بقلم علاء التليلي
ونحن على مشارف انقضاء الثلاثي الأول من السنة الجامعية 2024 / 2025، بات الشغل الشاغل لطلبة السنة الرابعة طب في تونس ما تبقّى لهم من أيام لمراجعة اختبار مناظرة التخصص. ولا يخفى على أحد أنّ هذه الفترة الأخيرة هي الأصعب لما فيها من ضغوطات أكاديمية واجتماعية ونفسية وأتعاب جسدية تلخّص تراكم سنوات من الجهد والتكوين المستمر والمنهك والمضني في بعض الأحيان.
هم على أعتاب سنة التربص كأطباء داخليين، سنة ستنطلق خلال بعض الأسابيع إبان هذه المناظرة والتي فيها يطالب طلبة السنة رابعة طب باختيار الميادين التي سيعملون بها في مختلف المستشفيات الجامعية.
وسأخص بالحديث في هذه الأسطر ولايات تونس الكبرى وبنزرت ونابل وذلك لكوني طالبا بكلية الطب بتونس.
تتوزّع المستشفيات الجامعية على ستّ ولايات (تونس، بن عروس، أريانة، منوبة، نابل، بنزرت) ويبلغ عددها 14 مستشفى جامعي تشتمل جميعها على كلّ الاختصاصات. لكن ما راعنا هذه السنة أنّ عدد الأطباء الداخليين قد وقع تخفيضه إلى 330 بعد أن كان 420 في السنة الفارطة و490 في السنة التي قبلها.
وهو إجراء لم يتم إثره التخفيض في ميادين التربص بل بقيت على حالها. وفي هذه الوضعية سيجد الطبيب الداخلي نفسه مطالبا بأكثر من 100 ساعة عمل أسبوعيا في بعض الأقسام، أي ما يفوق 400 ساعة في الشهر وهو ما يعادل أكثر من 14 ساعة عمل في اليوم الواحد دون التمتع براحة أسبوعية، ما سينجر عنه دون أدنى شك سيل جارف من المخلفات الصحية والنفسية والذهنية وممّا سيفسح المجال بلا ريبة أمام كل أساليب الابتزاز المقيتة من قبل بعض رؤساء الأقسام وعدد متزايد من حصص الاستمرار دون وقت للراحة قد تصل إلى حصة كل يومين.
كل العوامل المذكورة سلفا زد عليها المعاناة الاجتماعية اليومية من فقر وخصاصة وغلاء للمعيشة والتنقل وكل مجالات العيش الكريم وصعوبات العمل اليومية التي يواجهها هؤلاء الأطباء الداخليين والتي تصل في عديد الأحيان إلى الاعتداء عليهم/ن بالعنف داخل مقرات عملهم (أكثر من ثلاث حالات عنف تجاه الإطار الطبي وشبه الطبي شهريا) حسب إحصائيات عمادة الأطباء (570 حالة عنف في 5 سنوات)، هذا زيادة عن انخرام البنية التحتية لقطاع الصحة العمومية بشكل عام وفقدان الحد الأدنى من المعدات والوسائل الطبية التي من شأنها أن تزيد في تأزيم ظروف العمل بشكل عام والتربصات بشكل خاص، ليجد الطبيب الداخلي الشاب نفسه على صفيح من نار بين ما يجب أن يقوم به وما يمكن أن يقوم به… كل تلك الظروف والعوامل والأسباب من شأنها أن تؤثر بما لا يدع مجالا للشك في هؤلاء الأطباء الداخليين الشبان وتحوّلهم تدريجيا إلى أجساد وظيفية بلا روح ولا جهد ولا إرادة.
فلا غرابة في أن تتزايد محاولات الانتحار في صفوف الأطباء الداخليين (3 حالات سنة 2023)، وإن لم يكن كذلك فسيكون الهروب خارج حدود الوطن ملاذهم/ن الأخير لذلك نلاحظ تزايد نسبة مغادرة الأطباء الشبان حديثي العهد لأرض الوطن بحثا عن العيش الكريم، وحسب إحصائيات عمادة الأطباء، يغادر تونس سنويا 80 بالمائة من الأطباء الشبان حديثي التخرج.
أمام كل هذه الأسباب قرر طلبة الطب بتونس المنضوون تحت منظمة الأطباء الشبان، التي كان رئيسها طبيب “الغلابة والفقراء” فقيد الصحة العمومية الدكتور “جاد الهنشيري”، مقاطعة هذا الاختيار هذه السنة وبذلك ستكون المستشفيات الجامعية بولايات تونس الكبرى ونابل وبنزرت أمام تهديد دون رصيد 500 طبيب داخلي في بداية 2025.
إنّ هذه الحادثة فضحت وكشفت زيف ومغالطات وزارة الصحة المدعية بأنّ الأطباء الشبان هم أبعد ما يكون عن خدمة القطاع العمومي والحال أنّ مطالبنا بالترفيع في عدد الأطباء الشبان إلى حد أدنى 500 يصب في صالح هذا القطاع.
إنّ وزارة الصحة تحت تصرفها المئات من الأطباء المعطلين عن العمل، ولكن غاياتها وأهدافها لا تكمن في توفير الإطار الطبي لكل المستشفيات خدمة لمصالح الفئات المفقرة المؤمنة بجودة الصحة العمومية، بل هاجسها الوحيد هو الضغط على كتلة الأجور وإن كلّف ذلك أرواحا لا تعدّ ولا تحصى من أبناء وبنات شعبنا الصبور.
إنّ تعنّت الوزارة ورفضها لمقترح الترفيع في عدد الأطباء الداخليين إلى 500 طبيب داخلي لمدة أكثر من 21 يوما لا يمكن أن تترجم غير توجهها الواضح الذي لا يخدم مصالح البسطاء من أبناء وبنات شعبنا في حقهم/ن الدستوري في علاج كامل ومجاني وإنما هي ترجمان حقيقي لنفس السياسات العقيمة والمغلوطة التي لفضها الشعب التونسي منذ أكثر من عقد من الزمن، سياسة التقشف على حساب المفقرين والبسطاء.
إنّ سلوك وزارة الصحة لا يمكن أن يكون غير عملية دفع هادئ نحو الخصخصة التدريجية للصحة وضرب معلن للصحة العمومية. ومطالب الأطباء الشبان الخارجيين والداخليين ليست بالمستحيلة، بل إننا نجزم أنها ممكنة ولذلك لن يكفّ الأطباء الشبان الخارجيين والداخليين والمقيمين ساعة عن النضال من أجل تحقيق مطالبهم، دفاعا عن صحة عمومية أرقى وأفضل رغم ما نعيشه من ظروف مأساوية كجزء من مأساة شعبنا الكريم.