بقلم حمّه الهمّامي
“كَنْزٌ ثمِينٌ وقْلبٌ من فُولَاذٍ ودَمٌ مِنْ جَلِيدٍ” هوشي منه
رفيق آخر يترجّل بعد صراع مرير وطويل مع المرض.
وشاءت الصدف أن يرحل يوم 7 نوفمبر 2024. وهو المناضل الذي قاوم نظام 7 نوفمبر بلا هوادة، دون خوفٍ ولا تردّدٍ ولا انكسَارٍ ولا تراجُعٍ ولا تخَاذلٍ ولا يَأسٍ حتّى ساعةَ سقوطِه.
إنّه الرفيق عبد الحميد الحاج. وهو من مواليد 7 جوان/يونيو 1951 ببرقو، بالشّمال الغربيّ، التي كانت أحد معاقل المقاومة المسلّحة ضدّ المستعمر الفرنسيّ. درس بكلّيّة الآداب بتونس العاصمة وتخرّج منها أستاذا في اللّغة والآداب الفرنسيّة. واستقرّ بعد ذلك في السّاحل ليدرّس في المعهد الثّانوي 2 مارس 1934 (المعهد الفنّي سابقا) لمدّة 32 سنة بلا انقطاع.
ناضل في صفوف الحركة الطلّابيّة ثمّ في صفوف الحركة النّقابيّة (مندوب نقابي في أواخر سبعينات وبداية ثمانينات القرن الماضي) والحركة الحقوقيّة (الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، منظمة العفو الدوليّة…). كما تحمّل لعدة دورات مسؤوليّة عضو مجلس تربية بمعهده وكان مدافعا شرسا عن التلامذة داخل هذا المجلس وعن حقّهم في نقابة تلمذيّة. تزوّج من زميلته في الدّراسة، رفيقة دربه، سعيدة عيسى وأنجبا أيمن ويُسْرى.
شارك في تأسيس حزب العمّال في مطلع جانفي/يناير 1986 ولم يغادر صفوفه حتّى ساعة وفاته.
لم أعرفه شخصيّا إلّا باسمه الحركيّ، “فَتْحِي”. حتّى بعد الثّورة لم أبحث عن معرفة اسمه الحقيقيّ. فهو بالنّسبة إليّ “فتحي” حتّى إن كان ذلك اسمه الحركيّ.
في ذهني اسم “فتحي” هو حامل تاريخ “عبد الحميد الحاج” النّضاليّ بكلّ ما فيه من معاني ومشاعر وأحداث ورمزيّات وهو بالتّالي المعبّر عن شخصيّته.
الرّفيق الأوّل الذي أعلمني بوفاته لم يذكر لي اسمه الحقيقيّ ولا حتّى اسمه الحركيّ. اكتفى بالإشارة إلى “علامة” لا يعرفها إلّا عدد قليل جدّا من الرّفاق، أنا واحد منهم.
هاتَفني بعد ذلك بقليل رفيق آخر للسّؤال عن أحوال راضية وأحوالي فأخبرته بوفاة رفيق عزيز علينا فردّ قائلا: “أفلا يكون الرّفيق عبد الحميد الحاج الذي نعاه قبل قليل مناضل حقوقيّ من الجهة في صفحات التواصل الاجتماعيّ؟”
وقتها فقط سمعت اسمه الحقيقيّ رغم أنّني أعرفه منذ بداياته في الحزب… في مرحلة أولى من خلال التقارير الحزبية التي كانت تصل القيادة وفي مرحلة ثانية، أي منذ حوالي عشرين سنة، أصبحت أعرفه بصورة مباشرة. كانت ظروف السرّيّة تفرض علينا استعمال الأسماء المستعارة بل كانت تفرض علينا “نسيان” أسمائنا الحقيقيّة لصالح تلك الأسماء حتّى إذا ناداك شخص باسمك في مكان عامّ تتجاهله وتمضي في حالك لأنّ المنادي قد يكون بوليسا يريد التثبّت من شخصك قبل الارتماء عليك كما حصل لأحد المناضلين في مطلع ثمانينات القرن الماضي.
