بقلم ضحى قلالي
لا يمكن الحديث عن العنف بشكل عام وعن العنف الاقتصادي والاجتماعي خارج دائرة الصراع الطبقي كمحرك للتاريخ. فنحن نعيش مجتمع الطبقات والطبقة المهيمنة لها مكوناتها وتعبيراتها ووسائلها كما للطبقة المضطهَدة مكوناتها وتعبيراتها ووسائل دفاعها. ولكل طبقة أهدافها وهي تخلق لنفسها آليات الحفاظ على وجودها ومن هنا نستطيع فهم ظاهرة العنف في سياقها فهي حقيقة علمية وتاريخية مادية وليست قضاء وقدرا. فالعنف أداة من أدوات القمع والاستغلال للحفاظ على مصالح الطبقة المهيمنة.
ولا يخفى على أحد أن تونس تعيش كما كل البلدان التي تشبهها أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة. وإن كانت أسباب هذه الأزمة متعددة فإن الكثير منها مرتبط بالأزمة الاقتصادية العالمية. يتحدث العالم اليوم بشكل أو بآخر عن حتمية زوال الليبيرالية الجديدة وعن ضرورة تجاوز الرأسمالية الليبيرالية، على الأقل في شكلها الحالي، والتي أصبحت “نظاما يحتضر” يتوخى سياسة الهروب إلى الأمام.
تقوم البنوك العالمية بضخ الأموال ومساعدة أنظمتها العميلة حتى تحمي النظام العام من الانهيار. ولكنها لا تصنع غير “التضخم” ولا تفعل إلا مزيد تعميق الأزمة اقتصاديا واجتماعيا.
تبحث الرأسمالية النيولبرالية عن الحلول فتدعم تارة القوى الأوتوقراطية وطورا القوى الشعبوية للحفاظ على مصالحها ولكن حكم الأقلية والاستبداد والأوليغارشيا يعلن يوما بعد يوم سيره نحو الهاوية. أرغمت الرأسمالية على الاعتراف بأن “نبوءات كارل ماركس المتعلقة بمستقبل الرأسمالية لم تكن مخطئة” و بأن هذا النظام العالمي يشهد نقطة تحوّل تجبره على مراجعة العديد من المسائل ومنها شكل توزيع الثروة ومسألة الأجور والمسألة الايكولوجية ودور الدولة في علاقتها بالسوق وكيفية تجاوز الأزمة الاجتماعية التي خلقتها الأزمة المالية.
ولئن كان النظام الرأسمالي يبحث في كل مرة عن حلول تغيّر شكل النظام دون أن تمسّ من جوهره، أي عن عملية إنقاذ ممكنة، فإنها ما تنفك تؤكد أنها تحمل في طياتها بذور فشلها. فأزمة 2020 مثلا هي الأكثر قسوة في تاريخ الأزمات، أكثر حدة من أزمة الثلاثينات وأزمة 2008 وذلك لأن الإجراءات المتخذة في كل أزمة تكون سببا في وقوع الأزمة التي تليها.
وليست بلادنا بمنأى عن كل هذا. حتى أنه ورغم الهبات والقروض والتنازلات الموجعة التي تقدمها الحكومة التونسية في كل مرة فإن البنك الدولي نفسه يعلن: “لا تزال الآفاق المستقبلية للاقتصاد التونسي محفوفة بعدم اليقين”. وبحسب الإحصائيات الرسمية: يبلغ معدل البطالة المرتفع بالفعل نسبة 16 بالمئة خلال الثلاثي الثاني لسنة 2024. وطبعا يبقى معدل البطالة مرتفعا بشكل خاص بين الشباب والنساء في غرب البلاد.
وقد بلغت نسبة البطالة في صفوف النساء في تونس 21.3 بالمئة خلال الثلاثي الثاني من سنة 2024 وبلغت نسبة النساء المعطلات عن العمل من حاملات الشهادات العليا سنة 2024 نسبة 30.6 بالمئة من مجموع 23 بالمئة من المعطلين عن العمل.
