بقلم مرتضى العبيدي
وأخيرا باحت الانتخابات الأمريكية بأسرارها فجر السادس من نوفمبر بعد التأكد من فوز دونالد ترامب بها بتجاوزه العدد المطلوب من أصوات “كبار الناخبين” والمحدّد بـ270 صوتا حتى قبل الانتهاء من عمليات الفرز. واعترفت كاميلا هاريس بهزيمتها وتواترت تهاني الرؤساء والملوك والزعماء من العالم على ساكن البيت الأبيض القادم، وعلى رأسهم بطبيعة الحال سفّاح الشعب الفلسطيني، رئيس وزراء الكيان. بل إن التهاني وردت عليه حتى ممّن كان يتمنى هزيمته ويخشى فوزه، باعتبار أن هذا الفوز قد يفتح الباب على المجهول، لما كان منه من سياسات “مجنونة” في ولايته الأولى (2016 – 2020).
وترامب هو ثاني مرشح للانتخابات الأمريكية يُعاد انتخابه لمنصب الرئاسة مجددا بعد هزيمة في الدورة السابقة. ولم يحقق قبله هذا الإنجاز إلا المرشح الديمقراطي جروفر كليفلاند (Grover Cleveland) سنة 1892 بعد تعرّضه لهزيمة سنة 1888.
من ينتخب رئيس الولايات المتحدة؟
قد تبدو الإجابة على مثل هذا السؤال بسيطة لو تعلق الأمر بأيّ بلد آخر ممّا يسمى بالبلدان الديمقراطية، لكن الأمر أكثر تعقيدا في حالة الولايات المتحدة الأمريكية التي تتوفّر على نظام انتخابي لا يشبهه أيّ نظام آخر، وعلى أحزاب سياسية لا تشبه الأحزاب السياسية في غيرها من البلدان، حيث يلعب المال السياسي الدور الرئيسي في حسم الانتخابات لصالح هذا المرشح أو ذاك. إذ تعتمد الحملات الانتخابية مهما كان نوعها ومستواها (انتخابات الهيئات المحلية، وحكّام الولايات، ونواب المجالس المحلية والاتحادية… إلى انتخاب رئيس الدولة) على تمويل الشركات والأفراد ومجموعات الضغط (اللوبيات) وأصحاب المصالح الذين يتعاملون مع هذه المناسبات على أنها فرص للاستثمار ينتظرون جني فوائدها بعد فوز مرشحيهم. كما يعتمد تمويل الحملة الانتخابية على أموال مُجَمّع الصناعات العسكرية والشركات العابرة للقارات، ذات المَنْشَأ الأمريكي، التي تجني أرباحًا ضخمة من الحُروب ومبيعات الأسلحة ومن الهيمنة الاقتصادية والعسكرية والمالية للإمبريالية الأمريكية.
لذا تندرج هذه المواجهات وبالخصوص انتخاب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية دوما في سياق مصالح رأس المال الأميركي وأقسامه المختلفة، التي يسعى كل منها للفوز على خصومه للاستئثار بالغنيمة. ففي قضية الحال مثلا، رأينا كاميلا هاريس تحظى بدعم شركات مثل مايكروسوفت (Microsoft) ونيتفليكس (Netflix) وميتا (Meta) وكبار الرأسماليين مثل جورج سوروس (George Soros) ومايك بلومبرج (Mike Bloomberg)… إلخ. بينما حظي ترامب بدعم إيلون ماسك (Elon Musk) وروبرت مردوخ (Rupert Murdoch) وتيم ميلون (Tim Mulon) المصرفي الملياردير وبالانتير تكنولوجيز (Palantir Technologies) وجونسون آند جونسون (Johnson and Johnson)… إلخ. كما أن هناك مئات الرأسماليين والاحتكارات الذين يتبرعون بملايين الدولارات لحملات أحد المرشحين أو حتى كليهما، نذكر على سبيل المثال صقور الحرب في شركة لوكهيد مارتن (Lockheed Martin)، الذين سيضمنون مليارات الدولارات في عقود الأسلحة العسكرية بغض النظر عمّن سيصبح رئيسًا.
ما الذي رجّح كفة دونالد ترامب إذن؟
وإذا كان المرشحان يشربان من نفس الغدران، فما الذي يصنع الفارق بين هذا المرشح والآخر للفوز؟ الحملة الانتخابية وما أدراك ما الحملة الانتخابية!
لا شك أن لطريقة إدارة الحملة دور كبير في ترجيح كفة مرشح عن الآخر وقد استعمل ترامب، زيادة على تبخيسه لعهدة بايدن في إدارة شؤون البلاد، عدم إيفاء هذا الأخير بالوعود التي قطعها لناخبيه خلال حملته والتي لم يتحقق منها ما يُرضي السواد الأعظم منهم الذين رأوا أوضاعهم المعيشية قد تدهورت، وهو الذي انشغل عنهم بالحروب على واجهات عدة وخاصة حرب أوكرانيا من ناحية وانخراطه المباشر في حرب الإبادة التي يشنها الكيان الصهيوني على الشعب الفلسطيني منذ ما يزيد عن العام، من ناحية ثانية.
