بقلم شيراز بن حسين
يبدو أنّ انخراط الصحافي في الدفاع عن الحقوق والحريّات كما يقتضيه الواجب المهني قد بات يشهد تراجعا ملحوظا ومثيرا للانتباه، وهو ما بات يطرح أكثر من سؤال حول دور الصحافي في المجتمع وأمام السلطة الحاكمة. واعتبارا لأهمّية هذه المهنة النبيلة فقد بات من الضروري على الهياكل المهنية اليوم أن تجد آليات جديدة للانتباه لمثل هذه الانحرافات التي ينتهجها طيف من الصحافيين سواء عبر صفحاتهم الخاصة أو وسائل الإعلام التي ينتمون إليها عبر تصريحات ومواقف مثيرة للاستغراب.
بتاريخ 27 أكتوبر 2024، نشرت وزارة العدل بلاغا مفاده بأنّ الوزارة قد أذنت للنيابة العمومية باتخاذ إجراءات قانونية للتصدّي لممارسات و فتح أبحاث جزائية ضدّ “انتشار ظاهرة تعمّد بعض الأفراد استخدام شبكات التواصل الاجتماعي وخاصة تيك-توك وانستغرام لعرض محتويات معلوماتية تتعارض مع الآداب العامة أو استعمال عبارات أو الظهور بوضعيات مخلّة بالأخلاق الحميدة أو منافية للقيم المجتمعية من شأنها التأثير سلبا على سلوكيات الشباب الذين يتفاعلون مع المنصّات الإلكترونية”، ومباشرة بعد ذلك انطلقت حملة عبر مواقع التواصل تعبّر عن تبنيّها للبلاغ والإجراءات المعلنة حماية لما أسموه “الأخلاق الحميدة” وللمجتمع وقد انخرط فيها صحافيون عبر تدوينات وتبريرات غير مقنعة لمنظومة حكم لا تدّخر جهدا في الزجّ بالسجن مهما كانت “التهمة”، بل إنّ هذه الحملة التي انطلقت لم تخلو من التشفّي والسبّ والشتم ضدّ ما أصبح يعرف في هذا العصر بالمؤثّرين والمؤثّرات/ صنّاع المحتوى الذين اجتاحوا عالم مواقع التواصل الاجتماعي.
أحكام زجرية سالبة للحرّية حماية لـ”الأخلاق الحميدة”؟
لقد برّرت مواقف عدد من الصحافيين الإجراءات التعسّفية التي أطلقتها وزارة العدل بتعلّة أنّ المضامين التي يقدّمها هؤلاء المؤثّرون قد أصبحت خطيرة على الناشئة والمجتمع وقد بات من الضروري اتخاذ إجراءات عقابية ضدّهم حماية لما يسمّى “الأخلاق الحميدة” التي تحوّلت في يومنا هذا سلاحا جديدا للشعبوية، وهو ما يتناقض مع ميثاق شرف المهنة الصحفية الذي ينصّ بأنّ الصحفي “ملتزم بالدفاع عن قيم المساواة بين الجنسين وعدم التمييز والدفاع عن الحرّيات الفردية والعامة”، وعليه بأنّ لا ينخرط في حملات تساند سلب الحريّات لأيّ كان ومهما كان موقفه أو أفكاره، بل وعوضا عن الدفاع الأعمى عن مثل هذه الإجراءات القمعية أن يطرح بدائل وآليات تحترم عبرها الذات الإنسانية و حقوقه وحرّيته التي يكفلها القانون والمواثيق الدولية.
لم يتأخّر القضاء كثيرا منذ الإعلان عن الإجراءات التي تمسّ “الأخلاق الحميدة” حتى أصدرت المحكمة الابتدائية بتونس يوم 5 نوفمبر 2024 أحكاما بالسجن تراوحت بين سنة ونصف و4 سنوات ونصف ضد أربعة من صانعي المحتوى على مواقع التواصل الاجتماعي من أجل تهم تتعلّق بـ”التجاهر بالفحش ومضايقة الغير عبر شبكات التواصل الاجتماعي”. وقد مثّلت هذه السرعة ومنطوق الحكم حملة استغراب واسعة وصدمة في صفوف الكثير أغلبهم ممّن بارك اتّخاذ إجراءات ضدّهم.
