بقلم الناصر بن رمضان
يولي النقابيون أهمية قصوى للانتخابات في القطاعين العام والخاص ساعين من وراء ذلك لتمثيل منظوريهم والظفر من خلال ذلك بصلاحيات التفويض والدفاع عن المكاسب المادية والمعنوية للشغالين. ولا يختلف اثنان أن موضوع التمثيل النقابي عبر الانتخابات المهنية أصبح الشغل الشاغل في حدّ ذاته لطيف واسع من عموم النقابيين وتتجاوز أهميته أهمية الدعاية للبرامج النقابية، وإنجاح الإضرابات والتظاهرات الجماهيرية، فيما تحتل مسألة الدفاع عن الحريات النقابية والسياسية مرتبة أقل من مرتبة التمثيل الانتخابي والفوز بالمواقع. فأين يكمن سرّ هذا الاهتمام المبالغ فيه حدّ الولع والهوس بالنجاح في الانتخابات، وهل أنّ الانتخابات هي هدف في حدّ ذاته؟ وهل أن كل الانتخابات هي فعلا ممثلة وديمقراطية حتى تحتل هذه المرتبة المتميزة على حساب بقية القضايا الأكثر أهمية؟ وهل أنّ كل النقابيين يتساوون في النظر لهذه المسائل النقابية؟
في التمثيلية الشكلية
يظل النقابي الكلاسيكي المستند للرؤية الإصلاحية والنفعية الضيقة الأفق يلهث وراء الانتخابات للتموقع في سلّم التمثيل والظفر بمنزلة مخاطب في أجهزة الدولة البرجوازية وتحقيق المكاسب والامتيازات المادية والمعنوية، وهو إذ يظفر بذلك يعمل على تأبيد ذلك الموقع والدفاع عنه بشتى السبل، ويساعد تخصص القيادات النقابية في النشاط المهني الصرف على انتشار هذا السلوك كما يؤدي الأفق المحدود المرتبط بالنضالات الاقتصادية المتناثرة بسهولة كبيرة إلى انتشار ضيق الأفق بين النقابيين، وتتشكل تبعا لهذا السلوك السائد في النقابات شريحة واسعة من المنتفعين بالهدايا والعطايا والتمييز الإيجابي في الارتقاء المهني والأجور والراحات خالصة الأجر والسفر بعنوان الندوات الدولية للتكوين والتعيينات في مراكز مهنية وسياسية مرموقة، شريحة بيروقراطية تنفصل يوميا عن الطبقة العاملة لا اقتصاديا فقط بل فكريا وإيديولوجيا تسمّى الأرستقراطية العمالية تسعى لتلطيف الصراع الطبقي وفض النزاعات الشغلية عبر التفاوض السلمي دون اللجوء للإضرابات والمحافظة بالتالي على جوهر النظام الرأسمالي الاستغلالي.
إن البيروقراطية النقابية هي لازمة من لازمات العمل النقابي في النظام الرأسمالي وهي وجه من أوجه احتدام الصراع الطبقي، إذ كلما ازدادت التناقضات الطبقية حدّة واحتداما ونزعت السلطة الحاكمة نحو حسمها بالقوة كلما ازدادت الحاجة لتدخل البيروقراطية لتلطيف هذا الصراع متنكرة للوعود في التمثيل النقابي الذي أخذته على عاتقها والدفاع عن مطالب الشغالين.
في التمثيلية الطبقية
وفي مقابل ذلك، يتميز النقابي الثوري بنظرة تقدمية للمسألة تتناقض جوهريا مع التموقع والوجاهة الاجتماعية وكسب المنافع على حساب طبقته الاجتماعية القادم من صلبها والمتبني لمواقفها، إذ النضال من أجل تحرير الطبقة العاملة ليس نضالا من أجل الامتيازات بل نضال يجعل من النقابات مراكز مقاومة لتجاوزات رأس المال كما أن النضال من أجل تحسين ظروف العمل والمقدرة الشرائية ليس غاية في ذاته بل وسيلة لبلوغ الهدف الأسمى: القضاء على نظام العمل المأجور بكامله إذ الهدف النهائي لحركة الطبقة العاملة السياسية ليس سوى الاستيلاء على السلطة السياسية لصالحها. ويظل القائد النقابي الطليعي يعمل، لا في المناسبات الانتخابية فحسب، بل باستمرار على نشر الوعي الثوري الجديد والدعاية للأدب العمالي والاشتراكي مقتنعا تمام الاقتناع أن أجهزة الدولة وهيئاتها التمثيلية غير مقدسة بل مظللة ومخادعة وطبقية بالأساس وهي ليست سوى أجهزة قمع إيديولوجي لنشر الوعي الزائف واستدامة الاستغلال الطبقي والاضطهاد الاجتماعي، ومن هنا يعمل هذا الإطار النقابي التقدمي مع جموع أترابه على تقويضها وتجاوزها ثوريا من أجل بناء أجهزة ديمقراطية ممثلة فعليا وبديلة عنها، ومن هذه الزاوية تكتسي مسألة التمثيل النقابي لديه تكليفا لا تشريفا، تكليفا ينبع من العمل الديمقراطي القاعدي في النقابات ويقع تحت طائلة الرقابة العمالية بل أكثر من ذلك خاضعا لسحب الثقة عند الاقتضاء.