أضف إلى ذلك مضمون الحملة ذاته الذي لا يحدده ترامب بل الجهاز السياسي والفكري الساهر عليها والذي وضعها تحت شعار عريض “لنجعل أمريكا عظيمة مرّة أخرى!” (Make America Great Again !) المختصرة في MAGA. وقد تخللتها جملة من الأكاذيب المُباحة والمغالطات مثل الادعاء بأن الدولة الاتحادية بقيادة الحزب الديمقراطي تُهْمِل مصالح العُمّال والفُقراء البيض وتخدم مصالح الأقليات والمهاجرين والسود…
وقد أشار المحللون إلى معظم هذه الشعارات التي تركزت عليها حملة دونالد ترامب نذكر أهمّها في ما يلي:
- ترديد ترامب على مسامع ناخبيه بمناسبة وبغيرها أنه خلافا لجميع الرؤساء الذين سبقوه ليس صنيعة منظومة الحكم الأمريكية، بل جاء من خارجها وفي تعارض تام معها (antisystème).
- تحريضه على المؤسسة السياسية والدعوة لعدم الثقة بها.
- توظيفه للأوضاع الاقتصادية الصعبة التي أدّت إليها سياسات بايدن والتي جعلت من سواد الشعب يعيش أوضاعا اجتماعية مزرية.
- التغيرات الطارئة في سياسات الهجرة وتواصل تدفق أعداد كبيرة من المهاجرين الجدد كنتيجة لغياب الاستقرار العالمي وفي دول الجوار.
- نقد لاذع للنظام الانتخابي الذي يقصي من البداية ملايين من الناخبين المحتملين والدعوة إلى تغييره.
- الاستفادة من تعامل خصومه معه وتقديم نفسه كضحية لمؤامراتهم حيث رفعوا ضده عشرات القضايا لم يزل بعضها (34) لم يحسمها القضاء بعد، بل واتهامهم حتى بمحاولة اغتياله، وهو ما كان له أثر عكسي على الناخبين.
- تعزيز الولاء تجاه شخصه من خلال السياسات الاجتماعية الموعودة.
- الاستثمار في القلق الشعبي من التدخلات الخارجية وتكاليف الحرب.
- تعهداته بخفض الدعم العسكري والتوجه نحو إحلال “سلام عادل”.
- الترويج لفكرة أنه سيكون “قائداً قوياً في الأزمات الدولية”.
- تعزيز الاهتمام بالأمن القومي وبفكرة “أمريكا أولا”.
- الترويج لفكرة الاستقلال الطاقي وتجنب الاعتماد على الدول الأخرى.
- استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بطريقة أنجع من استخدام خصومه لها.
الاختلافات والثوابت
لكن رغم ما يبدو من اختلافات ظاهرة في سياسات الحزبين الرئيسيين اللذين يتداولان على حكم الولايات المتحدة منذ أكثر من مائتي سنة (إذ جرت أولى هذه الانتخابات سنة 1789)، فإن الحزبين يتفقان بصفة مطلقة في كل ما يتعلق بالتوجهات الاستراتيجية وخدمة المصالح الأمريكية في العالم وحماية الأمن القومي الأمريكي الذي يمتد إلى كافة أنحاء العالم، والذي يتمّ عبر نشر الأساطيل البحرية في البحار والمحيطات، وإقامة القواعد العسكرية حيثما أمكن ذلك (تملك أمريكا أكثر من 800 قاعدة عسكرية في كل أرجاء العالم)، وتنصيب أنظمة عميلة ودعمها وذلك ضدّ إرادة شعوبها.
ومن الثوابت اتفاق الحزبين وكافة الرّؤساء ونواب الكونغرس على دعم الكيان الصهيوني وجرائمه، لأن هذا الكيان يُمثل امتدادًا للنفوذ الإمبريالي الأمريكي (والأوروبي)، وهو قاعدة ومَحْمِيّة في نفس الوقت، وتُشارك الولايات المتحدة مباشرة في العدوان على الشعب الفلسطيني وعلى الشعب اللبناني والسوري والعراقي واليمني وكافة الشعوب العربية والإيرانية، ولذا فإننا نجد هذا الكيان المزروع في قلب الأرض العربية يحْظى بدعم المُرَشَّحَيْن كامالا هاريس ودونالد ترامب في الانتخابات الأخيرة. وإذا عاين العالم من خلال العدوان الأخير على الشعب الفلسطيني دور الامبريالية الأمريكية (في ظل حكم الديمقراطيين) في هذه الحرب التي لم تكتف بالإسناد بل ارتقى تدخلها إلى مستوى المساهمة المباشرة في حرب الإبادة الجارية، فإنه لم ينس ما منحه ترامب “الجمهوري” في عهدته الأولى من مساعدات مادية وسياسية مثل نقل سفارة بلاده إلى القدس ضاربا عرض الحائط بالقرارات الأممية في هذا الشأن والشروع في فرض التطبيع مع الكيان الصهيوني على جل الدول العربية.
لهذه الأسباب لا يمكن انتظار أيّ تغيير في السياسة الأمريكية والإمبريالية عمومًا خاصة وأن دونالد ترامب، على عكس ما حدث عندما فاز في عام 2016، لن يتصرف بشكل ارتجالي هذه المرة. بل إنه سيدخل البيت الأبيض في شهر جانفي 2025 بأجندة مدروسة بالكامل، وضعها المليارديرات الذين وظفوا أموالهم في حملته الانتخابية والذين ينتظرون جني ثمار هذا الاستثمار الضخم. فماذا أعدّوا يا ترى بخصوص الملفات الحارقة الداخلية منها والخارجية والتي لن ينجو ركن في العالم من تأثيراتها المدمّرة.