بقلم علي الجلولي
أصدرت وزارة العدل يوم 27 أكتوبر بلاغا توجهت به إلى مستعملي الوسائط الاجتماعية وخاصة “تيك توك” و”أنستغرام” محذرة من انتشار ظاهرة عرض محتويات معلوماتيّة متعارضة مع الآداب العامّة ومخلّة بالأخلاق الحميدة والقيم المجتمعية ومؤكدة أنها أذنت للنيابة العمومية بالتصدي بقوة لهذه الممارسات وفتح أبحاث جزائية ضد كل “من يتعمّد إنتاج أو عرض أو نشر بيانات معلوماتيّة أو بث صور أو مقاطع فيديو تحتوي على مضامين تمسّ من القيم الأخلاقيّة”. وقد تراوحت التّفاعلات بين مؤيّد وحتّى “مطبّل” لمحتويات البلاغ وبين مشكّك في نوايا السلطة ومذكّر بظروف صدور المرسوم 54 سيّء الصّيت ومتسائلا إن لم يكن الهدف الحقيقي من تحرك وزارة العدل مواصلة سلطة الانقلاب، في سياق ما بعد مهزلة 6 أكتوبر، وضع اليد على مجمل مفاصل المجتمع بعد أن وضعتها على مفاصل الدولة.
لا شكّ في أنّ وسائل التواصل الاجتماعي تحوّلت في عديد الحالات إلى منصة ثلب وتجريح وانتهاك حرمة الأشخاص وحياتهم الخاصة ونشر البذاءة والتفاهة جريا وراء كسب المال بأرذل الوسائل. وصحيح أيضا أن بعض الأوساط “المسيّسة” انخرطت منذ سنوات في هذه الموجة، موجة السبّ والتجريح والتشويه، وهي على الغالب أوساط قريبة من الحكم ومساندة له لذلك لم تنلها المساءلة والمحاسبة. عشنا هذا قبل الثورة كما عشناه بعدها مع حكم حركة النهضة وحلفائها ونعيشه اليوم مع سلطة الانقلاب حيث طال القمع نشطاء ومدونين ومعارضين سياسيين ومواطنين على خلفية آراء لم تمسّ الحرمة ولا الشرف بل اتسمت بنقد سياسات الدولة ورموزها بينما ظلّ “الموالون والتبّع” يرتعون كما يشاؤون دون حسيب أو رقيب. وهو ما يشرّع طرح ألف سؤال وسؤال عن الأهداف الحقيقية وراء إثارة سلطة الانقلاب اليوم ملف الانحلال الأخلاقي على صفحات التواصل الاجتماعي.
فهل أن هذه الأهداف تندرج في سياق معالجة الأزمة الأخلاقية/القيمية العميقة التي تعصف بالمجتمع أم في إطار توظيف الظاهرة كما تفعل كل الشعبويات اليمينية المتطرفة للظهور بمظهر المحافظ على “الأخلاق والآداب العامّة والعائلة” من جهة وللتغطية على مكامن الفشل في مختلف الملفات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى من جهة ثانية ولمزيد التضييق على الحريات ومضاعفة المسوّغات للإيقاع بمنتقدي سلطة الانقلاب ومعارضيها بعد مهزلة 6 أكتوبر من جهة ثالثة. وهذان الاحتمالان الثاني والثالث هما الأرجح أخذا بعين الاعتبار سلوك سلطة الانقلاب منذ انتصابها. إن من يريد معالجة الأزمة الأخلاقية/القيمية لا يمكن أن يحصر هذه المعالجة في الإجراءات القمعية فالمسألة أعمق وأشمل وأدقّ من أن يحسمها وضع بعض العناصر في السجن، هذا علاوة على أن الظاهرة مركبة ومعقدة ولها أبعاد كونيّة، بل لا بدّ أولا وقبل كل شيء من التعمق في تحليل مظاهرها وأسبابها لإيجاد الحلول المناسبة والناجعة لها وهو ما لا علاقة له بتمشّي سلطة الانقلاب.
