بقلم كمال عمروسية
لاحظنا في الآونة الأخيرة تواتر الزيارات الليلية لسعيد، وهي زيارات اصطلح عليها بالفجئية، أي غير المعلنة، يؤديها إلى عدد من المدن والمنشئات والمؤسسات، ولعلّ آخرها الزيارة إلى هنشير الشعال الواقع في ولاية صفاقس، وهو الذي يُعَدّ ثاني أكبر غابة زيتون في العالم. كذلك الزيارة إلى مدينة القيروان وبالتحديد إلى المعلم التاريخي فسقية الأغالبة. وتجدر الإشارة إلى أنه في السابق تمّت زيارة منشئات أخرى على غرار الملعب الأولمبي بالمنزه وحديقة البلفدير.
إن أسلوب الزيارات المباغتة والفجئية ينشط ذاكرة المواطن التونسي ويعود بها إلى زمن الحكم البنعليني الذي دأب على ذلك طويلا ولعل الفرق الوحيد بين زيارات بن علي وزيارات سعيد هو التوقيت، إذ غالبا ما تكون زيارات حاكم قرطاج الحالي ليلا. إن الهدف من هذه الزيارات هو خلق انطباع أن الرئيس حريص ومسؤول ومهتم بمؤسسات ومنشئات الدولة وعاقد العزم على محاربة الفساد والمفسدين وتعقبهم وملاحقتهم وقطع دابرهم، هذا طبعا بالإضافة إلى تثبيت صورة الرئيس المهاب والصالح في أذهان الشعب من ناحية والإبقاء على الإدارة التونسية تحت طائلة الخوف والذعر من مغبة أي زيارة محتملة من ناحية ثانية.
بهذا الشكل يعوّض الرئيس كل الإدارة أو لنقل شيئا فشيئا تختزل الإدارة في شخصه بحيث يصير كامل طاقمه الوزاري الذي عيّنه لا نفوذ ولا أثر لهم، وكبار مسؤولي الإدارة يتحوّلون إلى مجموعة من العجّز، ولولا تدخل سيادته لظل الماء مسكوبا على الزيت دهرا.
هكذا بكل بساطة تتكرس دعائم الحكم الفردي المطلق ويتحوّل الحاكم إلى المنقذ الوطني والمسؤول الوحيد ولولاه تضيع البلاد والعباد، بمعنى آخر لا دور للمؤسسات والأطر، ويحل الفرد الخارق للقوة بدلها. إذ أنه بعد تاريخ 25 من شهر جويلية 2021 انطلق مباشرة في تعليق أعمال أو تغيير المؤسسات التعديلية المستقلة وذلك بإغلاق الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بالقوة العامة، ونعتقد أن ذلك من صميم ميزات الأنظمة الفاشستية التي تعدم المؤسسات المستقلة وتلغي المنظمات والهيئات ويعوّضها الرجل المفدّى. إن النظر من زاوية أخرى يكشف أن تلك الزيارات تغطي على فشل ذريع في تطوير واقع بلادنا وإيجاد حلول جذرية لمشاكلها والبحث عن أكباش فداء للتغطية على الانهيار المتواصل نتيجة الخيارات اللاوطنية واللاشعبية وهي بمثابة مسكنات للجماهير وإمعان في مغالطتها والحال أن المسؤولين السياسيين وعلى رأسهم قيس سعيد لم يوفّروا الموارد المالية لتعبئة الميزانية والعمل على تحقيق النمو المنشود، بل إن بلادنا تغرق شيئا فشيئا وتتراجع على جميع المجالات.
