بقلم علي الجلولي
المعالجة التأديبية وحدها لن تحدّ من الظاهرة
تتصاعد بمناسبة كل واقعة عنف في الوسط المدرسي صيحات الفزع الداعية إلى تشديد الأساليب التأديبية. إن هذه الدعوات تجد مشروعيتها في حجم السخط على تنامي الظاهرة العنفية التي اخترقت المؤسسة التربوية وأصبحت ممارسة “عادية” بمقتضى الإحصائيات المسجلة في كل المؤسسات والجهات. على أنّ صيحة الفزع تتصاعد أكثر حين يطال العنف مدرّسا أو مسؤولا بالمؤسسة (مدير، قيّم…) فيما تعتبر مظاهر العنف بين التلاميذ داخل المؤسسة وحولها الأكثر انتشارا وهو ما يجب الانتباه إليه لصياغة مقاربة متكاملة حول الظاهرة. والظاهرة العنفية تتقاطع مع انتشار مظاهر أخرى غير تربوية مثل استهلاك المسكرات والمخدرات أصبحت المؤسسة التعليمية مرتعا لها بل هدفا منظما لعصابات الأقراص والمواد المخدرة.
إن المعالجة في تقديرنا لا يجب أن تقف في حدود المقاربة التأديبية سواء اعتمادا على نظام التأديب المدرسي، أو اعتمادا على المعالجة الجزائية بالاتجاه إلى الشرطة والقضاء. إن هذه المعالجة تبقى قاصرة وبمعنى ما ذات مردود سلبي في التصدي للممارسات العنيفة سواء تعلقت بالعنف المادي أو بقية أشكاله المتفشية (العنف الرمزي، النفسي، المعنوي، على خلفية الموقع الاجتماعي والانتماء الجهوي والجنسي…) والذي يجب أن تكون لنا الجرأة كي نصدح أن أعضاء الأسرة التربوية ومن أبرزهم المدرّس هم الأكثر انخراطا فيها. إن المدرّس بمقتضى حجم المساحة الزمنية للالتقاء وبالتالي بحكم حجم الضغط الذي يقع ضحية له، فإنه ينخرط من حيث لا يشعر وأحيانا لا يعي بالممارسات العنفية المختلفة. وجب التنويه هنا أن التلميذ يعيش هذا الضغط أكثر بحكم حجم الالتقاء الذي يتجاوز حجم المدرّس، فالتلميذ يقضّي بين أربع ساعات وسبع ساعات (وأحيانا ثمانية ساعات) بين جدران القاعة بما يشكل في حد ذاته عنفا، بما يؤسس وييسّر الانخراط في ردود أفعال عنيفة أو ذات نزعة عنيفة. يضاف إلى ذلك نظام تسيير المؤسسة والتعليم بما فيه الامتحانات والمراقبة والتقييم الذي يتزامن مع المرحلة الأشد حساسية في عمر الإنسان وهي فترة المراهقة (بين 12 سنة و19 سنة هي فترة التمدرس بين الإعدادي والثانوي) بما يعزز النزوع العنفي الذي يجد عوامل دفع أخرى تنتشر خارج المدرسة في الشارع والأسرة وفي وسائل الإعلام والتواصل (المسلسلات، الأغاني…) بما يدفع الكثير من التلاميذ إلى ممارسة أشكال متعددة من العنف بما فيها العنف المادي ولما فيها ما يطال الإطارات التربوية بما فيها المدرّس. إن إصدار العقوبات بما فيها السالبة للحرية مثل التي تعرض لها التلميذ الذي هجم بسكين على الأستاذ “الصحبي بن سلامة” في معهد ابن رشيق بالزهراء (ولاية بنعروس) يوم 8 نوفمبر 2021 والتي هزّت الضمير الجمعي التربوي وغيره لم يقض على الظاهرة العنفية ولم يقلص منها. إن الإجراء الزجري الذي كان لازما لم يحدّ من انتشار العنف.