إن التدهور القيمي في المجتمع تتحمل فيه الدولة مسؤولية أولى وأساسية وهو جزء لا يتجزّأ من الأزمة العامة والشاملة التي تغرق فيه مجتمعنا. وإذا كانت الأزمة الأخلاقيّة/القيميّة مزمنة في مجتمعنا وتواصلت بعد الثّورة مع المنظومة التي حكمت البلاد بشقّيها “الإخواني” والليبراليّ، فإنّها لم تهفت بعد انقلاب 25 جويلية 2021 بل تفاقمت لأن مسبّباتها الاقتصاديّة والاجتماعية والسياسية والثقافية ظلت قائمة. فالنيوليبرالية المتوحشة التي تعمّق الفقر والبطالة والبؤس وتدمّر التعليم والصحة والثقافة وتحوّل كل شيء إلى سلعة وتجعل من اللهث وراء الربح والمال هدفا أساسيا للوجود وتنشر قيم الفردانية و”تدبير الراس” والكذب والعنف والبذاءة عبر أجهزتها الدعائية من قنوات تلفزية وإذاعية وتتوجه إلى الغرائز وتغتال العقل وتخلق الأرضية المناسبة للانحراف بمختلف أشكاله لا يمكن أن تنتج إلّا مجتمعا مريضا. وفي هذا السياق ماذا قدم سعيد من علاج لكل هذا؟ لا شيء بالطبّع بل إنه استمر في تكريس نفس الخيارات الرجعية التي تعمّق الأزمة.
وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن الدولة وخطابها الرسمي وخاصة خطاب رئيسها هو خطاب عنيف وتقسيمي لا يختلف في شيء عن خطاب كل الأنظمة الاستبدادية والفاشية التي تعادي الديمقراطية وترى في خصومها ومنتقديها “حشرات” و”ميكروبات” و”زواحف وأفاعي” و”خونة” و”متآمرين” و”عملاء للأجنبي” لحشد “الجمهور” ضدهم وتبرير اضطهادهم. كما أنه خطاب سقط أكثر من مرة في الثّلب وهتك الأعراض حين وصف قاضية بالزانية وقاضيا بالسكير لتبرير عزلهما التعسّفي. وقد ظل خطاب جوقة الطبالين ينهل من هذا المعجم وهم يتصرفون دون حسيب أو رقيب. أمّا الربط الآلي بين الوسائل التقنية والسلوكيات والظواهر الإجرامية مثل الإتجار بالمخدرات فواضح أنه يهدف إلى خلق تعلات لمزيد استهداف الحريات مثل ما حدث في سياق تسويق المرسوم 54 الذي تم ربطه بالتصدي لتوظيف الوسائط الاجتماعية في الثلب والشتم وهتك الأعراض.
إن الأمر يتعلق مرة أخرى بكلمة حق يراد بها باطل، والباطل هذه المرة سيكون عودة مكثفة لجهاز الرقابة وإلغاء لمكسب الحرية أو ما بقي منه. أمّا معالجة الأزمة الأخلاقية/القيمية فتتطلب وجود مناخ اقتصادي واجتماعي وسياسي وثقافي وتربوي يسمح بذلك. وهو ما يتطلب تغييرات جوهرية في المجتمع يأتي على رأسها وضع حدّ لنظام الاستبداد وقاعدته الطبقية. وإذا كان من اللازم التصدي للأفراد الذين يستعملون الأنترنيت للثلب والقدح والمسّ من كرامة غيرهم فإن ذلك ينبغي أن يتمّ دون كيل بالمكيالين ودون محاباة لهؤلاء واستهداف لأولئك وهو ما يتطلّب تغيير واقع القضاء ليتصرف بعدل في إطار منظومة قانونية ديمقراطية وعادلة. وهو شرط مفقود اليوم.
إن بلاغ وزارة العدل لا يهدف لحماية المجتمع بل يهدف أساسا للإجهاز عمّا بقي من حرية باسم محاربة الجريمة التي تخلق لها الدولة وخياراتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية كل شروط الاستفحال والتوسع. إن القوى التقدمية وأنصار الحرية مطالبون بالتصدي لكل هجوم على الحرية. فأقصر الطرق للتباين مع الاستبداد هو الانحياز للحرية والدفاع عن مربعاتها حتى لا تضيع وفي نفس الوقت على هذه القوى العمل بجدية على بلورة البديل المشترك القادر على إخراج بلادنا وشعبنا من النفق وفتح آفاق رحبة لهما للنهوض والتطور والتقدم ومعالجة الأزمة الأخلاقية/القيمية معالجة عميقة وحقيقية.