إن قيس سعيد كان مطالبا بالإيفاء بالتزاماته أثناء عهدته للفترة الممتدة بين 2019 و2024، فحسب منظمة أنا يقظ وخلال الندوة الصحفية التي عقدتها بتاريخ 27 جويلية 2024 رصدت جملة وعود سعيد المقدرة بـ 72 وقد بلغت نسبة عدم تحقيق هذه الوعود 87.5 %. إن مدينة القيروان على سبيل المثال والتي زارها مؤخرا كان قد وعد فيما مضى بتشييد مركب صحي وضع له حجر الأساس من قبل الرئيس الأسبق الراحل الباجي قايد السبسي والعاهل السعودي منذ 29 نوفمبر 2021، وإلى يوم الناس هذا دار لقمان على حالها وأصبح هذا المشروع مصدرا للتندّر أحيانا والاستهجان أحيانا أخرى. ولقد كانت جملة الوعود التي أطلقها سعيد في المجال الصحي لا تتعدى الأربعة من بينها كما أشرنا سلفا تشييد مدينة الأغالبة الطبية بالقيروان. إن النهوض بواقع البلاد لا يكون بإسداء الوعود جزافا ولا بالزيارات المنظمة وغير المنظمة. على خلاف ذلك فالمطلوب التخطيط والتنفيذ، على سبيل المثال فإن هنشير الشعال الذي زاره منذ أيام قيس سعيد وهو يضم 380 ألف شجرة زيتون وهو الثاني بعد غابة كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية وهو تحت تصرف الدولة التونسية وهاته الغابة كان لها دور مهم في الاقتصاد التونسي وساهمت بشكل كبير في حل أزمة التشغيل طيلة عقود، ولكن الدولة تخلت منذ سنوات على أدوارها الطبيعية تجاه هذا الصرح، والحقيقة فإن حال هذا الهنشير من حال المؤسسات التونسية المنتجة والداعمة للاقتصاد التونسي ولكنها تشهد انهيارا متواصلا بسبب تخلي الدولة عن دعم هذه المنشئات بالموارد المالية والبشرية وبذلك يسهل الترويج أنها عبء على المالية العمومية وتتكثف الدعايات في خصوصها بضرورة التفويت فيها إمّا للرأسمال التونسي أو على الأغلب الرأسمال الأجنبي. إن عديد الأسئلة يمكن طرحها في خصوص هذا الهنشير مثلا:
لماذا انهار هذا المعلم الاقتصادي والتاريخي؟ لماذا توقفت الانتدابات في هذه المؤسسة؟ أين كان الحكام طيلة السنوات الفارطة ومن بينهم قيس سعيد؟… يفترض بدل الاستعراض والغلق الانكباب على النهوض بهذا الصرح ودعمه حتى يعود إلى سالف نشاطه.
إن العبث والارتجالية في تسيير شؤون الحكم تتلخص في بروبقندا بالية قوامها تلميع صورة الحاكم الفاشل وبدل الاحتكام للبرمجة والتخطيط الاستراتيجي والمساءلة وبذلك يغيب عامل ومعطى مهم وهو الشفافية ونغرق في الفوضى والشعوذة السياسية والخبط العشوائي والنتيجة يتحمل مسؤولية الفشل الجميع باستثناء الرئيس.
انطلقنا من أن نقاط التشابه كثيرة بين الزيارات التي كان يقوم بها بن علي و حاكم قرطاج اليوم ونعتقد أننا سنبلغ نفس النتائج، فهاته الجولات لن تنهي مطلقا معاناة الشعب التونسي، ولن تضع حدا لتوسع الفقر وانتشار ظاهرة الهجرة غير النظامية وارتفاع منسوب الجريمة، ولن توقف الانهيار الاقتصادي و لن تزيد في نسبة النمو ولن تضع حدا للأزمة الاجتماعية المتفاقمة ولن تنهي الأزمة السياسية التي تعيشها بلادنا ولن تحوّل حياة الشباب التونسي إلى نعيم وتقلص من بطالته ولن تحقق سيادتنا الوطنية ولا سترفع صوت الحكام في تونس قولا وفعلا ضد الصهيونية والامبريالية. وفي الختام كل ذلك لن يمنع الشعب التونسي من كشف الحقيقة ولن تنطلي عليه مطوّلا هذه الحيل وسينهض من أجل مقاومة كل مظاهر الصلف والظلم والجور.