بقلم حمّه الهمامي
“التهدئة السياسية” مقابل الاعتراف بـ”الشرعيّة”: هذا هو الخطاب الجديد لجوقة الانقلاب. فبقدرة قادر انقلب الجماعة بـ180 درجة ليتحوّلوا من “صقور” إلى “حمائم”، من دعاة انقسام إلى دعاة “وحدة”، تاركين جانبا (إلى متى؟) خطاب “الحرب الدائمة”، مستبدلين إيّاه بخطاب جديد، ديماغوجي، مُخاتل. فقد أصبحت تونس، فجأة، “لكلّ التونسيين مهما كانت أفكارهم مختلفة” بعد أن كانت “لا مكان فيها للعملاء والخونة والمتآمرين والفاسدين والمناوئين والمتآمرين والأشرار”، وهي “الصفات الحميدة” الملصقة بمعارضي الانقلاب وسلطة الاستبداد. الحرب أعلنها قيس سعيّد بنفسه منذ مدة طويلة وظلّ في كلّ مرّة يؤجّجها وكانوا هم يخوضونها عبر بعض وسائل الإعلام التي فتحت لهم أبوابها. لقد برّروا كلّ القرارات والإجراءات والانتهاكات والمراسيم والقوانين الفاشيّة وشرّعوا كلّ الاعتقالات وشوّهوا الضّحايا من مختلف النزعات الفكريّة والسّياسيّة واستباحوا أعراض النّاس دون حسيب أو رقيب. وجنّدوا أنفسهم للدّفاع عن عمليّة السّطو على الإرادة الشعبيّة التي تمّت قبل أيّام. وبعد أن “اطمأنّوا” على النّتيجة، المضحكة المبكية التي دخل بها “الحاكم بأمره” نادي “التسعينات” كغيره من “الزعماء العرب”، نزعوا عن أنفسهم الأردية “الحربيّة” “العدوانيّة” ولبسوا أقنعة “السّلم والسّلام” دون أن تتوقّف بالطبع ماكينة “الحاكم” القمعيّة عن الاشتغال، اعتقالات ومحاكمات وقضايا تآمر جديدة الخ…
ولكن لا ينبغي الاعتقاد أنّ “التّهدئة” المعروضة من الجماعة هي “تهدئة” دون مقابل بل هي مشروطة. ويتمثّل الشّرط في الاعتراف بشرعية انقلاب 25 جويلية والنظام الذي انبثق عنه ونتائج المهزلة الانتخابية الأخيرة. فالاختلاف المزعوم مسموح به في هذا الإطار وفي هذا الإطار فقط مع التّحذير بأنّ مواصلة “التّشكيك” في الانتخابات وفي نتائجها “قد تمسّ أمن دولة كامل وأمن شعب كامل” وعلينا أن نفهم وحدنا مصير من يعرّض “أمن البلاد والشعب للخطر”. وبعبارة أخرى فإن المقايضة واضحة: “اعترفوا بالانقلاب وبنتائج المهزلة، وبالتالي بشرعية حكم قيس سعيّد، ونحن نوفّر لكم الأمان”، وبشكل أوضح: “اخضعوا لنا ونحن نسمح لكم بأن تكونوا ديكورا لنا”. وهو ما يذكّرنا بديمقراطيّة السابع من نوفمبر: “الحرية مضمونة في إطار الشرعية الدستورية”، أي في الحدود التي تفرضها عليك الدكتاتوريّة والتي تجعل منك تابعا أو بالأحرى ديكورا لها. وهو ما عاشته بلادنا طوال عقدين ونيّف من الزمن قبل أن ينتفض شعبنا ويُسقِط الدكتاتوريّة ويفتكّ حرّيته. وها إنّ قيس سعيّد الذي قام بانقلاب 25 جويلية 2021 وصفّى أهم مكسب للثورة، وهو الحريات السياسية، وأسّس نظاما سياسيّا “جديدا”، استبداديّا وقمعيّا، يبحث، من خلال ما توحي به تصريحات “العائلة والشُّرّاح والمفسّرين”، عن طريقٍ كتلك التي سلكها قبله بن علي لمغالطة “الناس” وترويض من يمكن ترويضه من ضعاف العزيمة والانتهازيّين والآكلين على كلّ الموائد.
