بقلم عمار عمروسية
يبدو أنّ وقائع كثيرة تعدّدت في الأشهر الأخيرة تدفع إلى الاعتقاد بأنّ الكيان النازي الموغل في سياسات التّنكيل والتقتيل على الساحتين الفلسطينية واللبنانية في طريقه إلى مراكمة الخسائر الاستراتيجية الكبيرة التّي من الممكن جدّا أن تكون لها تأثيرات هائلة على مستقبل المشروع الصهيوني ووجوده الفعلي على الأراضي المحتلّة.
فنشوة قيادات العدوان النازي ببعض الإنجازات التكتيكية الصغيرة في قطاع “غزة” و”لبنان” أعمتهم عن تقدير مفاعيل تلك الخسائر وجعلتهم حبيسي مربع الفهم القاصر للفعل السياسي والديبلوماسي عموما الذي وقع اختزاله في اللجوء إلى خيار أوحد قائم على القوّة والبطش تحت وهم تحقيق الانتصار المطلق وسحق قوى المقاومة التّي تمكنّت من الصّمود البطولي في جبهتي “غزة” و”لبنان”، وأجهضت تحقيق جميع أهداف هذا العدوان الإجرامي وأبقت “إنجازات” حكومة عصابات التوّحش حبيسة مفاقمة جرائم التطهير العرقي وحرب الإبادة التّي مثلّت تفاصيل مشهدياتهما أدلّة إضافية في تسريع دوران عدّاد خسائر الكيان الصهيوني والتي بالإمكان تحديد البعض منها في هذا العرض الموجز:
افتضاح السردية الصهيونية
قد يكون وعي بناة الكيان والمحافظين على وجوده حتّى اليوم أكثر العالمين بالحقيقة المصطنعة لكيانهم الذي لا يرتقي بالمطلق لمفهوم الشعب أو الأمّة وبطبيعة الحال الدولة. وهو أمر جعل كلّ قادة الكيان ومنظريه شديدي الحرص على التمسّك بأسس رواية عملية الحقن الأولى لهذا الورم مع السعي الدؤوب لتطعيم ثوابت تلك السردية الخرافية الكاذبة بعناصر جديدة يصبّ جميعها في تزوير وقائع التاريخ ومعطيات الجغرافيا المرتكزة على عنصرين جمعا بين السطو (وعد بلفور) والاحتلال الاستيطاني (أرض الميعاد).
كلّ المشروع الصهيوني وكيانه انبنى وحافظ على وجوده تحت أكذوبة “أرض بلا شعب وشعب بلا أرض” بما تعنيه من شطب إجرامي للحقوق التاريخية والوطنية لأصحاب الأرض ونقصد الشعب الفلسطيني.
لقد اهتزّ بنيان تلك السردية كما لم يحدث من قبل وطفت على نطاق واسع حقيقة رواية أصحاب الأرض وحملة مشروع التّحرّر الوطني والانعتاق من هيمنة الاحتلال الاستيطاني وحماته من القوى الامبريالية الغربية والأمريكية.
لقد تراجعت مفاعيل الآلة الدعائية الصهيونية على الوعي الجمعي لشعوب العالم تاركة مساحات رحبة أمام تشكّل لبنات إدراك جديد فيه الانتصار للمقاومة وشعبها وإدارة الظهر للكيان وغطرسته.
اهتزاز مقوّمات التفوّق الصهيوني
اقترن نشوء الكيان اللقيط منذ 1948 واستمرار وجوده حتّى اليوم بقوّة السلاح والإيغال في سفك الدماء وتنظيم حروب الضمّ والإلحاق فلسطينيا وعربيا.
فالميلاد ملطخ بدماء الفلسطينيين على يد عصابات “الهاغانا” الإجرامية وتثبيت شتات “اليهود” الصهاينة بجغرافيا فلسطين كان بواسطة جيش الإجرام ومختلف الأجهزة القمعية كالشرطة، والحرس الحدودي بالإضافة إلى “الشاباك” و”لواء المستعربين” الخ…
الجيش وترسانة السلاح الضخمة خلقتا الكيان وضمنتا له الأرض والبقاء والأهمّ من ذلك موقع التفوّق على شعوب المنطقة وكلّ دولها.
