يقلم الناصر بن رمضان
العوائق الموضوعية في القطاع العمومي
تتمثل العوائق الموضوعية التي اعترضت اليسار النقابي وعرقلت انغراسه وتوسّعه في الطبقة العاملة والشعب في تناوب القمع ضدّه من قبل السلطة وخديمتها البيروقراطية النقابية لحوالي أربعة عقود دشنتها الديكتاتورية النوفمبرية لنظام المخلوع بن علي بالمحاكمات السياسية التي تواصلت إلى حين اندلاع الثورة في 2011 وشملت العناصر النشيطة لليسار النقابي في نقابات التعليم الثانوي والأساسي وقطاع البريد ودعمتها بالإجراءات التأديبية للفصل عن العمل والنقل التعسفية وتغيير الإقامة، واستملكتها البيروقراطية النقابية في عهدي إسماعيل السحباني وعبد السلام جراد بالتجريد من المسؤولية النقابية والتجميد وتثبيت الحواجز القانونية أمام إمكانيات الفوز في المؤتمرات وتحمّل المسؤولية النقابية التي تفتح آفاقا للنقابيين للتعريف ببرامجهم والاتصال بالقواعد وعموم المنخرطين. والحقيقة أنّ هذه الإجراءات القمعية والتعسفية كانت موجهة ضدّ جميع النشطاء النقابيين والسياسيين، ولكن نصيب اليسار النقابي الديمقراطي منها كان وافرا ونوعيا لما يمثله من خطر أمام “استتباب الأمن” السياسي والنقابي على السلطات، وكانت هذه الإجراءات تتمّ بالتنسيق التام الواعي والمدروس مع البوليس السياسي وأعوان محكمة أمن الدولة والإدارات الجهوية وكل الأجهزة البيروقراطية للسلطة الحاكمة، فأثرت تأثيرا بليغا على خطط الانتشار والتوسّع وقلّصت من حظوظ الانغراس رغم كل مجهودات التدارك والتجاوز وتغيير التكتيكات.
وبعد الثورة تراجع القمع المباشر وفتحت أمام عموم نشطاء المجتمع المدني والسياسي المجالات الواسعة للحرية والتعبير والتظاهر والتنظم، فاستعاد اليسار النقابي الديمقراطي الربط مع الطبقة العاملة والشعب مساهما من مواقع متقدمة في تأجيج الحراك الثوري في الجهات عبر الاتحادات الجهوية ومقرات الأحزاب والمنظمات الديمقراطية ونظم الوقفات الاحتجاجية وقاد العديد منها بدراية واقتدار، وربط مع الطلائع النقابية والعمالية في عديد المؤسسات العمالية والقطاعات المتحركة، فحقق المزيد من الإشعاع والصيت المعنوي وتحوّل إلى مرجع نظر في وضوح الرؤية وصواب التكتيك ومبدئية النضال.
لكن البيروقراطية النقابية المتمرّسة والضالعة في المناورات كانت لها عين على تطورات الأوضاع السياسية ومآلات تحالفاتها المتغيّرة باستمرار في وضع يتّسم بعدم الاستقرار وعين على البيت الداخلي وتحركات الحساسيات النقابية المتصارعة خصوصا عند الإعداد لترتيبات المؤتمرات التي فسحت المجال لتسلل أفواج من المتعاطفين مع حركات الإسلام السياسي وتحديدا أنصار حركة النهضة التي نجحت في الاستثمار في المؤتمرات النقابية القاعدية في زمن انشغل فيه اليسار النقابي بالحراك الخارجي في الشارع والتركيز على انتشار وتطوير الجبهة الشعبية وأحزابها ليجد نفسه في نهاية المطاف أمام الإعداد والترتيب الدقيق والبعيد عن الأنظار للانقلابات المتناوبة في فترة الكورونا حيث اكتملت دائرة الإجهاز التام على الثورة وغلق أقواسها بالانقلاب الشعبوي في 2021 وتلاه انقلاب البيروقراطية النقابية على الفصل 20 من النظام الداخلي للاتحاد العام التونسي للشغل في مؤتمر صفاقس 2022، سبقتها حملة مسعورة جديدة من التجميد والتجريد والإقصاء لقيادات قطاعية وازنة قد تفسد ودّ المنقلبين، فعمدت إلى تشويههم والتشكيك في صدقية دفاعهم عن المنظمة متّهمة إياهم بالتسييس وتحزيب العمل النقابي حينا والافتقار للواقعية والتطرف والمثالية في تناول الملفات النقابية أحيانا. والحقيقة من وراء تلك التهم المجانية لم تكن سوى الإقصاء وضرب التأثير والإشعاع الذي بات يكتسبه اليسار النقابي الديمقراطي والفصل بينه وبين القطاعات العمالية وإفشال خطط ومشاريع الانغراس في المهد وقطع الطريق أمامه في المؤتمرات وفض النقابيين من حوله وخلق التناقضات وتعميقها بينه وبين بقية الحساسيات النقابية القابلة بالترويض والمساومة.