وبطبيعة الحال ما كان لحاشية سلطة الانقلاب أن تفكّر في هذا التّكتيك الذي لا يزال مجرّد احتمال، من الضّروري بالنّسبة إلينا التّنبيه إلى خطورته مبكّرا، لولا المأزق الذي تتخبّط فيه هذه السلطة وعلى رأسها قيس سعيّد. إن الفشل يحيط بهذه السلطة من كافة الجوانب. فرغم ما اتّخذته من إجراءات قمعية وإقصائية لضرب حرية الترشح وفسح المجال أمام “الحاكم بأمره” ليرتع وحده في الحلبة، ورغم تلاعبها بالقوانين حتّى آخر لحظة لضمان “الفوز الشّعبيّ السّاحق” لهذا “الحاكم” فإنّها فشلت في ذلك فشلا ذريعا وخرج سعيّد “الفائز الخاسر” على طول الخط الذي لا يمكنه أن يتبجّح، لا بالشّعبيّة ولا بالشّرعيّة أو المشروعيّة. وهو ما تؤكّده نسبة عدم المشاركة المرتفعة جدّا (71.2%) والتي كانت أعظم في أوساط الشّباب (94 %)، مع علم أنّ معظم القوى السّياسيّة والمدنيّة دعت إلى المقاطعة زد على ذلك عزوف عن الصندوق أصبح يميّز السّلوك العامّ للنّاخبات والنّاخبين المحبطين. إن سعيّد سيحكم تونس بصلاحيّات مطلقة بل فرعونيّة وهو لا يتمتّع رسميّا، وفي انتخابات متحكّم فيها من أوّلها إلى آخرها، إلّا بتأييد حوالي رُبع النّاخبات والنّاخبين. ومن جهة أخرى فإن سعيّد يجد نفسه تقريبا في مواجهة مع كل التّيّارات الفكريّة والسياسيّة الوازنة بما فيها اليمين بمختلف أقطابه، ومع المنظّمات الأساسيّة للمجتمع المدني والإعلام والإعلاميين والنخب المثقّفة وفي مقدّمتهم اختصاصيّو القانون. يضاف إلى كل ذلك الوضع الاقتصاديّ والماليّ المتأزّم جدّا وما له من انعكاسات خطيرة على حياة الشّعب في مختلف المجالات كما يضاف إليها وضع إقليمي ودولي مضطرب جدّا، وهي كلّها عناصر لا تخدم سلطة الانقلاب والاستبداد وهو ما يفسّر احتمال أنّها تلجأ، ولو لفترة معيّنة تحتاجها لترتيب أوضاعها، إلى مناورة “التهدئة” لتخفيف الضّغط عليها ليس إلّا.
إنّ القوى الثّوريّة والدّيمقراطيّة التّقدميّة مطالبة بالتنبّه إلى كلّ السيناريوهات التي يمكن أن تلجأ إليها سلطة الانقلاب بعد فشل مهزلة 6 أكتوبر التي عمّقت عدم شرعيّتها ووسّعت دائرة معارضيها ومن بين هذه السّيناريوهات مناورة “التّهدئة” التي ما تزال كما أشرنا إلى ذلك في حدود بعض الأتباع، وبالتالي لا يمكن الجزم بأنها توجّه جديد لدى منظومة الحكم المستمرّة في خطابها القديم القائم على التّخوين والتّهديد والتّخويف الخ… ولكن لا بدّ في كل الحالات من أخذها بعين الاعتبار، “فالعضمة ما تقول طق إلا لازم ثمّة شق”، وعلينا أن ندرك مسبقا أنّ مناورة “التهدئة” المُلوَّح بها، لئن حصلت فهي لن تكون سوى محاولة لإيجاد متنفّس لسلطة الانقلاب وهي تبدأ “خماسيّة جديدة” تحمل مخاطر كبرى عليها وفي مقدّمتها عدم الاعتراف بشرعيّتها لأنّها سلطة نابعة من مسار انقلابيّ، رجعيّ ختمته بمهزلة انتخابيّة مضحكة، مبكية زادتها افتضاحا وعزلة. لكنّ هذه “التّهدئة” المشروطة بالاعتراف بشرعيّة الانقلاب ومؤسّساته الصوريّة ستكون مكلفة للشّعب؛ فلا الاستبداد وقمعه سيتوقّفان ولا سياسات التبعيّة والتّفقير والتّجويع ستنتهي، بل إنّ كلّ ذلك سيتواصل معمِّقا معاناة تونس وشعبها. ومن هذا المنطلق فإنّ الجواب السّليم على كل مناورات سلطة الانقلاب هو التمسّك بعدم الاعتراف بها ونزع كل شرعية عنها ومواصلة التصدّي لها يوميّا وعلى كافّة الواجهات السّياسيّة والاجتماعيّة والثّقافيّة، عبر العمل الدّؤوب في صفوف الشّعب لإخراجه من حالة الإحباط والعزوف عن الشّأن العامّ ولفّه حول برنامج وطنيّ، ديمقراطيّ، شعبيّ، ببُعديه التّكتيكيّ المباشر والمرحليّ، يعكس مطالبه وطموحاته ويبعث فيه الثّقة بأنّه من الممكن التخلّص من الشّعبويّة الرّجعيّة الفاشيّة دون عودة إلى الوراء، إلى ما قبل 25 جويلية 2021 أو 14 جانفي 2011.