بقلم علي البعزاوي
جالت بخاطري هذه الأيام، ونحن نعيش على وقع مأساة عاملات وعمال مصنع الأحذية بالقيروان والإجراءات التعسفية التي اتخذت بشأنهم لا لذنب اقترفوه سوى تمسّكهم المشروع بحقهم في الشغل اللائق والعيش الكريم وما يقتضيه ذلك من حقوق وفي مقدمتها الحق في النشاط النقابي وفي الإضراب باعتباره شكلا من أشكال الاحتجاج السلمي المدني الذي تقرّه الأعراف والقوانين الإنسانية الدولية، كيفية تعاطي دولة الديمقراطية الشعبية مع مثل هذه الأزمات ومع الأحزاب والمنظمات والجمعيات عموما خاصة وأن المسألة تتعلق بالحق في التعبير والنشاط والاحتجاج وهي حقوق أساسية. وهل ثمة أوجه تشابه أو تقارب مع الشعبوية في هذا المجال.
الشعبوية اليمينية لا علاقة لها بمصالح العمال
لقد أكد حزب العمال مرارا وتكرارا أنّ المنظومة الشعبوية لا تختلف عن المنظومات السابقة من حيث الخيارات الاقتصادية والاجتماعية التي تنتهجها والتي تجسّمت عمليا في مختلف الميزانيات من 2022 إلى 2024، وهي ميزانيات تقشف وتفقير وتجويع سعت دائما إلى الحفاظ على مصالح ومغانم رأس المال المحلي والأجنبي الذي راكم الأرباح الطائلة على حساب الشغيلة وعموم الشعب ضحايا تحرير الأسعار وتجميد الأجور وضرب القدرة الشرائية والدهورة المستمرة للخدمات الصحية والتربوية والثقافية والبيئية. وما ميّز المنظومة الشعبوية عن سابقاتها هو تراجعها عن بعض المكاسب الديمقراطية التي فرضها الشعب التونسي عبر ثورته والعودة تدريجيا إلى مربّع الاستبداد والتضييق والمنع وما ترتب على ذلك من استعمال للأمن والقضاء وللمراسيم المستحدثة والقوانين القديمة لإسكات المعارضين والنشطاء والمحتجين والمطالبين بتحسين أوضاعهم التي ما فتئت تتدهور وتتعفن ومحاولات تهميش الوسائط الاجتماعية من أحزاب ومنظمات وجمعيات بمنعها من الحضور في الإعلام أو الاستماع إلى طروحاتها والنقاش معها حول مختلف القضايا بما في ذلك التي تعدّ من مجال اختصاصها.
لقد أكدت الوقائع الحاصلة في مصنع الأحذية في الأسبوعين الأخيرين والتعاطي الرسمي مع العاملات و العمال المضربين ومع المسؤول النقابي المحلي (رفض الإفراج عن العمال والكاتب العام للاتحاد المحلي الموقوفين بسبب نشاطهم النقابي وممارسة حقهم في الإضراب والسكوت عن الطرد التعسفي لـ 28 عاملة وعامل) أكدت الانحياز الكامل والواضح لصاحب المؤسسة – أي رأس المال – والتنكر لمصالح وحقوق العمال رغم الاستغلال الفاحش والتعدي على أبسط الحقوق من طرف هذه المؤسسة الأجنبية المنتصبة في بلادنا. فالشعبوية اليمينية المحافظة إضافة إلى كونها ترفض القبول بالأحزاب ومختلف الوسائط والتعامل معها فهي أيضا عدوّ الشغيلة ونقيض مصالحها المباشرة والبعيدة. ويتأكد ذلك أيضا من خلال رفض التفاوض مع النقابات والاعتراف بها كطرف اجتماعي يمثل فئات اجتماعية كبيرة العدد.
