الرئيسية / عربي / مستجدات الوضع السوري وتداعياته على القضية الفلسطينية
مستجدات الوضع السوري وتداعياته على القضية الفلسطينية

مستجدات الوضع السوري وتداعياته على القضية الفلسطينية

بقلم علي الجلولي

حبس العالم أنفاسه فجر 8 ديسمبر الجاري على وقع التحوّل الكبير الذي كان مسرحه سوريا التي سقط نظامها كما لم يسقط أيّ نظام قبله. نظام من أعتى أنظمة الاستبداد الشرقي التي جمعت بين أهمّ مقومات القوة: الجهاز العسكري بعدّته وعتاده الذي لم يوجّه إلا إلى صدور الشعب، والجهاز الحزبي العقائدي الذي يحكم لأكثر من نصف قرن. لكنّ النمر كان من ورق، إذ لم يدم هجوم الغزاة أكثر من أسبوع من الحدود الشرقية ليصلوا إلى العاصمة دمشق بصفر مقاومة. حُبِست الأنفاس، لا لسرعة الحسم التي لم يتنّبأ بها أكثر المتابعين قربا من الشأن السوري، فالأمر حُسِم في الغرف المظلمة ومطابخ القرار الدولي والإقليمي، بل حُبِست لأنّ الأسئلة الأولى التي قفزت إلى أذهان الأحرار هي تداعيات ما حدث على الوضع الفلسطيني الذي ظل يستقطب الأنظار والاهتمام منذ 7 أكتوبر وتصاعد حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني ثم على الشعب اللبناني. ولمّا دخل الغزاة إلى دمشق وأمسكوا بكراسي حكمها الجديد بالتزامن مع تواتر جملة من الأحداث السياسية والعسكرية، بات التحليل يتّجه اليوم نحو الإقرار بتعقيدات جديدة ستواجه القضية الفلسطينية وحركة التحرر الوطني في المنطقة وبالتالي الشعوب في الإقليم وفي العالم. نظام الأسد والقضية الفلسطينية يُعتبر هذا الموضوع من المواضيع التي يشيع فيها الخطأ والمغالطة سواء بنشر فكرة أنّ النظام السوري كان على الدوام نصيرا للقضية الفلسطينية ومنحازا للمقاومة وهو أحد أهم أركان “جبهة الصمود والتصدي” المعادية للنهج الساداتي الذي أمضى اتفاقية مخيّم داوود مع كيان الاحتلال، وهو أحد أهمّ مكوّنات خط الممانعة ومحور المقاومة. أو بنشر فكرة أن النظام السوري أبا وابنا هو جزء من النظام الرسمي العربي التابع والخاضع للامبريالية والصهيونية. في اعتقادنا الموقفان خاطئان واعتمادهما لا ينعزل عن الانحياز إلى موقف ما في قراءة خريطة المنطقة. إنّ النظام السوري هو جزء من النظام الرسمي العربي من جهة طبيعته الاستبدادية الوراثية رغم ادّعاء الجمهورية، فقد حكم الأب منذ وصوله للكرسي عن طريق انقلاب عسكري حتى مات وورّث الحكم لابنه حتى أُسقط وخُلع وهو حال الأنظمة العربية كلّها تقريبا. لكنه في الموضوع الفلسطيني لا يمكن اعتباره نظاما مطبّعا وخاضعا للإرادة الامبريالية وله علاقات مع الكيان الصهيوني الذي يحتل جزء من الأراضي السورية (الجولان…). فالنظام السوري له تناقضات مع الامبريالية لكنها تناقضات ليست قطعية وجوهرية، لذلك يتعرّض للحصار (قرارات قيصر…). لكنه لم يدخل في صراع مفتوح مع الامبريالية ولا مع كيان الاحتلال الذي لم يطلق ضده رصاصة واحدة رغم عدوانه المباشر على الأراضي السورية وعلى العاصمة دمشق مئات المرات، ورغم استهدافه لقادة فلسطينيين وإيرانيين أكثر من مرة. لقد ظل النظام السوري منذ حرب 1973 يردّد أنه يعمل على تحقيق التوازن الاستراتيجي مع العدو حتى يتحرك لتحرير هضبة الجولان (وفلسطين)، ومنذ الثمانينات أصبح يتحدث عن ضرورة تحقيق التفوّق الاستراتيجي حتى تتحرك دبابات دمشق نحو التحرير، ومات الأب وأمسك الابن ولم تتحرك الدبابات إلا إلى صدور الشعب السوري لقصفه وقمعه وقهره. أمّا العلاقة مع فصائل المقاومة الفلسطينية، فالعلاقة تحمل مظاهر