كيف نبدأ في معالجة الظاهرة؟
إن الخطوة الأولى التي يجب أن يعيها الوسط التربوي أنه لا معنى لمعالجة الظاهرة العنفية في الوسط المدرسي دون تشاركية واسعة لمختلف الفاعلين التربويين بمن فيهم التلاميذ. إن التعاطي القطاعوي مع الظاهرة هو عنوان قصور وفشل سيستمرّ إن لم تعِ مختلف أسلاك التربية والتعليم أنه آن الأوان لتنظيم تشاور واسع يفضي إلى مقاربة مشتركة تضبط أهدافا واقعية ممكنة التحقيق. ويمكن بصفة مباشرة أن تتولى النقابات السلكية تنظيم هذا العمل باعتبارها الإطار الأكثر تمثيلية وانتشارا في المؤسسات التربوية. إن التفكير الجماعي يجب أن يفضي إلى الاتفاق على مداخل ضرورية تؤسس لمقاربة تربوية علمية شاملة. هذه المقاربة يجب أن تتحرر من الأحكام الجاهزة مثل الإدانة الماقبلية للتلميذ والولي والتبرئة الكلية للفاعل التربوي. كما يجب أن تتحرر من الرؤية الزجرية باعتبارها الحل الأوحد أو الأساسي للظاهرة. إن الإجراءات الزجرية هي وجه من وجوه المعالجة لا غير، وإن أردنا معالجة علمية وموضوعية فان هذا الجانب (أي الإجراءات العقابية) يجب أن لا يُرتّب في صدارة الإجراءات بل يجب أن يكون مسبوقا بأنشطة توعويّة تحسيسيّة لمختلف الفاعلين. وفي هذا الصدد وجب التنويه أن مطالبة مكوّنات الأسرة التربوية بسن قانون لتجريم الاعتداء على المربين والمؤسسة التربوية إنما يحتكم إلى تحسيس مختلف الأطراف أي الدولة والمجتمع برمزية المؤسسة التربوية وقيمتها الاعتبارية فضلا عن المكانة المعنوية التي يجب أن يحظى بها المربي سواء أثناء ممارسة مهمته أو خارجها. هذا لا يجب أن يعطي للمربي وضعا خاصا ولا استثنائيا، فهو مواطن ينطبق عليه ما ينطبق على غيره من المواطنين والموظفين. إنّ الاعتراف بخصوصية دور المربي والمؤسسة التربوية هو علامة تحضر وتقدم، كما أن انتهاك حرمة المدرسة والمسّ من أعضائها هو دليل تخلف وتصحر فكري وقيمي وجب مقاومته لحساب رؤية اجتماعية تعطي للمدرسة وللمربين ما يليق بدورهم كصناع للعقول ومهندسين للأرواح والأذهان والأذواق، صناع حاضر المجتمع ومستقبله. إن المربي هو بخلاف خصوصية مهمته الحضارية مواطن له حقوق المواطنين وواجباتهم وينطبق عليه ما ينطبق على الجميع بما في ذلك حين يتورّط في ممارسة العنف مهما كان شكله. فالمربّي سواء كان مدرّسا أو مسؤولا في المؤسسة التربوية (مدير، قيّم، موظف، حارس…) يمكن أن ينحرف إلى “سوء استعمال السلطة” أي أن يستغل موقعه ويمارس التسلط والقمع والتمييز والتنمّر… كما أنّ برامج التعليم ومضامينها تخلق للمدرس مساحات لممارسة التعسف الفكري والإيديولوجي، وسلطته المعنوية في القسم وفي المؤسسة يمكن أن تكون فضاء لممارسة العنف المعنوي والنفسي، أمّا ضوارب المواد فتكون مدخلا للابتزاز المعنوي وخاصة المادي (الدروس الخصوصية) الذي توسّع وتعزز في العقود الأخيرة مستندا على التدهور المريع للوضع المادي للمدرسين وللخلل الذي ينخر منظومة التعليم وخاصة طول البرامج وتفاوت الضوارب التي تشكل في حدّ ذاتها أحد أهم أوجه اختلال المنظومة وفشلها. هذه المنظومة التي يعتبر التلميذ ضحيتها الأولى والمدرّس ضحيتها الثانية، والوجه الأكثر معضليّة هو تصادم هذين الطرفين/الضلعين الأساسيين حيث يعتبر العنف بأشكاله المتعددة التعبيرة الأشد فجاجة عن تدهور هذه العلاقة.