فالعقيدة العسكرية لمؤسسة جيش الاحتلال تمحورت على بديهية هذا التفوّق الساحق الذي نجد مضامينه الملموسة في مقولات مألوفة في الخطابين السياسي والإعلامي من قبيل “الجيش الأقوى” و”العسكر الذي لا يقهر” الخ….
إنّ عملية “طوفان الأقصى” البطولية وما تلاها من صمود أسطوري لمجمل قوى المقاومة بالمنطقة وعلى الأخص في “غزة” و”لبنان” قد أسهم في توسيع الشكوك حول مجمل تلك المرتكزات وأعادها إلى حجمها الواقعي وسلبها عناصر قوّتها القائم على التفوّق الاستخباراتي والمعلوماتي وتأمين قواعد الردع مع القدرة على الحسم السريع.
فالمقاومة الفلسطينية فجر 7 أكتوبر 2023 بدّدت أكذوبة الامتلاك الحصري للإنذار المبكّر لصالح الكيان، والأداء الميداني لكل محاور المقاومة أطاح بقواعد الردع القديمة وأعاد صياغتها ووضع قواعدها وفق الوقائع الملموسة الجديدة. أمّا الصّمود الاستثنائي لجبهتي المقاومة طوال هذه المدّة فقد أسقط مقولة الحسم السريع.
بداية تلاشي جاذبية الكيان
لقد مثلّت شعارات “أرض الأمان” و “فضاء الرفاه” و”واحة الديمقراطية” الثلاثية الذهبية للخطاب الصهيوني في كلّ أبعاده الفكرية والسياسية والإعلامية.
فالاشتغال المكثف على هذه المحاور والترويج الواسع لها كان قاعدة نشأة الكيان وتحولّه عبر عقود إلى مركز استقطاب وجذب للأفراد والشركات الاستثمارية الخ…
بأس المقاومة الفلسطينية واللبنانية عصفا بهذه الشعارات وكشفا طابعها المخادع فأرض الأمان انقلبت تحت فعل المقاومة بمختلف وسائلها إلى بؤرة مخاطر عالية طاردة لوافديها القدامى ومرعبة للجدد العازمين على القدوم.
فالهجرة العكسية ونعنى من داخل الكيان إلى خارجه تكثفت كما لم يحدث من قبل والنزوح الداخلي بلغ أرقاما غير مألوفة.
ففعاليات المقاومة بالضفة وعلى جبهتي الحرب قوّضت بصفة جذرية أكذوبة “أرض الأمان” وحوّلت حياة المحتلين إلى جحيم حقيقي قال عنه أحد قادة العسكر المتقاعدين “مسيّرات حزب الله ترتع فوق رؤوسنا… وصواريخه تطال كلّ الأماكن… وجنودنا كالبطّ في “بيت لاهيا”…
لقد ودّع المحتلّون فضاء الرّفاه رغم الغطاء المالي الكبير الذي توفرّه “أمريكا” وبعض الدول الغربية وبطبيعة الحال بعض الأنظمة العربية العميلة، فالاقتصاد يعرف ركودا كبيرا وعجلة الإنتاج مضطربة مع تسجيل هروب واسع لبعض المستثمرين والكثير من الشركات الكبرى.
بالتّوازي مع ذلك انكشف الوجه الإجرامي للكيان الصهيوني المعادي لأبسط الحقوق بما فيها حقّ الحياة.
فنظام الكيان موغل في التمييز العنصري حتى بين مكوّناته، وهو سائر بخطى حثيثة نحو حكم فردي فاشستي باعتراف حتّى بعض الأوساط الصهيونية نفسها.
الكيان المارق
لم يعد نعت الكيان بالمارق حكرا على الشخصيات والقوى التقليدية المعروفة بمناهضتها للصهيونية ذلك أنّ هذه الصفة أضحت أمرا مشاعا بين قوى سياسية ومدنية ليبرالية بما في ذلك بالبلدان الرأسمالية المعروفة بدعمها التاريخي لسياسات العدوّ الصهيوني.
فجيش الاحتلال مارس أمام أنظار كلّ العالم جميع أنواع الفظاعات ولم يُقم أيّ اعتبار لا للقانون الدولي ولا للقانون الإنساني ولا لكلّ هيئات المنتظم الدولي.
ومعلوم أنّ تلك الجرائم قد تمّت تنفيذا لسياسات حكومة يمينية متطرفة جاهر أبرز الفاعلين فيها بقناعاتهم المعادية لأبسط القيم الإنسانية بما فيها الحق في الحياة.
