بقلم حمّه الهمّامي
“الاستعمار لا يرفع يده إلا إذا جَعَلْتَ السكّينَ في عنقِه” فرانز فانون – “معذّبو الأرض” لا أخفي حسرتي الكبيرة على فقدان ساحة التحرّر الوطنيّ اللّبنانيّة والعربيّة والعالميّة الشّهيد الكبير السيّد حسن نصر اللّه الأمين العام لحزب الله اللّبنانيّ. هذا القائد الذي جمع بين القدرة على القيادة السياسيّة والقدرة على القيادة العسكريّة وأبدع في كلتيهما. لقد تميّز بمستوى تحليله الرّفيع والدّقيق للأوضاع وخاصّة لحالة موازين القوى في المنطقة، وهل للسياسة من تعريف عدا كونها “علم موازين القوى”؟ وهو ما جعل الاحتلال الصهيونيّ، بمستوطنيه وحكومته وجنرالاته يجلسون أمام تلفازاتهم كلّما تكلّم السيّد حسن نصر اللّه فأمّا الأُوَّلُ، الذين كانوا يصدّقونه أكثر ممّا يصدّقون حكومتهم، فمن أجل معرفة مصيرهم، وأمّا البقيّة من حكّام وجنرالات هًمّج فمن أجل تحليل/دراسة ما يخطّط لهم الرّجل. أمّا في المستوى العسكريّ فالفضل يعود إلى السيّد حسن نصر اللّه ومقاوميه في تطوير “حرب التّحرير الشعبيّة”، وهي أسلوب الشّعوب المقهورة البسيط الذي يعتمد الذّكاء وقوّة الإرادة في منازلة الأعداء والانتصار عليهم وعلى جيوشهم الجرّارة وآليّاتهم الحربيّة المتطوّرة. وليس هذا الحكم حكمَنا بل هو حكم أسطورة حرب التّحرير الشّعبيّة الفيتناميّة، العسكريّ العصاميّ، العظيم، الجنرال “فون نجوين جياب” (1911-2013) الذي يحمل في سجلّه هزم/تركيع ثلاث امبراطوريّات عسكريّة من أشنع ما عرف التّاريخ، وهي الامبراطوريّات اليابانيّة والفرنسيّة والأمريكيّة. فلمّا سئل الجنرال عن رأيه في الحرب التي خاضها حزب اللّه ضد الكيان الغاصب سنة 2006 وألحق به هزائم فادحة لم تلحقها به جيوش الأنظمة العربية “الجرّارة” أجاب بأن حزب اللّه “طوّر حرب التحرير الشعبيّة” بأن طعَّم صيغتها المعتادة (حرب العصابات وحفر الأنفاق) بوسائل التكنولوجيا الحديثة وأضاف إليها استعمال الأسلحة المتطوّرة من صواريخ وغيرها والأهمّ من ذلك المزج المتوازن والخلّاق بين تكتيكات حرب العصابات وخطط الجيوش النّظاميّة. ومن الأكيد أنّ الجنرال لو كان اليوم على قيد الحياة لأشاد بمزيد تطوير أسلوب الحرب الشعبيّة سواء من قبل حزب الله أو من قبل المقاومة الفلسطينيّة وعلى رأسها كتائب القسّام ولعلّق بالقول: “امضوا إلى الأمام فأنتم المنتصرون… إنّ الشّعوب لا تقهر”. إنّ انطلاقة المقاومة الشعبيّة في فيتنام تمّت بـ”جيش” قِوَامُه مجموعة لا تتجاوز 34 رجلا وامرأة شكّلها الجنرال عام 1944 في إحدى الغابات ولم يكن سلاحهم يتجاوز مسدّسين ورشّاشا خفيفا و17 بندقيّة. لكنّ هذه المجموعة ستتحوّل إلى جيش شعبيّ جرّار قاهر للامبراطوريّات الاستعماريّة العظمى ناهيك أنّه لا