تلك هي موجات الصراع الطبقي المتقلبة خلال العقود المنصرمة خصوصا في فترة الحراك الثوري الذي مرّ بدوره بعدّة اهتزازات وتوترات بدأت مكثفة سريعة ومتقاربة في الزمن وانتهت بالضعف والضمور ثمّ التلاشي شيئا فشيئا لتنحسر من جديد في بعض التحركات المبعثرة والمعزولة والتي وضعت اليسار النقابي الديمقراطي أمام صعوبات التأقلم معها من جديد والفعل فيها وعسّرت من تنفيذ تكتيكاته في الانغراس والالتحام بالطبقة العاملة والشعب، ووقف اليسار النقابي الديمقراطي عند حقيقة مفادها أن التغيير الديمقراطي الجذري للمنظمة من الداخل هي فعلا مهمّة صعبة وشاقة ومعقدة في ظل ضعف وغياب مشاركة الطبقة العاملة في الحراك الاجتماعي والسياسي.
إنّ التغيير الديمقراطي الداخلي للاتحاد في ظلّ الارتدادات والانقلابات وضرب أبسط مبادئ التداول على المسؤوليات النقابية بات أكثر عسرا وتعقيدا لأن البيروقراطية النقابية مستعدة لبيع جلد الثور قبل ذبحه وهي اليوم شرسة أكثر من ذي قبل في المحافظة على امتيازاتها تماما مثلما يفعل أسيادها في التشبّث المرضي بكرسي الحكم، كيف لا وهم ينهلون من نفس النبع وموحّدون حول الاعتداء والتنكيل بالشغالين والشعب، وإنّ ما وقع في 2011 لم يمسّ القاعدة الطبقية للبرجوازية العميلة المتعفنة وشرائحها اللقيطة، وطالما ذلك لم يحصل سيظل الانقلاب تلو الانقلاب والتمديد تلو التمديد، ذلك أن اجتثاث الاستبداد والتسلط واحد وإن اختلفت الساحات، وهو ما يحتّم على اليسار النقابي الثوري وكل الغيورين على الشغالين إعادة قراءة متطلبات التغيير الثوري من جديد دون تكرار الأخطاء والسقوط في نفس المطبّات السابقة.
وفي القطاع الخاص
تلك هي عوائق الانغراس المرتبطة بعراقيل السلطة والبيروقراطية النقابية، لكن ماذا عن العوائق الموضوعية المتصلة بالعمل في القطاع الخاص؟ هل كان الانغراس ممكنا وهل وقعت محاولات فعلية؟ ألا يمثل هذا القطاع مرتكز الطبقة العاملة التي يستهدفها اليساريون بالانتشار والتوسّع في صفوفها والحال أنها محور اهتماماتهم وأهدافهم؟
إنّ القطاع الخاص يلعب دورا حيويا في الاقتصاد الرأسمالي التابع، وهو يرتكز بنسبة كبيرة على المؤسسات الصغرى والمتوسطة ويشمل من جملة فروعه المصانع التصديرية والتحويلية التي تديرها البرجوازية الكمبرادورية الجشعة والعميلة والتي بحكم موقعها الطبقي لها حساسية خاصة للإضرابات والزيادة في الأجور الشيء الذي يطوّر لديها التصلّب والشراسة أكثر فأكثر تجاه الطبقة العاملة. كما أنّ عوائق الانغراس في هذا القطاع كانت متعلقة بسمات الطبقة العاملة الموغلة في التريديونونية الصرفة نتيجة تدنّي الوعي لعقود، إذ لم تحتكّ قياداتها النقابية بأهل السياسة إلا نادرا وربما تنظر إليهم بكثير من الريبة وعدم الاطمئنان على مستقبلها الهشّ. وبحكم تركيبتها السوسيولوجية المتأثرة بأصولها الريفية والفلاحية وسمات نقاباتها المفتتة والضعيفة من جراء التحوّلات الكبرى التي طرأت عليها في ظل العولمة المتوحشة، علاوة على التخريب المنهجي الذي تقوم به البيروقراطية النقابية عبر تسييج عمال المصانع بجدران إسمنتية سميكة وعزلها عن القطاعات المتمرّدة والاحتجاجية ومثقفيها الثوريين، أصبح هذا الانغراس عسيرا داخلها. ومع ذلك وقعت محاولات جدية في الجهات الصناعية الكبرى واستندت إلى مساحات الحرية التي وفرتها الثورة أثناء الإضرابات والحملات الانتخابية السياسية لكن حساب البيدر كان أقل بكثير من حساب الحقل.