أمّا على مستوى العالم، فقد تجاوزت نسبة الفقر حسب تقارير الأمم المتحدة نسبة 25 بالمئة في صفوف النساء بينما بلغت نسبة البطالة في صفوفهن نسبة 25 بالمئة. كما أنّ العنف الاقتصادي المسلط عليهن ارتفع بنسبة تتجاوز الـ40 بالمئة بعد جائحة كورونا خاصة وأن نسبة 61 بالمئة فقط من النساء هن من القوى العاملة في سن النشاط (مقابل 90 بالمئة للرجال في سن النشاط). كل هذا ولم تتخذ الحكومات أيّ إجراءات تنتفع بها المرأة حسب التقارير الدولية نفسها. بل إنّ الأمم المتحدة تؤكد أن واحدة من 10 نساء في العالم تعيش في فقر مدقع، إضافة إلى تضاعف عدد النساء والفتيات اللاتي يعشن في مناطق النزاعات والحروب حيث تعيش الآن (2024) أكثر من 614 مليون امرأة في هذه المناطق ممّا يضاعف نسبة عيش النساء في فقر مدقع بمقدار 7.7 مرة. كما أنه مع تواصل الحروب والأزمات البيئية والتغيرات المناخية فإن التقارير الدولية ترشح زيادة في عدد النساء الجائعات في العالم بـ 236 مليون امرأة وفتاة (سنة 2030).
وطبعا لا يمكن الحديث عن العنف الاقتصادي والاجتماعي دون الحديث عن تدهور الخدمات (تغطية صحية واجتماعية، صحة، نقل، سكن…). ولئن أصبح الانقطاع المبكر عن الدراسة مثلا ظاهرة مفزعة في تونس (انقطاع حوالي 300 تلميذ يوميا) فإن أكبر ضحايا هذه الظاهرة هنّ الفتيات في الوسط الريفي. وعلى مستوى العالم فان 1 من كل 3 فتيات لم تكمل المرحلة الأولى من التعليم الثانوي وخاصة في البلدان الإفريقية حيث تتدنى نسبة تمدرس الفتيات بشكل كبير. وهو ما يسهم مباشرة في ارتفاع نسب الأمية والبطالة والفقر وعمالة الأطفال إضافة إلى الزواج والحمل المبكرين وارتفاع نسب الهجرة السرية والموت المبكر في صفوف النساء والفتيات.
أمّا النساء العاملات وخاصة في الأعمال الهشة والأعمال المنزلية وفي الأوساط الشعبية والأرياف، فإنهن يتعرضن لعنف اقتصادي واجتماعي مزدوج. فمن جهة هن عرضة للاستغلال والاضـــــطهاد والتفقـــير وحتى الموت في أماكن عملهن، ومن جهة أخرى هن غالبا عرضة للعنف المنزلي ولافتكاك أجورهن القليلة من طرف الأزواج أو الإخوة أو الآباء. وهي ظاهرة معروفة وموجودة ولكن لا الأعراف ولا القوانين ولا أحد يعيرها اهتماما أو يحاول أن يجد لها حلا بعيدا عن التبرير أو التنظير.
عديدة جدا هي أوجه العنف الاقتصادي والاجتماعي المسلط على النساء، ولعل ما ذكرناه من إحصائيات، متأتية من داخل المنظومة البرجوازية الليبيرالية نفسها، تغطي واقعا أبشع بكثير. وهو واقع غير منفصل عن الصراع الطبقي، فالنساء جزء أساسي من المحركات المادية للتاريخ بما هي جزء رئيسي من قوى الإنتاج ولها موقعها الخاص من علاقات الإنتاج وتشكل قوة عددية كبيرة من ضحايا التوزيع غير العادل للثروة. وبما أن اضطهاد النساء كذلك هو مشكلة اجتماعية تاريخية مرتبطة بالاضطهاد الطبقي وبجملة القيم الاجتماعية التي يفرزها. حتى أن الدولة بتخليها عن دورها الاجتماعي وضعت النساء على فوهة بركان الرأسمالية، فصارت المرأة تقاتل على عدة جبهات اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وجنسيا حتى تتمكن من مواصلة حياتها وتأمين حياة جزء مهم من المجتمع.
ولأن تحرر المرأة تحررا فعليا وتاما مرتبط بالقضاء على الملكية الخاصة الرأسمالية وعلى النظام الليبيرالي البورجوازي المريض، فإن تجاوز العنف الاقتصادي والاجتماعي المسلط على النساء مرتبط عضويا بالقضاء على المجتمع الطبقي.