متناقضة، فقد رفض النظام انطلاق أيّ عمل فدائي من أرض سوريا وحاصر الفصائل وتصادم معها وسجن قياداتها ومناضليها وتصادم مع قيادة منظمة التحرير (عرفات) أكثر من مرة. أمّا في لبنان، فإن النظام السوري قد دشّن وجوده بقيادة أفظع مجزرة تعرّض لها الفلسطينيون وهي مذبحة مخيم تل الزعتر التي أودت بحياة 4000 شهيد على يد الجيش السوري متحالفا مع القوى اليمينية المسيحية العميلة بعد حصار استمرّ من جانفي 1976 حيث منع الماء والغذاء والكهرباء على سكان المخيم، وفي جوان بدأ القصف (55 ألف قذيفة) وفي أوت حدثت المجزرة. علما وأنّ الجيش السوري كان طرفا في الحرب الأهلية اللبنانية بقرار من الجامعة العربية، وقد أسس نظاما أمنيا تحوّل بمقتضاه إلى الحاكم الفعلي للبنان وهو ما استمرّ إلى 30 أفريل 2005 بعد اغتيال رفيق الحريري ومجموعة من السياسيين والإعلاميين (جورج حاوي، جبران قصير…). لكنّ نفس النظام احتضن بعض الفصائل بعد خروجها من بيروت سنة 1982 حين اتجهت قيادة فتح ومنظمة التحرير إلى تونس، واختارت الفصائل اليسارية دمشق حتى تبقى في بلدان الطوق أين واصلت العمل والتدرب لكن دون استعمال الحدود مع العدو. ويتواصل وجود الفصائل الفلسطينية خاصة المعارضة لقيادة منظمة التحرير وسلطة رام الله إلى حدّ اليوم وهو ما مكنها طيلة عقود من التواجد القريب من أرض المعركة مستفيدة من الاصطفافات الحاصلة في المنطقة وأساسا من المحور الإيراني السوري والذي يضمّ حزب الله وفصائل المقاومة الفلسطينية، وفي المعركة الأخيرة التحق الحوثيون وفصائل عراقية موالية لإيران. لقد استفادت الفصائل الفلسطينية خاصة في ظل وضع إقليمي معادي بحكم حجم الخنوع والتطبيع مع العدو والقبول بسياساته وسياسات البيت الأبيض (صفقة القرن، التحالف الإبراهيمي…) وهو توجّه يتنافس في حجم العمالة فيه نظامي السعودية والإمارات (محمد بن سلمان ومحمد بن زايد) اللذين يريد كل منهما قيادة المنطقة نحو مزيد من السقوط ضمن مشروع “الشرق الأوسط الجديد” الذي تصاغ ملامحه بما يجري اليوم في فلسطين ولبنان وسوريا ومجمل المنطقة شرقها وغربها. في كلمة النظام السوري لم يحارب كيان الاحتلال منذ 1973، وأيضا لم يطبّع معه ورفض إمضاء اتفاق سلام بعد اتفاق أوسلو وأوقف المفاوضات مع العدو بإشراف الأمريكان. مساندته للقضية الفلسطينية تجلّت من خلال إسناد فصائل المقاومة وحزب الله، لكن كل ذلك تمّ بما يحفظ مصالحه كنظام يهتمّ بالعرش أكثر من أيّ قضية أخرى، ولا أدلّ على ذلك التسريبات الحاصلة حول سياسته في الأشهر الأخيرة من عمره والتي اتجهت إلى التقارب مع القطب السعودي/الإماراتي والابتعاد تدريجيا عن “محور المقاومة” وهو ما انتهى به إلى “السقوط الحر” أي دون سند لا من الحلفاء القدامي ولا من الجدد، ولا من منظومة الحكم التي بناها الأسد الأب والابن التي آثرت التفكك والاستسلام. الوضع الجديد وتداعياته على القضية الفلسطينية يتابع أنصار القضية الفلسطينية في العالم مستجدات الأوضاع في سوريا لا من جهة التعاطف مع نظامها الاستبدادي، بل من جهة تداعيات سقوط النظام على القضية خاصة مع استمرار حرب الإبادة لأكثر من عام وشهرين يوم فرار بشار. والقناعة حاصلة لدى قطاع واسع من الرأي العام المساند لفلسطين أنّ الحكام الجدد لدمشق لا تربطهم رابطة بفلسطين وبالقضايا العادلة للشعوب، فـ”هيئة تحرير الشام” وليدة “تنظيم القاعدة” ثم “داعش” لم تطلق رصاصة واحدة ضد كيان الاحتلال وهي التي جمعت آلاف المنتسبين من كل أصقاع العالم ودرّبتهم لا لتحرير الأرض