الامبرياليّة الفرنسية شُفيت إلى حدّ السّاعة من هزيمة “ديان بيان فو” (1954) التي بشّرت بانحدارها ولا الامبريالية الأمريكية تعافت من “متلازمة” فيتنام (syndrome du Vietnam). ومن المعلوم أنّ حسن نصر اللّه نفسه حوّل فصيله المقاوم، الذي خرج في بدايات ثمانينات القرن الماضي من رحم الحرب الأهليّة اللّبنانيّة واستلم هو شخصيّا قيادته سنة 1992، من مجموعات صغيرة إلى ما يشبه اليوم جيش التّحرير الشّعبيّ في عدده وتنظيمه وتسليحه وتدريبه واستراتيجياته وتكتيكاته وقدراته القتاليّة ناهيك أنه يعتبر الآن من أهم “جيوش المنطقة”. إنّ الحرب الشعبيّة هي أعظم ما أبدعه الثوّار لمقاومة عدوّ غاصب يتفوّق عليهم بقدراته العسكريّة والماديّة الكبرى وهي التي مكّنتهم من هزمه لأنّهم مسلّحون بإرادة قويّة يستمدّونها من شرعيّة قضيّتهم بينما عدوّهم الرّأسمالي، الامبريالي، الاستعماري، لا تحرّكه سوى نزعات الظلم والقهر والتّوسّع والاحتلال والهيمنة المدفوعة برغبة جامحة في الاستغلال والنّهب ومراكمة أقصى الأرباح على جماجم البسطاء والفقراء والكادحين. ولعلّ العديد من النّاس يجهلون أنّ مبدع الحرب الشعبيّة في صيغتها الحديثة التي ألهمت أعظم حركات التحرير المعاصرة وقادتها العظام هو واحد من أبناء جلدتنا، من منطقتنا وجهتنا، يتكلّم لغتنا ويلبس لباسنا (الجلّابيّة والبرنوس واللّحفة والكبّوس/الشّاشيّة…) ويطيل شاربيه كما نطيل شواربنا، إنّه المغربيّ الأمازيغيّ المسلم محمّد عبد الكريم الخَطَّابِي (1882-1963) الملقّب بأسد الرّيف، قاهر الاستعمار الفرنسيّ والإسبانيّ ومؤسّس “جمهوريّة الرّيف” التي دامت من 1921 إلى 1926. لقد كان أوّل من ابتدع حرب العصابات والخنادق والأنفاق. لقد نوّه عظماء قادة التّحرير الوطنيّ والنّضال المعاديّ للإمبرياليّة في عصرنا الحديث بهذا المقاوم العظيم الذي يقلّ الحديث عنه في بلادنا وفي الوطن العربيّ لأنّ اسمه ما زال يخيف أنظمة الطّغيان والعمالة ومثقّفيّ البلاطات. فقد قال في شأنه “هوشي منه” زعيم حركة التّحرّر الوطني الفيتناميّة ومؤسّس الجمهوريّة الفيتناميّة الشّماليّة (1890-1969): “لولا محمّد عبد الكريم الخطّابيّ لما استطعنا أن نهزم الفرنسيّين في الهند الصّينيّة لأنّه مبتكر أسلوب حرب حفر الأنفاق والخنادق وحرب العصابات بشكلها الحديث”. ومن المفارقات أنّ معركة “ديان بيان فو” التي هَزَمَ فيها الفيتناميّون جيش فرنسا الاستعماريّ (1954) بجنرالاته وعساكره وطائراته ودبّاباته ووجّهوا الضربة الحاسمة للإمبراطوريّة الاستعماريّة الفرنسيّة تمثّل نموذجا وإن كان أكبر وأضخم حجما، لمعركة “الأنوال” التي حاصر فيها جيش محمّد عبد الكريم الخطّابي الجيش الإسبانيّ من كلّ الجهات وهزمه هزيمة ساحقة.
