بقلم حمادي السعيدي
أصدرت مجموعة العمل من أجل ديمقراطية الطاقة خلال الأيام الأخيرة وثيقة جديدة بعنوان: “تونس ومشروع إلماد: ربط كهربائي مع أوروبا أم ارتباط بالأجندا الأوروبية للطاقة؟”. وقد تمّ، من خلال هذه الوثيقة، طرح جملة من التحفّظات والتساؤلات حول جدوى هذا المشروع الذي لطالما هلّلت له السلطة السياسية الحالية والسابقة معتبرة أنه أحد مفاتيح التخلّص من العجز الطاقي الذي تعاني منه تونس منذ سنوات.
وسنتعرض خلال هذا المقال لجملة الأفكار الواردة بالوثيقة الصادرة.
لماذا مشروع إلماد؟
تعرّضت الوثيقة للأسباب التي قدّمتها وتقدّمها السلطة في تونس لتبرير الانخراط في هذا المشروع. بداية تمّ التعرّض للدوافع التي تمّ تقديمها قبل ثورة 14 جانفي إبّان حكم المخلوع حيث كان الهدف الرئيسي هو تزويد السوق الإيطالية للكهرباء التي تعاني من عجز على مستوى تلبية الطلب في تلك الفترة وكان من المفترض الاعتماد على القطاع الخاص لبناء محطة كهربائية تعمل إمّا بالغاز الطبيعي أو بالفحم الحجري وذلك لتخفيض كلفة الإنتاج. جزء من هذه الطاقة المنتجة سيتمّ استهلاكه بالبلاد التونسية والجزء الأكبر سيتمّ “تصديره” عبر خط كهربائي بحري يربط بين الوطن القبلي وجزيرة صقلية. بالطبع كانت التبريرات تصبّ في خانة دفع الاستثمار بالبلاد عبر مجال الطاقة وتوفير مواطن الشغل.
أمّا بعد الثورة ومع تغيّر هيكلة السوق الإيطالية للكهرباء ووجود صعوبات لتصريف فوائض الكهرباء المنتجة من الطاقات المتجددة هنالك، تمّ تغيير صيغة المشروع ليقتصر على الخط الكهربائي البحري والتجهيزات المرافقة والتخلي عن بناء محطة الإنتاج. كذلك، هذا الخط الرابط أصبح مزدوج الاتجاه أي أنه لن يقتصر على تصدير الطاقة فقط وإنّما سيشمل أيضا توريد الكهرباء من أوروبا لتونس. هذه الصيغة الجديدة كانت مدفوعة – حسب الوثيقة – من توصيات البنك العالمي وتوجيهات الاتحاد الأوروبي من أجل خلق سوق للكهرباء بتونس ودمجها بمثيلتها الأوروبية وكذلك السماح للمستثمرين بتركيز مشاريع الطاقات المتجدّدة وتصديرها حسب ما ينصّ عليه قانون إنتاج الكهرباء من الطاقات المتجدّدة المصادق عليه في ماي 2015.
كلفة مشروع إلماد
في المحور الثاني للوثيقة وتحت عنوان: “الانعكاسات: نقاط الارتكاز”، جرى الحديث عمّا يمكن أن يفتح عليه هذا المشروع الباب من انعكاسات تهمّ قطاع الطاقة الكهربائية وكذلك الاقتصاد الوطني (الماكرواقتصادي). هذا دون التغافل عن ذكر الجوانب السلبية لهذا المشروع بالنسبة للشركة الوطنية الستاغ.
بداية، تمّ إبراز حجم القروض التي ستثقل كاهل الهيكل العمومي المتمثل في الشركة التونسية للكهرباء والغاز على اعتبار أنّ نصيبها يناهز ثلثي المبالغ المستوجبة للمساهمة في المشروع. هذه المبالغ سيتمّ دفعها من طرف الشعب التونسي والغاية هي تعبيد الطريق للشركات الخاصة لتصدير الكهرباء نحو أوروبا مثلما تضمنته وثائق مؤسسات التمويل.
كذلك، تمّ التعرّض لحقيقة تلبية الحاجيات الوطنية من الكهرباء التي ستتناقض مع رغبة المستثمرين الأجانب في تصدير إنتاجهم وهو ما يفتح الباب إلى عدم الاستجابة لحاجيات الاستهلاك المحلي أو تعميق تبعيّتنا الطاقية للخارج: فتوريد الغاز الطبيعي من الجزائر سيتمّ تعويضه باستيراد الطاقة الكهربائية من أوروبا والنتيجة تحويل الستاغ إلى مجرد “هبّاط” في سوق الكهرباء المزمع إنشاؤها.
