بعد سنوات من انكفاء الجماعات المسلْحة بسوريا على نفسها وانغماسها في جولات اقتتال داخلي أطلّ سلاح تلك العصابات بصفة مفاجئة ضمن هجوم كاسح استهدف من جديد محاولة استعادة السيطرة في البداية على مدينة “حلب” وبعدها “إدلب” الخ…
وواكبت هذه الهجمات سرعة انخراط وسائل إعلامية كبيرة غربية – أمريكية وعربية خليجية بالأساس في بثّ إعلامي واسع قائم على التّهويل في إنجازات تلك الجماعات، وفي حملات تضليلية قذرة هادفة لتبييض عصابات ارتزاق إقليمية ودولية تحت استعادة أسطوانة “حقّ المعارضة في الوجود” وجدارة “الدفاع عن حقوق الإنسان”!!!
فـ”هيئة تحرير الشام” التي تقود هذه الهجمات هي سليلة “جبهة النصرة” التي تمكّن زعيمها “محمد الجولاني” من تغيير جهات تشغيله وفرض نفوذه بقوّة السلاح على مجمل الفصائل الأخرى بهدف ابتلاعها وترويضها في غرفة عمليات مشتركة تجمع خمسة فصائل إرهابية، القاسم المشترك بينها هو تبنّي طروحات إرهابية تدميرية في الداخل السوري وخدمة قوى خارجية ذات أطماع هيمنية مثل أمريكا والكيان الصهيوني وتركيا وبعض الدول الغربية.
والحقيقة أنّ مؤشرات كثيرة تدفع إلى الاعتقاد الجازم بأنّ هذه الاندفاعية الجديدة لأدوات التخريب والهدم ليست سوى استعادة مشروع قديم لتلك القوى التي انتهت في 2015 إلى حافّة اليأس والفشل.
وفوق ذلك فإنّ خطوة جماعات الارتزاق والعمالة لا يمكن استيعابها إلاّ في سياق أعمّ شديد الارتباط بمساع محمومة يدير خيوطها بالأساس كلّ من الولايات المتحدة الأمريكية وحكومة الكيان الصهيوني ضمن مشروع ما يعرف بالشرق الأوسط الكبير، إذ أنّ توقيت هذا الهجوم يفضح القائمين عليه.
فالهجوم الإرهابي جاء مباشرة بعد الهدنة الهشّة في “لبنان” وسويعات بعد كلمة مجرم الحرب “نتانياهو” الذي توعدّ فيه كلّ محور المقاومة بالتصفيّة وخصّ فيه “سوريا” بالانتقام عندما قال “بشار يلعب بالنّار”.
وثانيا بإمكان كلّ متابع لحيثيات هذا الهجوم أن يقف على أنّ الوسائل المستخدمة والخطط العسكرية والتكتيكات الحربية جميعها يفوق قدرات تلك التنظيمات ويجعلها حصريا من مشمولات الدول الكبرى عالية التسليح والخبرات الواسعة في عدوانات الغزو والاحتلال.
وثالثا مسارعة دول التشغيل وذات المصالح في إنهاك الدولة السورية وإسقاطها، إلى إنكار علمها بهذا التّحرك ونفي تقديمها أيّ دعم وهو أمر تفندّه وقائع كثيرة.
ورابعا مسارعة رئيس حكومة العدو “نتانياهو” بُعيْد انطلاق الهجوم إلى تكثيف اتصالاته مع خبراء حكومته والاجتماع بالأخيرة لتدارس الأوضاع هناك والخروج وفق ما أوردت القناة 14 الصهيونية بجملة قرارات وصفتها في تقرير لها على هذه الشاكلة “توصيات استثنائية تؤمن التقدّم على الجبهة السورية في نحت معالم وجه الشرق الأوسط الذي عملنا لسنوات من أجل انبثاقه…”.
هذه بعض العناصر التي تفضح الأهداف الحقيقية لتحرّك مجموعات الارتزاق التي لا يمكن بالمرّة نعتها لا بالوطنية ولا بالديمقراطية. فوضعها أمس واليوم يؤكدّ بأنها أوّلا موغلة في العمالة وممزّقة بين خدمة أجندات خارجية منسجمة حينا ومتناقضة أحيانا أخرى وثانيا معادية لحقوق الإنسان وقيم الديمقراطية.
فالتاريخ القديم والحديث أكدّ على الدوام بأنّ الديمقراطي الحقيقي مهما كانت سطوة الاستبداد والقهر ببلاده لا يمكن له بالمطلق أن يناور على سيادة وطنه بوضع نضاله تحت سقف قوى الهيمنة الأجنبية ولا أن يعمد إلى التفصّي من مقتضيات بناء المشروع الوطني والديمقراطي من خلال السّقوط في شراك لعبة تدمير الدول وتقسيم وحدتها الترابية.
إنّ “جبهة” “الجولاني” دخلت طورا جديدا من التخريب وتمكنّت من تحقيق بعض الإنجازات الميدانية في “حلب” و”إدلب” وريف “حماة” ومن الممكن جدّا أن يستمرّ زخم هجومها إلى بعض الأيام، وهو أمر لم يكن له أن يحصل على الأقلّ بهذه الوتيرة لولا الظروف الصّعبة والمعقدّة التي تعيشها شعوب المنطقة وقوى المقاومة زيادة عن غلبة الحسابات الخاصّة لكلّ من دولتي “روسيا” و”إيران”. فسوريا منذ عقود تمثّل فضاء تقاطعات مكثفة لقوى دولية وإقليمية متصارعة ضمن المخاض العسير لولادة نظام عالمي جديد.
وهي موطأ القدم الأساسي المتبقي للإمبريالية الروسية بالمنطقة، وهي الفضاء الحيوي للنظام الإيراني. وهي بالنسبة لأمريكا وحكومة الكيان البوابة الرئيسية لوضع أسس كلّ من أحلام “شيمون بيريز” التي بسطها في كتابه بعنوان “الشرق الأوسط الجديد” ووزيرة الخارجية السابقة “كونداليزا رايس” ومشروعها المجهض بعد انتصار “حزب الله” في حرب 2006.
إنّ حجم المصالح وشدّة تناقض الحسابات بين تلك القوى الماسكة ببعض خيوط لعبة الدم على حساب السيادة الوطنية للدولة السورية والمصالح العليا للشعب قد تتيح فسحة زمنية لعصابات التخريب لممارسة جرائمها غير أنّ لعبة المصالح قد تعيد خلط الأوراق من جديد والدخول مرة أخرى في سياق التسويات والمباحثات التي بدأ الحديث عنها إثر وساطة إيرانية من المحتمل أن تعيد الحياة إلى اتفاقات “استانا”.
ولنتذكر أنّ هذه العصابات المأجورة لازمت الصمت المطبق ولم تحرّك ساكنا لا أمام حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي ضدّ الغزاويين ولا أمام عربدة جيش القتل في الضفة الغربية ولبنان.