بقيت أكثر من يوم أبحث عن الكلام المناسب حتّى أفِيَ فتحي حقّه وإن كان ذلك صعبا لأنّ مسيرته تتطلّب أكثر من خواطر قصيرة بل ربّما تتطلّب رواية تطّلع من خلالها الأجيال القادمة على مسيرة بطل عاش بشرف ورحل بشرف بعيدا عن الأضواء.
وأنا تائه في تفكيري قفزت إلى ذهني جملة استعملها زعيم فيتنام التّاريخيّ “هو شي منه” وهو يتحدّث عن تكوين شخصيّته في خضمّ الكفاح ضدّ المستعمر: “كنز ثمينٌ وقلبٌ من فولاذ ودمٌ من جليد”.
لا يوجد أفضل من هذه الجملة للتّعبير بشكل مكثّف ومركّز ودقيق، عن شخصيّة “فتحي” المناضل الصّلب والعنيد والوفيّ.
كان “فتحي” كنزا ثمينًا” بسعة ثقافته وتنوّع مصادرها. لا يتوقّف عن القراءة لمعرفة تجارب الشّعوب الأخرى النّضاليّة. وكان ينظر إليها دائما من زاوية ما تعود به من فائدة على النّضال في بلادنا. كما كان يتابع عن كثب تطوّر الأوضاع فيقابل النّاس ويستخبر ويناقش دون كشف هويّته الحزبيّة ويشتري كل ّالصحف وخاصة صحف المعارضة العلنيّة (الموقف، مواطنون، الطريق الجديد…). وفي نفس الوقت كان يلتهم الأدبيّات السرّية المختلفة ليواكب تطوّر الحركة السياسيّة في البلاد بمختلف فصائلها.
ولئن لم يكن “فتحي” مغرما بالكتابة، وهي نقيصة ربّما حرمتنا من إنتاجات أدبيّة وفكريّة هامّة، فقد كان يجيد التّرجمة من العربيّة إلى الفرنسيّة وهو ما ساعدنا على إيصال منشورات الحزب إلى فضاءات أوسع وتيسير ترجمتها إلى لغات أخرى.
ومن ناحية ثانية كان لفتْحِي “قلبٌ من فولاذ”، فالخوف لا يوجد في مفردات معجمه النّضاليّ. تكفّل بمهمّة دقيقة وخطيرة للغاية طيلة سنوات الدكتاتوريّة النوفمبريّة. وتتمثّل هذه المهمّة في تأمين أدب الحزب السرّي (جريدة صوت الشّعب، مجلّة الشّيوعيّ، جريدة إلى الأمام، صوت اتّحاد الشّباب الشّيوعيّ التّونسيّ، الكتيّبات (الكراريس) التي ينتجها الحزب حول قضايا معيّنة، المناشير…) ونقله وإيصاله إلى وجهته.
كانت البلاد محاصرة أمنيّا بشكل رهيب. وكان النّاس يستبطنون الخوف الذي أشاعه نظام بن علي البوليسيّ. كان البوليس حاضرا في كلّ مكان حتّى في عقول النّاس. ينتشر في الشّوارع والطرقات وأماكن العمل والدّراسة وفي المحلّات التجارية والمقاهي والمطاعم والقاعات الثّقافيّة ليتثبّت في الوجوه والهويّات ويراقب التحرّكات. كان أيضا يفتّش السيّارات والحافلات وحتّى القطارات بحثا عن “مشتبه به” كما يفتّش الأمتعة وخاصّة الحقائب والمحافظ بحثا عن المناشير والنّصوص السرّيّة. وإلى ذلك لم يكن يتورّع عن اقتحام المساكن وانتهاك حرمتها والاعتداء على شاغليها والعبث بمحتوياتها إذا عنّ له ذلك.
وكان تأمين أدب الحزب السرّيّ ونقله في هذه الظّروف يتطلّب جرأة وشجاعة. فالوقوع في قبضة البوليس كان يعني التّعذيب الوحشيّ والمحاكمة والسّجن لسنوات والفصل من العمل ووضع العائلة تحت المراقبة الدّائمة والتّنكيل بأفرادها كبارا وصغارا.