كما كان الزّعيم الصينيّ الرّاحل ماو تسي تونغ، مؤسّس الصّين الحديثة من بين المُشِيدِين بالزّعيم المغربيّ. ففي زيارة أدّاها وفد فلسطينيّ بقيادة الرّاحل ياسر عرفات إلى الصّين سنة 1971 والتقى فيها ماو تسي تونغ يقال إنّ عرفات سأله عن تجربة حرب التّحرير الشّعبيّة الصينية بغرض الاستفادة منها فإذا بالزّعيم الصّينيّ يجيبه: “جئتم تريدون أن أحدّثكم عن حرب التّحرير الشّعبيّة في حين يوجد في تاريخكم القريب عبد الكريم الخطّابيّ الذي هو أحدُ المصادر الأساسيّة التي منها تَعَلَّمْتُ الكَثِير”. أمّا آخر المرويّات فعن المناضل الأمميّ الذي ملأ الدّنيا وشغل النّاس في حياته وبعد مماته على حدّ سواء، أرنستو تشي غيفارا الذي مازال البعض يعتقد أنّه مبدع حرب العصابات. لقد زار غيفارا مصر لأول مرّة سنة 1959 وكان الهدف الحقيقي من هذه الزيارة ملاقاة محمّد عبد الكريم الخطّابي الذي قضّى آخر فترة من حياته بالقاهرة. وقد توجّه إليه غيفارا حين التقاه بالكلمات التّالية: “أيّها الأمير لقد أتيت إلى القاهرة خِصّيصا لكي أتعلّم منك” وهو يقصد تعلّم حرب العصابات والخنادق التي سيستعملها في حروبه، بعد مغادرة كرسيّ الوزارة في كوبا (1965)، في الكونغو كينشاسا وفي بوليفيا حيث استشهد سنة 1967 وهو يقاوم على يد أعوان المخابرات المركزيّة الأمريكيّة (سي أي أي) بمساعدة القوّات البوليفيّة الرجعيّة. إنّ محمّد عبد الكريم الخطّابي، “أستاذ الثّورات الشّعبيّة” كما لقّبه البعض، هو إذن من أبناء جلدتنا وقريب جدّا منّا. وهو ما يؤكّد عظمة شعوبنا وقدرتها، كلّما توفّرت لديها الإرادة (إذا الشّعب يوما أراد الحياة…)، على الكفاح وتحقيق تحرّرها حتّى من أبشع الامبراطوريّات الاستعماريّة (ومثال جزائر المليون ونصف شهيد ماثل إلى اليوم بين أعيننا). ولا نخال حسن نصر الله ورفاقه والسّنوار ورفاقه في كتائب القسّام وفي مختلف فصائل المقاومة الفلسطينيّة إلا امتدادا لذكاء محمّد عبد الكريم الخطّابي في ظروف اليوم ومعطياتها. وهو ما ينبغي أن يلهمنا على الدّوام ويدفعنا إلى مقاومة روح الهزيمة والإحباط التي يحاول زرعها العدوّ الامبرياليّ الصّهيونيّ وأدواته من صهاينة العرب الأذلّاء في النّفوس. فنحن لنا أبطال عظام ولنا بطولات عظيمة وما ينقصنا هو وعيها لتتحوّل إلى جزء من هويّتنا لنكون في مستوى مسؤوليّتنا التاريخيّة. لقد كان محمّد عبد الكريم الخَطَّابي يؤكّد دائما على ضرورة تحمّل المسؤولية كلّما تعلّق الأمر بحريّة الشّعوب وحقّها في تقرير المصير: “عدم الإحساس بالمسؤوليّة هو السّبب في الفشل، فكلّ واحد ينتظر أن يبدأ غيره” وأضاف في مناسبة أخرى: “ليس في قضيّة الحريّة حلّ وسط”. فلنواصل مسيرة أسلافنا ولنبادر بالنّضال والمقاومة دون خوف ولا تردّد، كلّ من موقعه وكلّ حسب ظروف بلاده لنكون خير خلف لخير سلف. إنّ المقاومة صامدة بعد عام من انطلاق “طوفان الأقصى” ومن حرب الإبادة الصهيونيّة النّازية والثّابت أنّها ستنتصر مهما بلغت