إضافة إلى ذلك، فقد تعرّضت الوثيقة لإحدى أكبر دعاوي الانخراط في المشروع والمتمثلة في “إيجاد خيار منخفض التكلفة لتوريد الكهرباء إلى تونس” (هذا ما ضُمِّنَ بإحدى وثائق البنك العالمي المذكورة). هذه الدعاوي تمّ دحضها عبر مقارنة كلفة إنتاج الكهرباء في تونس ونظيرتها بالسوق الأوروبية. أيضا، تمّ إبراز حجم التقلبات التي تعيشها هذه السوق خلال السنوات الأخيرة ودعوات الهياكل الأوروبية المختصة لمراجعتها وهذا ما يجعل انخراط تونس فيها سيرا نحو المجهول.
ختاما، جرى الحديث عن أثر المشروع في تخفيض البصمة الكربونية أي تحقيق أهداف أوروبا على حساب المالية العمومية التونسية المساهِمة في المشروع باعتبار حجم الفارق الكبير في الانبعاثات المسبّبة للاحتباس الحراري بين تونس وأوروبا وهو ما يكرّس نفس السياسات الاستعمارية القديمة في توظيف الموارد المحلية لدول الجنوب لصالح مخططات دول الشمال.
بدائل ومقترحات لكن لا حياة لمن تنادي
في المحور الثالث للوثيقة، قدّمت مجموعة العمل من أجل ديمقراطية الطاقة جملة من المقترحات والمشاريع البديلة التي بإمكانها حقّا حفظ السيادة الطاقية للبلاد والحدّ من التبعية إلى الخارج وفتح المجال أمام الاستثمار العمومي بما يمكّن من تجاوز الستاغ لإشكالاتها المتأتّية أساسا من غياب استراتيجية وطنية حقيقة للسلطة المشرفة على قطاع الكهرباء في تونس.
بداية، جرى الحديث حول فتح المجال للاستثمار العمومي كبديل حقيقي لاستيراد الكهرباء وتمّ إبراز أنّ جملة الموارد المالية المقترضة كان بإمكانها تمويل محطات ذات نجاعة عالية للاستجابة لحاجيات الاستهلاك المحلي (محطات تحويل الطاقة عبر ضخ المياه).
كذلك وفي سياق تعطّل المخطط الشمسي التونسي، كان بالإمكان استغلال تلك القروض لتركيز محطة طاقة شمسية عمومية وهو ما قد يمكّن من تخفيض كلفة الإنتاج للشركة التونسية للكهرباء والغاز.
لكن كل هذه المقترحات غير مدرجة بجدول أعمال الجهات المانحة التي تملي على الدولة التونسية ما يجب فعله إرضاء للدوائر الرأسمالية العالمية.
كما قدّمت مجموعة العمل أيضا مقترحات “إصلاحية” نوعا ما في غياب قرار جدّي لإيقاف المشروع تمثلت أساسا فيما يمكن أن يخفف من الانعكاسات السلبية لمشروع الربط الكهربائي مع أوروبا عبر مراجعة النصوص القانونية الخاصة بتصدير الكهرباء وإعطاء أولوية للهيكل العمومي المتمثل في الستاغ وكذلك بعض الجوانب العملية الخاصة بالتصرف في الخط الكهربائي والطاقة المتبادلة.
مسك الختام: استعمار طاقي جديد
في ختام هذا المقال، وبعد التعرّض لنماذج من رفض إقامة مشاريع ربط كهربائي داخل أوروبا نفسها بهدف الحفاظ على السيادة الطاقية لبعض البلدان وعدم الانجرار وراء أطماع الدول الكبرى (كألمانيا)، ما يمكن استخلاصه من هذه الوثيقة هو أنّ حجم عملية التخريب لقطاع الطاقة عموما والكهرباء خصوصا كبير جدا مع اختراق الوكالات الأجنبية لمراكز اتخاذ القرار وتمرير الأجندات الأجنبية عبر تطويع الموارد المحلية لصالحها في غياب تامّ للمصلحة الوطنية وتجاهل لمشاركة الفعاليات المدنية الرأي (على غرار مجموعة العمل من أجل ديمقراطية الطاقة) وهو ما يؤكد بما لا يدع مجالا للشكّ أنّ الحديث عن السيادة الوطنية والخطاب المرافق لا يعدو أن يكون سوى سراب يحسبه الظمآن ماء.