فالكلّ ضمن هذا الكيان بما فيها أبرز وجوه “المعارضة” يتسابقون على سفك الدّم الفلسطيني واللبناني تحت ذريعة الدّفاع عن النّفس وهو أمر لا يستقيم حتّى من زاوية القانون الدولي الذي يحرم قوّة الاحتلال من هذا الحقّ ويمنحه بصفة حصرية للشعب الذي يعاني من الاضطهاد الاستعماري.
إنّ حكومة “نتانياهو” بحربها الإجرامية وأسلوب تعاطيها مع كلّ القرارات المنبثقة عن هيئات ما يعرف بالمنتظم الأممي كرّست موقعها المتعالي عن كلّ الضوابط القانونية والقضائية والقيميّة.
فالكيان تعوّد منذ عقود طويلة الدوس على الجميع مستفيدا من حصانة وجور النظام العالمي القائم على سيادة قانون القوّة وسياسة المكيالين وتأمين الإفلات من العقاب.
الكيان المنبوذ
لقد بلغت عزلة الكيان في المدّة الأخيرة حدودا غير مسبوقة ومن المتوقع أن تتفاقم مستقبلا خصوصا بعد الإصرار الكبير من حكومة القتل على مواصلة فظاعاتها في قطاع “غزة”.
فالعصابات المارقة تسير بخطى حثيثة نحو مستنقع الكيان الأكثر بعث من جهة لمشاعر الازدراء والكراهية لدى أغلب شعوب العالم ومن جهة أخرى إلى إطلاق مسار قضائي قد يفضي ولو بعد مصاعب كبيرة ووقت طويل إلى النجاح في تحقيق اختراقات تجعل من الممكن محاكمة مجرمي الحرب والتّمهيد لمرحلة تفكيك هذا الكيان وكنسه.
إنّ نسق تزايد عزلة الكيان أضحت متسارعة وفي هذا الصدد نورد بعض العيّنات:
- في سابقة تاريخية أصدرت المحكمة الجنائية الدولية يوم 21 نوفمبر / تشرين الثاني الجاري مذكرّات اعتقال بحقّ كل من “نتانياهو” ووزير الحرب المُقال “غالنت”.
إنّ صدور مثل هذا القرار يكتسي أهمية بالغة ليس من ناحية آثاره العملية الآن وهنا وربما في المستقبل القريب وإنّما من زاوية أنّه أولّ قرار من نوعه منذ نشوء الكيان فهو بمثابة فتح كوّة صغيرة لرفع الحصانة عن العصابات المارقة.
وهو -أي القرار- تعزيز لحكم محكمة العدل الدولية الصادر في 27 جانفي 2024.
إنّ مثل هذه الأحكام القضائية خطوة صغيرة للشروع في إنزال الكيان من برجه الحصين وتقريبه رويدا رويدا إلى دائرة المحاسبة وعلى أيّ حال فإنّ الآثار لمثل هذه القرارات المهمة ستكون استراتيجية وعليه فإنّ تبلورها في مكتسبات ملموسة لن يكون إلا ضمن مسار تراكمي متدحرج ضمن سياق معركة أوسع فيها جميع أشكال المقاومة. - إقدام عديد الحكومات بمختلف القارّات على خطوات ديبلوماسية شجاعة تراوحت بين طرد سفراء الكيان وقطع العلاقات الديبلوماسية بصفة نهائية.
- لقد قرّرت كلّ من حكومتي “المالديف” و”أندونيسيا” منذ مدّة تغيير بعض القوانين لمنع حاملي جوازات السفر الإسرائيلية من دخول أراضيهما.
- إقدام مجلس مدينة “ناغازاكي” بدولة “اليابان” رفض أيّ حضور إسرائيلي في فعاليات إحياء ذكرى القصف النووي الأمريكي.
- تنامي مظاهر الغضب في أغلب بقاع العالم واستمرار فعاليات الانتصار للمقاومة واكتساب تلك الحركات إرهاصات تحوّلات عميقة من الممكن جدّا أن تكون قاعدة لتبلور وعي شعبي عام معادي للصهيونية وجرائمها.
- تقدّم حركة المقاطعة الاقتصادية للكيان ونجاحها في إلحاق خسائر مادية معتبرة في النصف الثاني من العام الجاري.
- اتساع رقعة المقاطعة لتشمل المجال الرياضي والثقافي والاكاديمي.