نظرتان متناقضتان
ومن هنا أيضا تنشأ نظرتان متناقضتان للانتخابات النقابية ولمسألة التمثيلية في هذه الأجهزة الوسيطة، نظرتان مختلفتان جوهريا تتصارعان في الحقل النقابي وتسعيان لكسب الأغلبية حسب الظرفية التي يمرّ بها العمل النقابي وحسب موازين القوى الطبقية المتغيرة. وإذا كانت النظرة الإصلاحية النفعية للتمثيل النقابي هي السائدة اليوم في النقابات عموما وفي الاتحاد العام التونسي للشغل تحديدا فذلك يعود بالأساس للدور التخريبي الذي اضطلعت به البيروقراطية النقابية في تونس طوال العقود المنصرمة وصولا إلى الأزمة الحالية ، حتى أنها أصبحت مرجعا للبيروقراطيات النقابية في الوطن العربي في الاستحواذ المطلق على المنظمة وديمومة السيطرة عليها عبر التوريث والتناسل والتوليد لتلامذة جدد يجددون خطابها ويتماهون مع مطالب الحركة الاجتماعية بانتهازية للالتفاف عليها في أول منعرج من منعرجات الصراع الطبقي عندما تنخفض يقظة الحركة أو تفتر قدرتها على المواجهة جراء استنزاف طاقاتها في المقاومة. ومن أجل احتكار التمثيل النقابي تنزع البيروقراطية النقابية وأعوانها اليوم إلى خوض صراعات شرسة بين شقوقها، صراعات تستعمل فيها كل الأسلحة المتاحة من أجل ربط المنظمة النقابية بعجلة رأس المال وقطع الطريق أمام كل محاولة لاستقلالها عن سلطة البورجوازية.
علاقة التمثيلية بالديمقراطية
إن التمثيل النقابي منظور إليه من زاوية اليسار النقابي المناضل – علاوة على شروطه القانونية المتمثلة في ثلثي المنتسبين للنقابة – هو استبطان للمسألة الديمقراطية في المجتمع، فأن تكون منتصرا ومنحازا كليا للطبقة العاملة والشعب يعني بالضرورة أن تدافع عن الديمقراطية العمالية في أوجهها المختلفة بدءا بشروطها التقنية الجوهرية، مرورا بتبنّي المطالب المهنية والمعنوية الحيوية، إلى توخي أشكال التنظيم الأفقية، فالانتخاب الحر الديمقراطي، فالتمثيل الطبقي في المضمون وصولا إلى الرقابة والمحاسبة وسحب الثقة. وكل هذه المسائل المتشابكة ببعضها البعض تعكس رؤية النقابي الثوري للدور المحدد للطبقة العاملة في التاريخ، هذا الدور الذي لا يقف عند حدود التمثيل البرجوازي الشكلي بل يتعداه إلى تمثيل طبقي بامتياز، إذ الانتخابات ليست غاية في حد ذاتها بل آلية من آليات التمثيل في المؤسسات. إن الإطار النقابي اليساري والديمقراطي لا يتوانى لحظة واحدة عن الدفاع كأشرس ما يكون عن القانون الانتخابي البرجوازي وفرض احترام إجراءاته التقنية التي تقفز عليها البيروقراطية وتنتهكها يوميا في المؤتمرات المعدة سلفا والمعلومة النتائج. هذه المؤتمرات النقابية التي تعدها وتشرف عليها البيروقراطية النقابية هي نتيجة مسارات طويلة مركبة من الانتهاكات والتعديات على القانون الذي وضعته بنفسها بدءا بالنظام الداخلي الذي يؤطر هذه العملية مرورا بحركة النقل الدورية والاستثنائية وما ينجر عنها من إجراءات إدارية فتسجيل القائمات الانتخابية والتلاعب بأسمائها أثناء التحيين وعند استشعار الخطر فتواريخ المؤتمرات فاقتسام النيابات وتوزيعها على النواب وصولا إلى يوم الاقتراع حيث التأثير على الناخبين والكيل بمكيالين لتزوير النتائج، ممّا يفرغ العملية الانتخابية من محتواها ومضمونها التمثيلي.
خاتمة
إن الانتخابات بالمفهوم البرجوازي وتحديدا لدى البيروقراطية النقابية وتوابعها من الإطارات الانتهازية اللاهثة وراء التموقع لا تعدو أن تكون مجرد تصيّد لأصوات الناخبين المؤطرين والمسيجين بالقوانين الفوقية للمنظمة، وهي غاية وهدف في حدّ ذاته، ثم هي عملية شكلية مفرغة من كل محتوى ومضمون عمالي هدفها الوحيد إحكام القبضة على الجهاز التمثيلي المتهرّم من أجل استدامة السلم الاجتماعية والوفاق الطبقي، في حين تظل آلية التمثيل هذه لدى القيادات النقابية الديمقراطية والثورية سلاحا قويا ذو مضمون طبقي لا يقف عند الدور المهني التريدنيوني الموكول له بل يفتح على المجتمع المدني والسياسي ويخلق التكامل بين الحزبي والنقابي ويرسم آفاقا لتحرير العمال وانتصار قضيتهم السياسية الكبرى وتمكينهم من مسك مصيرهم بأيديهم من خلال إدارة مؤسساتهم بكل حرية وديمقراطية مباشرة.