إنّ ما يجب أن نبدأ به هو تنسيب أحكامنا والقيام بالجهد اللازم للتخلص من النظرة “التقليدية” التي تُؤثّم التلميذ وتنزّه بقية الأطراف التربوية وعلى رأسها المدرّس. يترافق مع ذلك الاتجاه نحو الإيمان بفكرة أن الإطار الأفضل لمحاصرة الظاهرة العنفية هو الحوار الأفقي بين مختلف الأطراف التربوية لتوحيد زوايا النظر للظاهرة ولأسبابها الأساسية ولمخاطرها وانعكاساتها على المناخ التربوي برمته. لقد أثبتت التجربة إن الحوار الهادئ والتفاعلي مع التلاميذ يحقق نتائج مهمة وواعدة، وذات الأمر مع الأولياء الذين بقدر تشريكهم أو تشريك أكثر ما أمكن منهم كانت المعالجات أسلم. وداخل المؤسسة كلما كانت العلاقة حوارية / تواصلية بين التلاميذ والمدرسين كلما كانت العلاقات أفضل والنتائج الدراسية أحسن. وكلما كانت العلاقة عمودية /أبوية / قهرية كلما كان المناخ ملغّما وقابلا للانفجار في أيّ لحظة وبأيّ شكل. وكلما كانت النوادي الثقافية والعمل المدني والتطوعي نشيطا كلما تمكن مختلف الفاعلين التربويين من امتصاص عناصر التوتر في العلاقات. إن الحوارات الأفقية التي يجب أن يحتكم إليها الفضاء التربوي في إدارته اليومية تخلق الفرص الحقيقية للتصدي للظاهرة العنفيّة والحدّ منها ومن مفاعيلها وتجلياتها باعتبارها ظاهرة تتجاوز المؤسسة التربوية إلى الفضاء الاجتماعي بمختلف خلايا التنشئة فيه. إن المدرسة اليوم ـ وللأسف ـ هي أحد الأطراف المتورطة في شحذ العنف وشحنه وإعادة إنتاجه بلغة بيير بورديو، فهي مؤسسة ضبط وإعادة تنظيم للأدوار والمهمات الاجتماعية، وفي أروقتها و قاعاتها تنسج العلاقات بمضامينها المختلفة والمتناقضة، فكما يتمّ التواصل السويّ (وهو محدود ونادر في الحقيقة)، تنتشر مختلف أوجه وأشكال التصادم الفكري وأيضا المادي لأسباب تعود لاختلاف المواقع و الأجيال والمرجعيات والرؤى والتصورات للمدرسة وللسلوك وللهندام واللغة… وفي هذا السياق تطرح إشكالية الآليات والأساليب الأضمن لترتيب العلاقات وامتصاص أكثر ما أمكن من التوتر فيها.
إن الاحتكام إلى الحوار صلب المؤسسة التربوية بين مختلف مكوناتها لن يذهب بعيدا في نزع فتائل الظاهرة العنفيّة ما لم تتمّ المراجعات الجذرية الضرورة التي تهمّ السياسة التربوية بشكل عام بداء من نصيب وزارة التربية من الميزانية العامة للدولة بما يوفر الشروط المادية الأساسية لاشتغال التعليم العمومي والتي تطال البنية الأساسية للمدرسة وشروط التمدرس والحياة صلبها وتحسين أوضاع المنتسبين للقطاعات التربوية بما يعيد الاعتبار لدورهم كدور حيوي لنهوض المجتمع وتقدمه لا باعتبارهم قطاعات غير منتجة بما يعني أنها تمثل عبئا على الدولة. إنّ تحويل المدرسة العمومية إلى فضاء مستقطب عوض وضعها الحالي باعتبارها فضاء منفّرا بما يعزز شروط الالتحاق بالتعليم الخاص، هي مهمة اجتماعية عاجلة كي يتحقق فعلا تكافؤ الفرص وعدالة التعليم وديمقراطيته. كما أن مراجعة محتوى المواد وتوزيعها وضواربها والزمن المدرسي والسياسة التوجيهية وعلاقة حلقات التعليم المتلاحقة من التعليم الما قبل مدرسي إلى التعليم العالي والبحث العلمي والتكوين المهني، وأساليب تسيير المؤسسة التربوية على مختلف الأصعدة وعلاقة مكوناتها بعضها ببعض، فضلا عن علاقتها بمحيطها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، كلها عناوين لورشات يجب أن تنطلق بمشاركة فعالة من مختلف الفاعلين التربويين بما يعبّد الطريق نحو مدرسة عمومية في قلب المجتمع بمضامينها العقلانية وعلاقاتها السليمة وقدراتها الفعليّة في خلق الإنسان/المواطن الفاعل والسويّ.
إن العنف كجزء من السلوكات المحفوفة بالمخاطر بصدد التوسع والانتشار في كل الجهات، في الأرياف كما في المدن. إن ناقوس الخطر لا يجب أن يتجه إلى إعادة إنتاج المعالجات القاصرة التي ثبت للمرة الألف فشلها وعجزها عن محاصرة الظاهرة أو التقليص منها. إن ما نشهده في المدة الأخيرة من إعادة إصدار مناشير قديمة حول “منع استعمال الهاتف الذكي في المؤسسات التربوية” ومعلقات بعض المديرين حول “الهندام الحسن” ولـ “تفتيش التلاميذ لمصادرة الممنوعات ومنها الهاتف الذكي” لن تحلّ المشكل بل ستضاعف نفخ النار في الهشيم، فهذه “المعالجات” ما زالت تريد الاحتكام للمنطق الزجري/التأديبي الذي يتوهّم “بثّ الخوف” بين التلاميذ. إن هذا المنطق غير تاريخي وأصحابه لم يستوعبوا شيئا من التحولات الحاصلة عالميا لدى الأجيال الجديدة. إن رؤية تربوية شاملة وجذرية يجب أن تجد طريقها للاعتماد تشخيصا وعلاجا حتى لا نبقى ندور في الفراغ.
على هامش موت أستاذ بعد أن أحرق نفسه: المنظومة التربوية تجني ما زرعته (الجزء الأوّل)