يشرع مجلسي الدمى قريبا في النظر في مشروع الميزانية الخاص بالعام المقبل 2025. وقد اتّجهت جوقة المساندين إلى الانخراط مبكّرا في حملة دعائية مفادها أن هذه الميزانية بالذات هي “ميزانية سعيّد” الذي طبعها بطابعه “السيادي والاجتماعي”. ولئن كانت الميزانيّة هي بالفعل “ميزانيّة سعيّد” فإنها في جوهرها لاهي سيادية ولا هي اجتماعية وإنما مجرّد امتداد للميزانيات السابقة في الشكل والمضمون. فمن ناحية الشكل لم يخرج مشروع الميزانية عن السياق التقني للميزانية السابقة التي لا تطرح تصورات وإنما تكتفي بمجرد عرض “عملية محاسبية” حول كيفية الحصول على الموارد لضمان مواصلة تسيير الدولة والحفاظ على نسبة عجز لا تتجاوز 6 بالمائة في ظل أزمة عميقة وشاملة ومتفاقمة.
أمّا من ناحية المضمون فإن السمة العامة الأولى للمشروع هي أنها ميزانية “تقشفية” وليست “توسّعية” بما ينفي مبدئيّا أيّ توجّه اقتصادي واجتماعي وخدماتي يستهدف النهوض بالقطاعات الإنتاجية الأساسية لخلق الثروة أو إدخال تحسينات هيكلية على الخدمات الاجتماعية المتدهورة من تعليم وصحة ونقل وبيئة وثقافة فالتوجهات نفسها والنفقات بقيت تقريبا كما هي مع زيادات طفيفة لا تلبّي حاجة النهوض بتلك الخدمات مقابل الاستمرار في الزيادة كل سنة في ميزانية الرئاسة. أمّا السمة الثانية فتتمثل في كونه، أي مشروع الميزانيّة، يكرّس مواصلة الاعتماد على الاقتراض الداخلي والخارجي مصدرا أساسيا للموارد المالية (28003 م د) وهذا الاقتراض وإن كان لا يشمل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي فإنه يهم جهات مالية محلية ودولية ليست أرحم منهما بل إن نسب الفائدة التي تمنح بها القروض أكبر أحيانا من نسب فائدتهما.
وتتمثل السمة الثالثة في التطبيق الحرفي لتوصيات صندوق النقد الخاصة بتجميد الانتدابات وتسريح القوى العاملة للضغط على كتلة الأجور وعدم تعويض المتقاعدين وتشجيع موظفي القطاع العام وعماله على التقاعد المبكّر من خلال العودة للإجراءات الخاصة بذلك والتي اعتمدت في السنوات الفارطة مع حكومتي الصيد والشاهد. أمّا حول مغالطة بداية اعتماد الضريبة التصاعدية، فإن ذلك غير صحيح رغم استفادة قسم من الإجراء من ذوي الأجور الأقل من ثلاثة آلاف دينار من زيادة طفيفة في الأجر. إن هذه الاستفادة ستظل غير ذات جدوى بحكم التدهور الفظيع للمقدرة الشرائية نتيجة الارتفاع الجنوني والمستمر في الأسعار الذي لا يقابله التعويض المناسب في مستوى الأجور وكذلك لأن التحسين الجزئي للأجور سيدفع فئات جديدة إلى اقتطاعات جبائية جديدة في العام المقبل بما يعزز وضعية ما يمدّ باليمين يسحب باليسار.
أمّا الإجراءات التي تهم القطاعات الأساسية في الإنتاج والبنية التحية فهي هامشية بما يحافظ على الطابع غير المنتج للاقتصاد ومن البديهي أن الاقتصاد الذي لا يخلق الثروة يفاقم التبعية عبر اللجوء إلى مزيد الاقتراض من جهة كما يفاقم تفقير الطبقات والفئات الكادحة والشعبية بما فيها الفئات الوسطى بسبب اللجوء إلى الزيادة في الضرائب ويرفع في نسب البطالة (16 % حاليا) والفقر والبؤس (حوالي ربع السكّان) بسبب انسداد آفاق التشغيل وضعف المداخيل. إن النفقات المخصصة للاستثمار مثلها مثل السنة الفارطة أقل حتّى من فائدة القروض: 5489 م د مقابل 6487 م د. وهو ما من شأنه أن يفاقم الأزمة الهيكلية لاقتصاد بلادنا.
إن ميزانية 2025 وما سيتبعها من قانون مالية سيكشف مرّة أخرى الطبيعة الرجعية المعادية للوطن والشعب لنظام قيس سعيّد الشعبوي اليميني المتطرف. فالوطن سيغرق في مزيد التبعية وحالة الشعب المادية والمعنوية ستتدهور أكثر على وقع تفاقم البطالة والفقر وتردي الخدمات الأساسية وتواصل غياب مواد أساسية للاستهلاك مثل الحليب والسكر والقهوة علاوة على الزيادات المشطة في أسعار مواد أساسية طبّع أغلب التونسيين مع عدم القدرة على شرائها واستهلاكها. كلّ ذلك في مناخ سياسي يتّسم بتصعيد قمعي خطير يطال الأحزاب والمنظمات والجمعيات والأفراد من مختلف النزعات الفكرية والسياسية ومن مختلف مجالات النشاط النقابي والمدني والثقافي. إن شعبنا لا خيار أمامه، من أجل التصدي للتفقير والتهميش الممنهجين، سوى الخروج من الصمت وإعلاء الصوت ضد الخيارات اللاوطنية واللاشعبية السائدة والعمل بشكل واع ومنظم على وضع حدّ لها بالتخلص من النظام الذي ما انفك يعيد إنتاجها حتى وإن كان يلبس اليوم لبوس الشعبوية اليمينية المتطرفة.