وحشيّة المحتل الغاصب وشركائه الإمبرياليّين الملطّخ تاريخهم بدماء الشعوب ومهما بلغت نذالة عملائهم من العرب المتصهينين الذين يرون في الامبريالي الصّهيوني “المنقذ” من غضب شعوبهم الذي ينتظر لحظة الانفجار ومن حركة المقاومة التي لن يوقفها أيّ ظَلَّامٍ عن التقدّم مهما كانت الصّعوبات والتّضحيات. “فلا كرامة دون ألم” كما قال الكاتب الفرنسي الشّهير “أندري مالرو” في روايته “الشّرط الإنساني”، و”الخوف لا يمنع الموت ولكنّه يمنع الحياة” كما قال نجيب محفوظ في رائعته: “أولاد حارتنا”. و”الضّربة اللّي ما تقسمش الظهر تقوّيه” كما يقول المثل الشّعبي التونسيّ. وما من شكّ في أنّ المطلوب منّا الآن وهنا، شعوبا عربيّة وإسلاميّة ونخبا ثورية ووطنيّة، أن ننهض بقوّة من أجل وضع حدّ لحرب الإبادة في غزّة الشّهيدة، المقاوِمَة كوقف العدوان على لبنان الأبيّ. إنّ نهوضنا من شأنه أن يمنح الحركة العالميّة المناهضة للإمبريالية والصّهيونيّة في البلدان الغربيّة الكبرى نفسا جديدا لمزيد الضّغط على الحكومات المشاركة في العدوان. إنّني واثق كلّ الوثوق بانتصار المقاومة في نهاية المطاف ولكن علينا أن ننهض بالقوّة اللّازمة ونتحمّل مسؤوليّتنا بالكامل للتّسريع بهذا الانتصار. “فمن لمْ يعانقه شوق الحياة *** تبخّر في جوّها واندثر” كما قال شاعر تونس الثائر أبو القاسم الشابّي. وفي الختام… ترجّل السيّد حسن نصر اللّه تاركا أثرا عظيما… وأنا على يقينٍ من أنّ المقاومة ستسّتمرّ وسيرتقي بها الذين سيخلفونه في القيادة وفي الميدان، مثلما ارتقى بها هو، إلى درجات أعلى مستوعبين التّجربة السّابقة ومضيفين إليها ما سيبدعونه بذكائهم وخبرتهم حتى النّصر الكامل… وهو آتٍ لا ريْبَ فيه… فإلى الأمام يا أحفاد محمد عبد الكريم الخطّابي فأنتم وإخوتكم في فلسطين تمثلون الأبطال الحقيقيّين… فالبطولة يصنعها الناس البسطاء الأقدر على إدراك معنى الكرامة الإنسانيّة. هذه خواطر أردتّ أن أعبّر من خلالها عن محبّتي وتقديري لشهيد المقاومة الأبيّ، الكبير السيّد حسن نصر الله. تفرّقنا الأيديولوجيا والقناعات وتجمعنا القضيّة: تحرير فلسطين من النّهر إلى البحر وتحرير كامل الوطن العربيّ من الاستعمار والصّهيونيّة والرّجعيّة. وهذه القضيّة تحتلّ اليوم أعلى المراتب وتتراجع أمامها الخلافات الفكريّة والعقائديّة إلى مرتبة ثانية. وقد أردت الرّبط بين حسن نصر الله ومحمّد عبد الكريم الخطّابي لإبراز “صلة الرّحم” بينهما وتأكيد العمق التاريخي لنضال شعوبنا في العصر الحديث وتأثيره الأممي… مع علم أنّ أحفاد الخطّابي، أبطال حراك الرّيف لسنة 2016 وعلى رأسهم ناصر الزّفزافي يقبعون منذ سنوات في سجن النظام المخزني المغربي المطبّع مع الكيان النازي وقد حكم عليهم بالسجن لمدة 20 سنة نافذة…
وداعًا سيّدَ الشّهداء
ولك، ولكلّ الشّهداء الأبرار، الخلود إلى أبدِ الآبدين…
“إنَّ ذَا عصْرُ ظُلمَة غير أنِّي
من ورَاءِ الظّلامِ شِمْتُ صَبَاحَهْ”
تونس، في 25 أكتوبر 2024