الديمقراطية الشعبية نصير العمال والكادحين
إن الديمقراطية من وجهة نظر حزب العمال ليست ديمقراطية في المطلق بل لها بعد طبقي. فهي ديمقراطية لصالح العمال والفلاحين وعموم الفئات الشعبية التي تستفيد من هذه الديمقراطية وتحقق من خلالها مطالبها المادية والمعنوية وتمكنها من إبداع الأفكار الجديدة والحلول المناسبة سواء ما تعلّق منها بتطوير الإنتاج أو توزيع الأرباح وتحسين الخدمات الاجتماعية… لكنها في نفس الوقت دكتاتورية ضد الفئة الكمبرادورية المطاح بها والتي سبق أن كرّست الاستغلال والاستبداد ورهن البلاد للقوى الامبريالية.
وفي هذا الإطار يتمتع العمال بحق التنظم في أحزاب ونقابات وجمعيات وغيرها، وبحق الإضراب والتظاهر السلمي وبالنشاط والإبداع الثقافي وينتخبون بحرية من يمثلهم في إدارة المؤسسات التي يعملون بها بدلا عن الرؤساء المديرين العامين المنصبين في مؤسسات دولة الاستعمار الجديد. ودور الدولة الديمقراطية الشعبية هو سن القوانين الملائمة وتوفير الميزانيات واللوجستيك وكل المستلزمات حتى يقوم العمال بهذه المهمة/النشاط على أحسن وجه. والدولة الديمقراطية الشعبية لا تتدخل في انتخاب التشكيلات النقابية ولا تنصّب أنصارها على رأسها. هؤلاء مطالبون بالنضال والانتصار لمصالح العمال وإبداع البرامج والحلول لكسب ثقتهم والفوز بتمثيلهم. إن تنصيب الأنصار على رأس النقابات من شأنه أن يكرّس البيروقراطية والرتابة بدل القضاء عليها، ويفتح الأبواب أمام عودة التمايز والمصالح الفئوية الضيقة وتكريس الطبقية بدل المراكمة على طريق اضمحلالها. ونفس الأمر بالنسبة للأحزاب بما في ذلك التي تختلف مع الديمقراطية الشعبية الحاكمة ولها مقاربات وحلول لقضايا الشعب والبلاد لا تتوافق مع خياراتها وسياساتها باستثناء التنظيمات والأحزاب التي تعبّر عن مصالح البورجوازية الكمبرادورية العميلة التي وقعت الإطاحة بها والتي تريد التخطيط للعودة إلى الوراء أو الأحزاب الدينية والعنصرية. فالدولة الديمقراطية الشعبية تمكّن هذه الأحزاب من النشاط والدعاية حتى تساهم في تقديم مقترحات الحلول والمقاربات في مختلف الملفات.
إنّ ما يؤكد قناعة حزب العمال بهذه الإجراءات الديمقراطية وإيمانه الراسخ بالتعددية الفكرية والسياسية وحق الشعب في ممارستها انتقاده الواضح من خلال تقييمه للتجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي لبعض مظاهر بيروقراطية الدولة التي تمثلت أساسا في التداخل بين الحزب والدولة وفي عدم إشراك الجماهير في السلطة وتركها على هامش الشأن العام وفي تنصيب النقابيين الشيوعيين على رأس النقابات العمالية لتسهيل عملية التحكم فيها… وقد اعتبر الحزب أن هذه الأخطاء سهّلت بعد وفاة القائد الشيوعي جوزيف ستالين عودة التحريفية وتمكّنها من قلب الأوضاع لصالحها بسهولة والعودة بدول الاتحاد السوفياتي إلى مربع الرأسمالية بعد إسقاط أحد أهم الشعارات التي رفعتها الدولة السوفياتية والمتمثل في النضال ضد الامبريالية ومناصرة حق الشعوب والأمم في الاستقلال وتقرير المصير.
الديمقراطية الشعبية هي نقيض الشعبوية اليمينية المحافظة وهي نصير الحرية والديمقراطية والتعددية والمساواة ومنحازة طبقيا لمصالح العمال والكادحين ومجمل الفئات الشعبية ولن تكون غير ذلك.
السلطة للشعب من أجل الديمقراطية الشعبية والسيادة الوطنية والعدالة الاجتماعية.