الرئيسية / صوت الوطن / على هامش موت أستاذ بعد أن أحرق نفسه: المنظومة التربوية تجني ما زرعته (الجزء الأوّل)
على هامش موت أستاذ بعد أن أحرق نفسه: المنظومة التربوية تجني ما زرعته (الجزء الأوّل)

على هامش موت أستاذ بعد أن أحرق نفسه: المنظومة التربوية تجني ما زرعته (الجزء الأوّل)

بقلم علي الجلولي

أثارت عملية حرق أستاذ التعليم الثانوي بإعدادية ابن شرف بالشابة (ولاية المهدية) فاضل الجلولي لنفسه، ممّا أدى إلى وفاته يوم 28 نوفمبر الجاري، من جديد ملف العنف في الوسط المدرسي وتداعياته مرورا بمحاولة رصد أسبابه ومظاهره. لقد تحرّك الأساتذة بدعوة من هياكلهم النقابية في اليوم الموالي بالتوقف الاحتجاجي عن العمل لمدة ساعة، فيما دخل أساتذة المؤسسة الأصلية للأستاذ الراحل في اعتصام مفتوح للضغط على مسارات البحث الإداري منه والقضائي. واتجهت بعض الجهات إلى تنظيم إضرابات وتحرّكات (المهدية والقصرين وسليانة)، فيما نظم التلاميذ في أكثر من مؤسسة حملات لتوزيع الورد على أساتذتهم. وفيما دخل كل التلاميذ في امتحانات نهاية الثلاثي التي تستمرّ لما بقي من شهر ديسمبر (الأسبوع ما قبل المغلق والأسبوع المغلق وأسبوع الإصلاح) تأتي الأخبار من أحد إعداديات العاصمة أين تمّ الاعتداء يوم 2 ديسمبر على أستاذة مادة الإعلامية بالعنف من قبل تلميذ، وفي إعدادية ابن المقفع بالمكناسي اعتدى تلميذ بالعنف المادي على القيّم هشام مشي يوم 4 ديسمبر، بما قوّى مشاعر الإحباط واليأس من أيّ معالجة وهو ما يعزز التطبيع مع الظاهرة التي أصبحت ركنا أساسيا في المؤسسة التربوية. وللتذكير فإنّ العام الدراسي الحالي افتتح بابه يوم 15 سبتمبر على إيقاع العنف الشديد باستعمال سكين والذي مارسه تلميذ ضد زميله في إعدادية بمقرين من ولاية بنعروس وفي إعدادية ببنزرت أين مارس تلميذ عنفا ضدّ زميله.

