على 8% وهي أعلى نسبة منذ سنة 2006 على الأقل. تراجعت نسبة النمو من 2% نهاية سنة 2021 إلى 0.2 % مسجلة في الثلاثي الرابع من سنة 2024.
أمّا على المستوى الاجتماعي نلاحظ تدهور الأوضاع منذ انقلاب 25 جويلية 2021 على عكس الخطابات الرنانة المحشوة بعبارة “الشعب” هنا وهناك، فقد ارتفعت نسبة تضخم المواد الغذائية من 8.5% إلى 9.2% بين شهري أوت و سبتمبر من سنة 2024، أي خلال شهر واحد. في حين استقرت نسبة التضخم في 6.7% خلال شهر سبتمبر 2024 مقابل 6.4% مسجلة في شهر جويلية 2021، في حين بلغت في شهر فيفري لسنة 2023 10.4% وهي تقريبا أعلى نسبة تضخم شهدتها البلاد منذ الستينات. أمّا في ما يتعلق بالبطالة، فلم تتمكن سلطة الانقلاب من تقديم أفق للمعطلين عن العمل إذ ارتفعت نسبة البطالة حسب الأرقام الرسمية من 15.2% مسجلة في الثلاثي الرابع من سنة 2022 إلى 16.2% مسجلة في شهر أوت 2024، كما بلغت نسبة المعطلين عن العمل في صفوف الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة 38% و هو ما يعكس عجز نظام قيس سعيد عن بلورة حلول للتخفيض من معدلات البطالة. ويعتبر مستوى الأجور في تونس من الأضعف على مستوى عالمي، إذ لا يتجاوز الأجر الأدنى 17.7 دينار في اليوم الواحد. كما يعاني التونسيون من شحّ المواد الأساسية وانقطاع البعض منها بالإضافة إلى الارتفاع المشط للأسعار الذي لم يستثن حتى أسعار العقارات السكنية التي ارتفعت بنسبة 15% خلال الثلاثي الأول من 2024.
من انعكاسات الأوضاع الاجتماعية الخانقة تضاعف عدد المهاجرين الغير نظاميين 6 مرات و نصف على الأقل واستفحال ظاهرة الإدمان على المخدرات والانتحار في ظل غياب سياسات إحاطة اجتماعية وتأطير ثقافي وانتشار اليأس و البؤس. إن هذه العوامل وغيرها من العوامل الأخرى التي ساهم النظام في تعمقيها تفسر مقاطعة أغلب التونسيين للانتخابات، ما يضع مشروعية النظام لا محل شك فقط بل محل الدحض أيضا. لقد أصاب حزب العمال في دعوته كل القوى السياسية ومكونات المجتمع المدني والفعاليات الحية وعموم التونسيين إلى مقاطعة هذه الانتخابات وهو ليس بالغريب عن حزب قدّم التضحيات من أجل الدفاع عن السيادة الوطنية والديمقراطية واقتصاد وطني يقطع مع خيارات الارتهان للخارج. و في نفس السياق نجحت الشبكة التونسية للحقوق والحريات في القطع مع حالة السكون والسلبية حتى أن شعار “الشعب يريد إسقاط النظام” عاد يجوب الشوارع التونسية من جديد. لكن لا زال الصراع السياسي متواصلا ويجب على حزب العمال أن يلعب دوره في تعبئة الفئات الشعبية حول برنامجه السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

إلى الأعلى
×