لكنّ صاحب “القلب من فولاذ” لم يكن يبالي بكل ذلك. كان مستعدّا للتضحية. ما يهمّه هو القيام بواجبه تجاه وطنه وشعبه وحزبه. كانت تحرّكه قناعة قويّة بأنّ “اللّيل سينجلي” كما كانت تحرّكه في نفس الوقت قناعة بأنّ اللّيل لن ينجلي وحده بل لا بدّ من فعل لإجلائه. وهذا الفعل يتطلّب مراكمة يمكن أن تطول كما يمكن أن تقصر وفقا للظّروف ومنها إرادة البشر.
وهذه المراكمة يمكن أن تنطلق من أعمال بسيطة في ظروف الجزر/التّراجع لتتحوّل إلى أعمال عظيمة في ظروف المدّ.
كان فتحي يؤمن بأنّه مكلّف بتأمين “كنز ثمين” ونقله إلى رفيقاته ورفاقه، “كنز” فيه التّحليل والموقف اللّذان يوحّدان سلوكهم السّياسيّ رغم بعدهم عن بعضهم البعض. وفيه أيضا “رسائل” إلى العمّال والكادحين، بل إلى الشّعب بأسره بهدف الارتقاء بوعيه وتنظيمه في مواجهة الدّكتاتوريّة وما تعنيه من قمع وطغيان واستغلال وفساد.
وهو ما جعل البوليس السّياسيّ لا يتوقّف عن ملاحقة مناضلات/مناضلي حزب العمّال وقمعهم بحثا عن “جهاز الطّبع السرّي” وهو الذي كان يرى في مجرّد توزيع منشور أو كتابة شعار على الجدران تحدّيا “خطيرا” لماكينته الأخطبوطيّة التي تتصرّف بلا رقيب أو حسيب.
كان “فتحي”، يضع “حمولته” في “كرتونه” ويلفّها بحبل من كلّ الجوانب. وكان لا يتنقّل إلّا في القطار. يضع “الكرتونة” في مكان بعيد عنه في عربة القطار حيث يمكن أن يراقبها. وعند الوصول إلى وجهته يأخذها وينطلق إلى منزله لتبدأ مهمّة أخرى وهي مهمّة تقسيم الأدب وتوزيعه على “نقاط إسقاط” (points de chute) محدّدة. وكانت هذه المهمة دقيقة وتتطلب انضباطا كبيرا في الوقت حتى لا ينتبه إليه أحد المارّة من جهة وحتى لا يلتقي برفيقه القادم “لالتقاط الإرساليّة” من جهة ثانية.
كان “فتحي” على درجة عالية من الانضباط ناهيك أنّه بإمكانك تعديل ساعتك عليه. وقد أدّى مهمته مدة سنوات طويلة دون أن يرتكب خطأ واحدا في جهة من أكثر الجهات حساسيّة من النّاحية الأمنيّة. وكانت حياته الخاصّة منظّمة وفقا للمهمّة المنوطة بعهدته التي تتطلّب التّضحية بأشياء كثيرة كما تتطلّب الحذر والتكتّم والتقليل من الظّهور والاختلاط بالنّاس لتجنّب “كثرة المشي والجَيْ”. وإلى ذلك كان “خفيف الحركة” يمرّ بجانبك فلا تنتبه إليه.