العنف في الوسط المدرسي ظاهرة قديمة ومركّبة

يتّجه العديد من المتدخلين بمختلف مواقعهم إلى التسويق العفوي أو المقصود بأنّ العنف في الوسط المدرسي “ظاهرة غريبة” بمعنى أنها ممارسة لسلوك ما كان أن يوجد أصلا في الفضاء التربوي باعتبار “القدسية” التي تميّزه كفضاء مخصوص. إن هذه النظرة في تقديرنا هي نظرة غير صحيحة وموغلة في المثالية والتي تنتهي بأصحابها – على نزاهة خلفية بعضهم – إلى فهم مغلوط ومعالجة قاصرة لظاهرة قديمة ومستمرّة وتخترق الفضاء التربوي مثل بقية الفضاءات الاجتماعية عموديا وأفقيا. إن الاتجاه إلى “عزل” المؤسسة التربوية عن محيطها الاجتماعي بتعقيداته وتناقضاته وتحوّلاته العميقة التي تنعكس في أنماط التفكير والسلوك والعلاقات والتي تشمل وتمسّ كل الفاعلين التربويين دون استثناء باعتبارهم عناصر اجتماعية، لن ينتهي إلاّ إلى مقاربة تؤبّد السائد وتعيد إنتاجه في أشكال وصيغ جديدة أكثر فظاعة وأكثر تعقيدا.
إنّ حال المؤسسة التربوية التونسية في نهاية الربع الأول من القرن الحادي والعشرين لا يمكن فهمه وتقييمه خارج سياق ما يجري من تحوّلات قوية وعميقة وعنيفة طالت كل مستويات الحياة واقعا وفكرا، وهي تحوّلات تشمل كل العالم دون استثناء واخترقت كل المؤسسات من الأسرة إلى المدرسة مرورا بمؤسسات الإنتاج والبنى التفكيرية التي تهندس الوعي الفردي والجماعي. إن المدرسة هي مؤسسة اجتماعية تلبّي حاجيات محدّدة في الزمان والمكان. ووفقا لذلك تقدّم خدمات معيّنة ترتبط أساسا بخدمات تستهدف الرأس/العقل من خلال التعليم والتدريس، وهي خدمة تعيد تشكيل الفرد وعيا وتفكيرا واستعدادا ولاكتساب مهارات أخرى ضرورية ولازمة لاستمرار المجتمع وتقدّمه. من هذه الزاوية اكتسبت المدرسة وتحديدا المدرّس مكانة معنوية مميّزة تتجه في عديد المجتمعات والجماعات إلى ضرب من التقديس. ولقد شهدت هذه النظرة للمدرسة والمدرّس تحوّلات تساوقت مع مجمل التحوّلات التي عاشها المجتمع. ففي بلادنا حافظت المدرسة على “النظرة التقليدية” إلى حدود الثمانينات من القرن المنصرم، وارتبطت هذه النظرة عضويا بفكرة “المصعد الاجتماعي” لدى مختلف الطبقات الاجتماعية، الأغنياء من أجل تثبيت وضعهم وتعميده بالشهادة العلمية، والفقراء من أجل تسلّق السلّم الاجتماعي والخروج من دائرة الفقر والحاجة اعتمادا على الشهادة والوظيفة. ضمن هذا السياق اكتسب المدرّس تمييزا اجتماعيا وثقافيا وأخلاقيا بمقتضى وظيفته، وسلّم له المجتمع بمهمات “خارقة” بما في ذلك حقه في احتكار العنف كجزء من “الامتيازات” التي يحظى بها والتي تيسّر له إنجاز مهمّته في إخراج النشء من الأمية والجهل والفوضى، لذلك ارتبطت صفة المربّي بـ “العصا” وفعل التربية بالقدرة على التحكم في التلميذ وإخضاعه وإعادة صياغته من جديد. لذلك اقترن المدرّس وخاصة معلم الطور الابتدائي طيلة عقود بالتفويض الذي يناله من الوليّ والذي يصل حد الطلب الملحّ “حاسبني بجلده”، وكان الوليّ يتجه للمعلم أساسا لطلب “التدخل العنيف” لأن ابنه فعل كذا أو كذا في البيت أو في الشارع. لقد حاز المدرّس “صلاحيات واسعة” تشمل إشرافه كليا على فعل التمدرس وأيضا فعل التربية الواسعة التي تطال سلوك التلميذ وآدابه