ولئن كانت الرأسمالية تحمل بذور انهيارها داخلها فإن الاشتراكية تحمل بذور انتصارها داخلها وهي التي تقوم على المساواة التامة والفعلية والتوزيع العادل للثروة ومشركة وسائل الإنتاج وانتفاء استغلال الإنسان لأخيه الإنسان. ولكن الاشتراكية لا يمكن أن تعيش في انتظارية زوال الرأسمالية، بل تستفيد من احتدام الصراع بين الأقلية البورجوازية المالكة (بما فيها النساء البرجوازيات) والأغلبية الكادحة التي لا تملك شيئا وبالتالي النساء المنتميات لهذه الأغلبية.
من الضروري والمهم اليوم مواصلة النضال من أجل تحقيق المساواة القانونية-الحقوقية والحفاظ عليها ودعمها وهو ما يمهّد لتحقيق المساواة الاجتماعية داخل الأسرة وفي الفضاء العام. والأهم هو مواصلة النضال من أجل إعادة إدماج النساء بشكل فاعل وكلي في الإنتاج الاجتماعي والاقتصادي ومن أجل إعادة الاعتبار لسلامة المرأة الجسدية والنفسية حتى تكون قادرة على الإنتاج والبناء والتحرر.
من المهم دون تأخير إحداث المحاضن ورياض الأطفال والمطاعم بالقرب من أماكن العمل، إقرار الأمومة وظيفة اجتماعية، تخفيض ساعات العمل للنساء والرجال معا حتى تكون هناك فرصة لإعادة توزيع الأدوار داخل الأسرة والمجتمع بشكل يسمح بتحرير المرأة من الأعباء المنزلية والتقسيم التقليدي للأدوار ورواسب الثقافة الاجتماعية التي تٌعتبر هي نفسها جزءا من العنف الاقتصادي والاجتماعي والنفسي المسلط عليها.
طبعا دون أن ننسى ضرورة مواصلة النضال من أجل افتكاك كل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية من حق في التعليم والسكن والتنقل والصحة والمساواة في الأجور والقضاء على التشغيل الهش وفرض إصلاحات زراعية تخرج المرأة العاملة في المجال الفلاحي من عبوديتها الجديدة وفرض شروط أكثر إنسانية للعمل داخل المصانع (تخفيض ساعات العمل، الترفيع في الأجور، القطع مع المناولة وعقود العمل الهشة، إجبارية عدم طرد المرأة بسبب الحمل والولادة…).إضافة إلى اتخاذ إجراءات اقتصادية أخرى عامة وعاجلة مثل الحدّ من المديونية ومن تدهور المقدرة الشرائية وغلاء الأسعار والبطالة القسرية وغيرها من أشكال العنف الاقتصادي المسلط على النساء والرجال وعموم الكادحين والأجراء والمعطلين.
ثم إن النضال متواصل من أجل “ثورة ثقافية” تعصف بالأفكار والمفاهيم والعقد الرجعية المتخلفة التي تريد أن تثبّت دونية المرأة وتؤبّد استغلالها.
ومن المؤكد كذلك أنه لا يمكن الحديث عن مساواة تامة وفعلية ولا عن “تمكين اقتصادي” ولا عن محاربة ظاهرتي تأنيث الفقر والبطالة ولا عن عدالة اجتماعية والعالم يشهد ما يشهده من مجازر وإبادات وحروب ولها ما لها من دور محوري في تفاقم ظاهرة العنف بكل أنواعه وأشكاله الأكثر وحشية.
إن العنف الاقتصادي والاجتماعي ليس ظاهرة منفصلة عن واقع النمط الاقتصادي وما ينتجه من وعي ومن سياسات ولذلك فان عدو المرأة الأساسي هو الرأسمالية وما تنتجه من نظام اجتماعي. ولهذا فقد راهنت الاشتراكية على النساء منذ البداية واعتبرتهن القوة الجبارة التي تستطيع تحريك الطبقة العاملة من أجل قلب النظام الاستغلالي والتخلص منه ومن رواسبه “فدرجة تحرر المرأة هي المقياس الطبيعي لدرجة التحرر العام” كما يقول – وهو محق تماما – منظر الاشتراكية كارل ماركس.
فلا خلاص من العنف إلا بتحرر الشعوب ولا تحرر للشعوب إلا بالمضي قدما في تحطيم أصنام الرأسمالية والتقدم في البناء الاشتراكي والإنساني.