كان “فتحي” بشوشا، ودودا، رقيقا، يحبّ زوجته وابنه وابنته وأقرباءه وصديقاته وأصدقائه ورفيقاته ورفاقه وزميلاته وزملاءه وتلامذته الذين كانوا يرون فيه مثال المربّي الجدّي والمثابر والمسؤول والمدافع عن حقوقهم في كسب العلم والمعرفة من خلال تعليم راق ومجانيّ. ولكنّ “فتحي” كان له أيضا “دم من جليد” عند القيام بمهامّه النّضاليّة. وهي مهامّ تتطلّب برودة دم فائقة لاجتناب ارتكاب الأخطاء. فلا ارتباك في المواقف الصّعبة ولا تردّد ولا اصفرارَ وجهٍ أو احمرار يشِي بحرج أو خوف ولكن ثقة كبيرة في النّفس وهدوء وقدرة على تقدير الموقف وما يقتضيه من ردّة فعل قد تكون ابتسامة أو نظرة حادّة أو لامبالاة الخ…
لقد قام “فتحي” بدور هامّ جدّا في أوقات صعبة وحرجة من تاريخ بلادنا ومن تاريخ حزب العمّال والحركة اليساريّة والثّوريّة في تونس. أوقات عزّ فيها النّضال كما عزّ فيها المناضلات والمناضلون الملتزمون، الثّابتون، الشّجعان، المصمّمون، الرّاسخون في إيمانهم بانتصار الثّورة والاشتراكيّة…
حكاية للتّاريخ… انقطع “فتحي” في فترة من الفترات عن المشرف عليه لأسباب أمنيّة قاهرة… وقد دامت مدة الانقطاع أكثر من سنة… فلمّا التقاه رفيقه بعد تلك المدّة وجده كما تركه في قوّته المعنوية وتصميمه ونباهته وصرامته… وفوق ذلك فاجأه بظرف يحتوي مساهمته الماليّة الحزبيّة الشهريّة كاملة… كان يضعها على حدة كلّ شهر، عربون التزام تجاه حزبه الذي يعوّل على مناضلاته ومناضليه في توفير حاجياته الماليّة لتأمين مستلزمات النّضال.
عاش فتحي الثّورة التّونسيّة وساهم فيها باندفاع كبير… كان يرى فيها تتويجا لمسار كان أحد الفاعلين فيه لمدّة عقود… رأى الدّكتاتوريّة تتهاوى تحت ضربات الشّعب المنتفض. ولكنّه كان يدرك أنّ هذه الثّورة تشكو من نقائص وهنات كبيرة وهو ما سمح لقوى الثّورة المضادّة في الداخل والخارج بالالتفاف عليها وإجهاضها… لم يتوقّف صاحب “القلب من فولاذ” عن النّضال ضدّ هذه القوى بنفس الالتزام الذي ميّزه طول حياته… ولكنّ مرض السكّريّ تطوّر به وأنهكه وأقعده فظلّ يواجهه لمدّة سنوات قبل أن يغادرنا…
حدّثتني سعيدة أنّها سألته ذات يوم لماذا يواصل اتّخاذ العديد من الاحتياطات في نشاطه وعلاقاته وتنقّلاته والحال أنّ الشّعب فرض الحرّيّة السّياسيّة وأنهى الدّكتاتوريّة فأجابها قائلا: “لا تطمئنّي فإنّ خطر عودة الدّكتاتوريّة قائم”.
صدق حدس “فتحي” فقد عاد الاستبداد من جديد برداء شعبويّ مظلم وبائس… لكنّ “فتحي” الذي انتزعه منّا الموت يوم 7 نوفمبر 2024 لن يكون حاضرا معنا، جسديّا، في منازلة هذا الاستبداد العائد حتّى إلحاقه بسابقه…
لكنّ المؤكّد أنّ روح “فتحي” ستكون حاضرة معنا، مبثوثة، في نفس كلّ مناضلة/مناضل في حزب العمّال، هاتفة:
“أَلَا انْهَضْ وسِرْ فِي سبيلِ الحَيَاة
فمَنْ نَامَ لَمْ تَنْتظِرْهُ الحَيَاهْ
وَمَنْ لَا يُرِيدُ صعُودَ الجِبِـــــــال
يَعِشْ أبَدَ الدّهْرِ بَيْنَ الحُفَرْ”
وَدَاعًا “فتحي”…
وداعا رفيقي الغالي…
ثوّارًا كنّا وثوَّارًا مازِلنَا وثوّارًا سنبْقَى إلى أَبَدِ الآبِدِين…
“وَرَغْمَ اللّيَالِي
ورَغْمَ المَوَاجِعْ
أَرَى النَّخْلَ عَالي
وَلَا يترَاجَعْ”
تونس، في 9 نوفمبر 2024