في المدرسة وحتى خارجها. لقد تقمّص المدرس/المعلم لعقود دورا مركبا هو استمرار لدور “المدّب” الذي كان يدرّس في الكتاتيب والمساجد، لذلك كان عديد المعلمين يحملون إلى حدود نهاية السبعينات لقب “الشيخ” بحكم نشأتهم الزيتونية التي كانت تعبّر عن نفسها غالبا من خلال لباسهم المميّز أي اللباس التقليدي (الجبة والشاشية والعمامة) ومن خلال تخصّصهم المطلق في اللغة العربية والفقه الإسلامي (التربية الإسلامية) وأيضا من خلال ممارستهم التربوية التي كانت تلجأ إلى “الفلقة” التي كثيرا ما يحتوي القسم أدواتها المادية (اللوحة المربوطة بحبل وعصا الزيتون) وأصحاب العضلات المفتولة من التلاميذ كثيري الرسوب أو اللذين التحقوا متأخرين بالتمدرس.
إن ماضي المدرسة التونسية – والعربية – كثيرا ما يتعاطى معه الكثير منّا بنوع من الحنين والحسرة على ماض مجيد وتليد، وتبرز هذه النزعات حين يتمّ التطرق لواقع المدرسة اليوم وما لحقه من تدهور طال كل تفاصيلها. إن هذه النظرة غير علمية ودغمائية وهي جزء من رؤية تقديس الماضي بشكل مطلق وترذيل الحاضر بشكل مطلق. لا شكّ أنّ لمدرسة الستينات والسبعينات من القرن الماضي مكاسب لا ينكرها إلا جاحد، وأهم مكاسبها هي توحيد التعليم وتعميمه دعما لشروط قيام الدولة الجديدة لذلك استمرّت باعتبارها مصعدا اجتماعيا فعليا لمدة عقود كما أن مناهج التعليم أخذت جزءا من العقلانية تأثّرا بالبرامج الفرنسية خاصة وأن اللغة الغالبة في التعليم كانت الفرنسية إلى بداية الثمانينات مع اعتماد التعريب المشوّه مع محمد مزالي. أمّا من جهة الأبعاد العلائقية صلب المدرسة فقد كانت تحتكم إلى منطق العلاقات العمودية الأبوية كما كانت شائعة في المجتمع. ولم تكن المدرسة بالمطلق فضاء مستقطبا، بل كانت في الغالب فضاء منفّرا والدليل هو ارتفاع نسب التسرب والانقطاع لأسباب متعددة ترتبط بالفقر أو ببعد المدرسة عن مكان الإقامة، وأيضا بسبب كمّ العنف الذي كان يمارس في المدرسة الابتدائية والثانوية من المعلم والأستاذ والقيّم والمدير وحتى من بعض العملة. لقد هجر العديد من التلاميذ مقاعد الدرس هربا من “العصا مسعودة” التي سبّبت للعديد رُهابا وفوبيا من الفضاء المدرسي، ولم يبق في المدرسة إلاّ الذين تمكنوا من النجاح سواء لملكاتهم ومواهبهم وإصرارهم أو بحكم سلطة العائلة وضغطها، وفي كل الحالات فإنّ نسبة المتخرجين من التعليم العالي مقارنة بعدد التلاميذ تبقى محدودة جدا وهو ما يؤكد البعد الانتقائي في السياسة التعليمية.
ولمّا كانت المدرسة فضاء يؤثّر ويتأثّر بما يجري في المجتمع، فقد اخترقتها مجمل التحوّلات الحاصلة في البلاد والعالم فتحوّلت المدرسة، خاصة منذ بداية التسعينات ورغم اتساع نسب التمدرس، إلى فضاء يحتوي ويصوغ التحوّلات القيميّة الحاصلة تحت وطأة هيمنة الخيارات النيوليبرالية فأصبحت المدرسة تتجه أكثر نحو السلعنة والتبضيع والتقدير المادي لكل شيء بما فيه العلم ذاته. تساوَق كل ذلك مع تراجع المكانة المادية للمدرّس لحساب بروز فئات ثرية جديدة لم تحقق صعودها الاجتماعي من خلال المدرسة، بل أنّ هذه الفئات هي الأكثر بعدا عن التعلّم والأكثر أمّية وتنافرا مع فضاء المدرسة مثل الفاشلين والراسبين