بقلم عمار عمروسية
يبدو جليّا أنّ مجمل الفاعلين بالكيان النازي لم يقدروا على استيعاب أبسط الدّروس من التاريخ الطويل لعدواناتهم على المقاومة اللبنانية وبالأخصّ “حزب الله” الذي تمكّن في كلّ مواجهاته من قلب موازين القوى بما سمح على الدّوام من كسر شوكة آلة البطش والدّمار وإفشال مخطّطات حكومات القتل.
فسجلّ “حزب الله” عبر عقود مهما كانت التضحيات لم يكن ولو مرّة واحدة حاملا لهزائم وانكسارات.
وبالرّغم من هذه الحقيقة الموضوعية المتعارف عليها تقريبا لدى الجميع بما في ذلك خبراء وقادة الكيان فإنّ الأخيرين بعد تفجيرات “البايحر” واللاسلكي وما عقبها من اغتيال عدد كبير من القيادات السياسية والعسكرية سرعان ما رموا بأنفسهم في دوائر الانتشاء والغرور المتلازم بإطلاق العنان لسيل جارف من ترديد سرديات الانتصار السّاحق للجيش الذي لا يقهر والضربة القاسمة لجهاز “حزب الله” التنظيمي وجناحه العسكري.
فالكلّ داخل الكيان يسابق الزمن لغايات سياسيوية داخلية ويجترّ مقولات النّصر الخاطف والانهيار المتعاظم لقوى جبهة الشمال ووصل العماء السياسي والرّعونة برئيس حكومة الإجرام “نتانياهو” رفع سقوف أهداف العدوان والحديث عن “الشرق الأوسط الجديد” وعن الشروع في تغييرات جذرية للوضع اللبناني والمنطقة عموما بما يتلاءم مع هيمنة دولة الاحتلال والقوى الإمبريالية الأمريكية.
لقد استبق قادة العدوّ من عسكريين وسياسيين صحبة الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الغربية مجريات الميدان وانغمسوا في لعبة المفاوضات والتسويات القائمة على فرض واقع استسلامي قطعت معه “لبنان” منذ أواخر القرن الماضي.
لقد جرت رياح المقاومة بما أرادت عزيمة مقاتليها البواسل وحاضنتها الشعبية الصامدة، فنهض “حزب الله” سريعا من كبوته وأعاد ترتيب أوضاعه على جميع الصّعد ورفّع من نسق أعماله القتالية ضمن منحى متدّرج فيه الكثير من الثبات والشجاعة الأمر الذي بدّد مناخ الانتشاء الذي ساد بالكيان في النصف الثاني من شهر سبتمبر وفرض من جديد على قادة الاحتلال حقائق ميدانية جديدة والتخفيض من سقوف العدوان وأهدافه.
لقد استوعب الحزب صدمة الضربات المؤلمة التّي طالته منذ 17 سبتمبر إلى حدود 28 من نفس الشهر وأدخل المواجهة إلى طور جديد تحت عنوان “مرحلة الإيلام” كما ورد على لسان الأمين العام الجديد السيد “نعيم قاسم”.
فكلّ حيثيات المواجهة الواردة من هناك منذ أيّام تؤكدّ بأنّ الأيّام العسيرة لجيش الاحتلال قد بدأت وبأنّ ساعة انكسار الموجة العاتية لعدوانه قد حانت.
فالمقاومة قفزت على جراحها وانتقلت إلى تفعيل استراتيجيتها المرسومة منذ وقت طويل تحت إشراف القيادات التي تمّ تصفيتها وهو ما أشار له أحد أكبر القيادات الحربية، اللواء المتقاعد “إسحاق بريك” بقوله “ذهبت قياداتهم، ورحل حسن نصرالله غير أنّ استراتيجيتهم ما زالت باقية وهي قيد التنفيذ”.
لقد زاد “حزب الله” من أنشطته القتالية وأكسبها طابع الشمولية الذي يجمع بين الرّبط الخلاّق والذكي بين الدّفاع والهجوم.
فالأولّ أي الدّفاع تبرز مفاعيله بصفة جليّة في المواجهات البرّية التي مكّنت المقاومة من تحقيق إنجاز كبير تجاوز حتّى منجز 2006 إذ تمكنّت الخطوط الأمامية من مقاتلي الحزب من منع حشود جيش العدوّ من تحقيق اختراقات ذات بال بالجنوب اللبناني.
فحشود جيش الغزاة تتجاوز أكثر من مرتين (5 فرق + لواء أكثر من 50 ألف جندي) لم تقدر بعد أكثر من شهر أن تبسط سيطرتها على بلدة أو مدينة واحدة بالجنوب.
فكلّ متر داخل الأراضي اللبنانية يكلّف جيش العدوّ أرواحا بشرية ومعدّات عسكرية.
وكلّ اختراق ينتهي بانسحاب ذليل تحت رصاص المقاومة الأمر الذي جعل “إسحاق بريك” يعيد في أكثر من وسيلة إعلام صهيونية صرخته الأشهر “الحرب على لبنان تعني الانتحار الجماعي”.
يجهد قادة الاحتلال العسكريون والسياسيون جيشهم المنهك في وحل “غزة” وجحيم مقاومتها العنيدة من أجل تحقيق اختراق برّي يحفظ ماء وجوههم أمام مجتمعهم المأزوم غير أنّ صلابة المقاومة ومرونتها في الحركة ومعرفتها بالأرض وتضاريسها الصّعبة أبقت على بلدات” كفر كلا ” “عيتا الشعب” و”الخيام” وغيرهم رغم الدمار تحت قبضة المقاومة وسلاحها.