الصحافي والمجتمع غير مسؤول؟
لقد فتحت هذه القضية مجالا جديدا للحديث عن دور الصحفي اليوم ومدى التزامه بأخلاقيات المهنة الصحفية والدفاع عن الحقوق والحريات ورفض الأحكام السالبة للحرية، وأمام غفلة من الهياكل المهنية للقطاع فقد أصبحت بعض المواقف التي يطلقها عدد من الصحافيين ضمن أيّ قضية تمسّ الحريات والحقوق مثيرة للاستغراب فعلا، فهل هذه المواقف تقرّبا من منظومة حكم لا تخجل من استهداف أيّ كان، أم هي قناعاتهم الحقيقية وأيّ خطوط تماس عليهم أن يحترموها خاصة وأنّ ميثاق شرف مهنتهم الذي يدافعون عنه لم ينقّح ولم يلغى إلى اليوم.
إنّ أغلب صنّاع المحتوى/ المؤثّرون لم يكن ليعرفهم المجتمع لو لم تساهم في ذلك عدد من البرامج التلفزية والإذاعية بل إنّ عدد من الإعلاميين لم يخجلوا من فرضهم على الرأي العام وتقديم تجاربهم كنماذج ناجحة وسهلة في جني المال والشهرة بفضل تلك المضامين التي تقدّم عبر حساباتهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي بل إنّ عددا من البرامج التلفزية أصبحت مجالا ومساحة لهم كمعلّقين أساسيين (كرونيكور) وبالتالي فقد أصبحوا مشهورين لدى الرأي العام وقد تحوّل هذا المجتمع فجأة إلى متابع وفيّ لتلك المضامين بل وساعدوا هؤلاء المؤثرين في تحقيق أرقام مشاهدة خيالية مقارنة بمضامين إعلامية جادة وهادفة، ورغم بشاعة تلك المضامين التي تقدّم فلم يكن ليعرفهم مجتمعنا لو لم يساهم في ذلك عدد من الإعلاميين والمؤسسات الإعلامية، بل إنّ هذا المجتمع الذي رحّب باتّخاذ مثل هذه الإجراءات الزجرية هو من ساهم بدرجة أولى في انتشار تلك المضامين المنافية لـ”الأخلاق الحميدة” فهل هم غير مسؤولين عن ذلك؟
إنّ هذه التقلّبات في المواقف أمام القضايا التي تهمّ الرأي العام (قضايا سلب الحرية، المساواة، الحقوق والواجبات…) لا يجب أن يتمّ تناولها من زاوية ما “يريده الجمهور” بل إنّ الصحافي اليوم مطالب بالانتصار للحقوق والحريّات وإنارة الرأي العام واحترام ميثاق شرف مهنته بدرجة أولى وأن يكون هو في طليعة الرأي العام الذي ضربته الشعبوية التي مسّت جميع القيم، ولعلّ الهياكل المهنية اليوم مطالبة أكثر من أيّ وقت مضى بأن تدعو منظوريها لضرورة احترام أخلاقيات المهنة الصحفية وميثاق الشرف قبل الهرولة إلى مواقف قد تبرّر لاحقا لعقوبات أكثر فداحة. بل إنّ أكثر الأسئلة التي يجب أن تطرح اليوم من هو مخوّل له حقيقة لتكييف مفهوم “الأخلاق الحميدة”؟ هل هو القضاء أم المجتمع؟ أم علينا أن نكون مناصرين للحقوق والحريات وأن لا ندعو علنا إلى اتّخاذ إجراءات زجرية ضدّ أيّ كان باسم الأخلاق؟