والمرفوتين الذين علا نجمهم لارتباطهم باقتصاد الجريمة والاقتصاد الموازي والأنشطة التي لا تتطلب مستويات تعليمية ولو دنيا (الرياضات وخاصة كرة القدم، الفنون وخاصة المزود..) لتبرز على سطح المجتمع ظواهر جديدة تتلخص في التدهور المريع للأوضاع المادية والمعاشية للأوساط المتعلمة (الموظفون عموما) وفي مقدّمتهم المدرسون الذين تحوّلوا إلى الفئات الأكثر فقرا وفاقة، والصعود الصاروخي لفئات جديدة مثل المهرّبين وتجار الممنوعات، وأصبح النموذج الاجتماعي الناجح (l’idole) هو صاحب الثروة مثل تاجر المخدرات والمهرب والمزاودي والكوارجي… أمّا المسكين الذي يستأهل الشفقة فهو المدرّس. لقد انقلبت الصورة الاجتماعية رأسا على عقب، كما انقلبت منظومة القيم ولم يعد المدرّس يحظى بالمكانة الرمزية والاعتبارية، كما لم تعد المدرسة تحظى بالتقدير الاجتماعي وتحوّلت بدورها إلى سوق لبيع وشراء سلعة التعلّم والتعليم. لقد تعززت بين جدران المدرسة كل مظاهر العنف الرمزي والمادي والاجتماعي، عنف المستويات الطبقية المتباعدة والتي تتجلى في القدرة على الدفع كشرط من شروط التفوّق وعنف البرامج والمناهج والضوارب التي عززت التمايز الاجتماعي والذي يجد ترجمته في التوجيه المدرسي ثم الجامعي لمسالك وشعب ذات آفاق وأخرى منعدمة الآفاق. يتساوق كل هذا مع الانسحاب التدريجي للدولة من مسؤوليتها والتي يعبّر عنها نصيب المرفق التربوي من الميزانية العامة للدولة الذي لم يعد يتجاوز لعقود متتالية الـ 15% والتي توجّه تقريبا 98% منها إلى أجور جيش المنتسبين إلى الوزارة الأكثر تشغيلية.
لقد تدهورت ضمن هذا الوضع البائس البنية الأساسية للمدرسة التي لم تعد أجمل بناية في الحيّ أو القرية، بل أصبحت خربا متداعية للسقوط أبوابها ونوافذها مكسّرة، جدرانها مشققة، أروقتها منزوعة الجليز، سبّوراتها لم تعد صالحة من كثرة الاستعمال، دورات المياه منعدمة أو خارج الخدمة. أوراق الامتحان غدت غير مقروءة في إطار الضغط على مصاريف النسخ والطبع لنفاد ميزانية المعهد التي بالكاد تكفي لاستخلاص مصاريف الماء والكهرباء والنظافة التي تبقى غالبا مفقودة، أمّا الانترنيت فهي عموما منقطعة وفي أحسن الحالات ضعيفة. لقد سقطت “هيبة” المدرسة وانهارت نظرة الاعتراف والتقدير لها ولفاعليها وعلى رأسهم المدرّس الذي “كاد – في السابق – أن يكون رسولا”. لقد أصبح هذا المدرّس مجرّد رقم لا يعرف أغلب التلاميذ اسمه وهو الذي فقد الكثير من سلطته الأدبية والمعنوية التي شكلت بدورها لعقود نوعا من العنف الرمزي، وتحوّل هو ذاته إلى موضوع لكل أشكال العنف المادي واللامادي. تتعزز مظاهر العنف من خلال مصادر أساسية مثل وسائل الإعلام والاتصال وتحوّلات منظومة القيم ومنظومة الإنتاج وتقسيم العمل.
إن دائرة العنف المدرسي تتورّط فيها كل الأطراف بكل الأساليب والأشكال وليست فقط ممارسة في اتجاه واحد كما استأنس البعض التفسير: التلميذ يمارس العنف ضدّ المدرّس، أو جميع الأطراف ضدّ المدرّس أو جميع الأطراف الخارجيين ضدّ المدرسة ومنتسبيها. إنّ هذه المقاربة أحادية وغير موضوعية ولن تقدر على تقديم رؤية متماسكة وجدية للاشتغال على الظاهرة العنفيّة رصدا وعلاجا.

(يتبع)

إلى الأعلى
×