لقد صدق شهيد المقاومة الكبير “حسن نصرالله” عندما قال “الحرب البرية ليست محنة لنا، هي فرصة ونحن ننتظركم” فمجريات الميدان في أدّق تفاصيلها على الشريط الحدودي تؤكدّ ما ذهب إليه وتبرز الجاهزية العالية لمجمل خطوط الدّفاع الثابتة والمتحرّكة ضمن ميدان وقع تجهيزه وإعداده منذ سنوات بما يضمن علوّ يد المقاومة وكسر شوكة الغزاة والحدّ من طموحاتهم وأهدافهم الذي يجد ترجمته الملموسة في التوصيفات المتعدّدة للعدوان البرّي الذي انتقل من الاجتياح إلى الاختراق وبعدها التسلّل.
إنّ التثبّت في مدلولات هذه التوصيفات يجعل المرء يقف بسهولة على مصاعب الجيش الذي لا يقهر مثلما يزعمون في تنفيذ خططه رغم تفوقه الجوي وقدراته التدميرية الهائلة التي لا يمكن لها أن تضمن ربح الحرب وحسمها.
تجيد المقاومة إدارة معركتها وفق نقاط قوّتها (الإيمان العميق بالقضية، معرفة الميدان…) وتوظّف كلّ إمكانياتها لإلحاق أكبر قدر من الخسائر البشرية والمادية بجيش العدّو ضمن مجهود إضافي فيه تفعيل خطّ دفاعي ثابت على الشريط الحدودي وهو أمر مستجدّ ليس فقط في منازلات “حزب الله” السابقة وإنّما في التكتيكات العامّة لما يعرف بحرب العصابات.
أمّا الثاني ونقصد الهجوم فالحزب عمل على تثوير طاقاته وعمل على توظيفها وفق تصوّره القائم على التصعيد التدريجي والعقلاني لكلّ قدراته البشرية ومخزونه من السلاح.
فالعدوان كما يبدو هذه المرّة طويل الأمد عكس كلّ المرّات وهو ما افترض هذا النسق المتدرّج زيادة على قناعة قيادة الحزب بأنّ عامل الوقت واستمرار الاشتباك من شأنهما توفير الظروف الأنسب لفعاليات المقاومة من أجل جرّ جيش العدّو إلى سياق استنزاف من شأنه أن يمكّن المقاومة من ترميم قواعد الاشتباك وإلحاق أكبر الخسائر بجيش العدوّ زيادة عن تعميق معاناة المجتمع الصهيوني.
فالهجوم وفق العقيدة العسكرية لدى المقاومة يجمع بين الهجوم الصّرف والتكتيكات الدّفاعية الهجومية.
فالأولى نجدها واضحة جليّة في تكثيف إمطار عمق الأراضي المحتلّة بمختلف أنواع الصواريخ والمسيّرات وتوسيع تأثيرهما إن في تحقيق الأضرار الماديّة والبشرية وإن في توسيع عوامل الإرباك الاقتصادي والاجتماعي وتعميق مشاعر فقدان الأمن في مجتمع تمّ لحم شتاته على سردية توفرّ الرّفاه والأمان.
لقد وضعت المقاومة عمق الكيان جغرافيا وبشريا تحت ثلاثية الخوف والموت والإرباك.
فصواريخ المقاومة الباليستية وصلت تقريبا كلّ المدايات وحوّلت مدنا أساسية مثل “حيفا” و”نهاريا” و”عكّا” إلى ميدان رماية يوميّة يرقب متساكنيها صفّارات الإنذار للهروب نحو الملاجئ ومسيّرات المقاومة أضحت كابوسا حقيقيا للمستوطنين والقيادات السياسية والعسكريّة.
فالجميع يعيش تحت وطأة هذه المسيّرات وعلى الأخصّ بعض نوعياتها الجديدة التي استعصى بعضها عن جميع دفاعات الجوّ وتمكنّت من اختراق كلّ الحصون ووصلت أهدافها بدقّة عالية.
نجح الحزب في توظيف سلاح الفقراء (المسيّرات) وجعله السلاح الأبرز في استهداف تحشدات العدوّ وراء الحدود وكذلك المصانع والمنشآت الحربية زيادة عن ثكنات جيش العدو.
أكثر من ذلك، فسلاح الفقراء بمهارة مستعمليه وصل في الأسابيع الأخيرة ضمن عمليات جريئة أولا إلى مطعم جنود لواء نخبة “جولاني” فخلّف 4 قتلى وأكثر من 60 جريحا وثانيا إلى تدمير أجزاء واسعة من مصنع “رافائيل” مفخرة الصناعات العسكرية للكيان وثالثا إلى نافذة غرفة بيت نوم “نتانياهو” بمنزله في مدينة “قيساريا”.
إنّ أداء “حزب الله” في الميدان فرمل الاندفاعة المتهورّة لقيادات الكيان الصهيوني وأفقد عدوانه زخمه الكبير وحكم على العمليّة البريّة بالدّخول في روتين يومي يحكمه الخوف من مآلات المنازلات السابقة والانكفاء لجيش العدوّ الذي يحافظ على مستويات ضعيفة من الاشتباك ومحاولات التسلّل مع العودة للعمل إمّا من خلال الجوّ بواسطة الطائرات أو القصف المدفعي والصاروخي من داخل الأراضي المحتلّة.
لقد أعادت المقاومة بجلدها على ما لحقها من ضربات موجعة وتصميمها الذي لا يلين قادة العدوان إلى حقائق الميدان وجعلت اللواء “كوني ماروم” المعروف بتطرفه الكبير لا يجد حرجا في الدعوة لوقف هذه الحرب الخاسرة قائلا وفق القناة 12 الصهيونية “إنّ إسرائيل لن تستطيع تفكيك أو هزيمة حزب الله لأنها لا تملك القدرة على ذلك”.