من الاحتلال، بل لإخراجها من “دار الكفر” وإدخالها “دار الإيمان”. إضافة إلى التبعية العضوية والوظيفية لهذه العصابات الإرهابية للمخابرات الغربية ومطابخ القرار الدولي الذي يستهدف تحقيق أهداف الامبريالية والصهيونية في المنطقة. ولقد أثبتت المعطيات الحسّية طيلة عشرة أيام من حكم العصابات تواطؤهم الواضح والمفضوح مع الاحتلال الذي تجاوزت قواته خط الهدنة الذي يعود إلى مآلات حرب 1973، ووصلت إلى ريف دمشق أي إلى ما يبعد 20 كم عن العاصمة الإدارية والسياسية للبلاد ورفع الغزاة علم كيان الاحتلال على جبل الشيخ أعلى قمة في المنطقة أين ركبت أجهزة الاستعلام والتجسس، وقد صرح نتن ياهو الذي أشرف بنفسه على عملية اجتياز الحدود أن وجود جيشه على الأرض السورية سيمتد لعام على الأقل. بالتوازي مع ذلك قام كيان الاحتلال بأكثر من 500 غارة دكّت كل المقدرات العسكرية والصناعية والعلمية للجيش والدولة السورية ولم ينبس الحكام الجدد ببنت شفة تعليقا ولا استنكارا بما يؤكد انخراطهم أو موافقتهم على ما يحدث. وقد صرّح الجولاني حاكم دمشق الفعلي أنه لن يسمح بأن تكون سوريا منطلقا لأيّ نزاع مع “إسرائيل” وردّد أكثر من مرة أنّ شعب سوريا يريد السلام ولا يريد الحرب وهي رسائل مضمونة الوصول وواضحة المعنى والعنوان. أمّا عن تحالفات النظام الجديد فلن تكون إلا مع أولياء النعمة الذين أمّنوا غزو سوريا أي تركيا العثمانية والامبريالية الأمريكية والغربية والكيان الصهيوني. بطبيعة الحال المتضرر من هذا الوضع الجديد هو القضية الفلسطينية والمقاومة اللبنانية وشعوب المنطقة التي سيهيمن عليها لردح من الزمن محور التطبيع والخنوع للإرادة الامبريالية والصهيونية التي تستعد مع حاكم البيت الأبيض الجديد لطور جديد من التحكم في المنطقة عبر إعادة صياغتها وصياغة مكوناتها ضمن الصراع الضاري مع القوى الامبريالية الأخرى التي خسرت بعض النقاط من خلال خروج روسيا (وإيران) من سوريا، لكنّ قدمها تتعمق في مناطق أخرى بما فيها القارة الإفريقية سواء في شمالها (شرق ليبيا، السودان) وخاصة في بلدان الساحل و جنوب الصحراء بعد انقلابات مالي والنيجر وبوركينا فاسو وهي فضاءات جيوبوليتية سيتصاعد على مسرحها الصراع من أجل الهيمنة وتوزيع النفوذ. القضايا العادلة تنتصر بالتعقيدات لا بالتسهيلات القناعة تتعمق يوميا أنّ الشعب الفلسطيني ستتعمق صعوباته، والمقاومة ستتضرر من التحولات الحاصلة وهي تنتظر الأسوأ على الساحة السورية، والمكاسب السياسية والعسكرية المحققة في المعركة الضارية مع العدو مهددة بالتبخر، لكنّ القناعة تتعمق أيضا أن هذه الصعوبات ليست جديدة، وأن الشعب الفلسطيني وقواه المقاومة لم تعرف من الحكام العرب قديمهم وحديثهم إلا التآمر والغدر والخيانة. وهذه الصعوبات ستعرف المقاومة بما راكمته من خبرات وتجارب كيف تذللها بل وتحوّلها لصالحها مثلما فعلت حركات المقاومة في التاريخ وفي مختلف التجارب. إن المقاومة في غزة ورغم حجم الدمار إلا أنها ما زالت تدكّ العدو وتكبّده الخسائر وما زالت الصواريخ تخرج من القطاع جنوبا وشمالا ووسطا، وما زالت البلاغات العسكرية للفصائل تصدر يوميا بالخط وأيضا بالصوت والصورة. وما زالت المقاومة صامدة في إدارة المفاوضات غير المباشرة مع العدو، ورغم هجمة أعوان العميل محمود عباس على مقاومي جنين إلا أنّ التحام الشعب الفلسطيني ووعيه المتقدم بالمؤامرات التي تعدّ للضفة الغربية ستحبط مساعيه وإنّ قدر الشعب الفلسطيني ومقاومته هو أن تصارع على كل الواجهات، لكنّ ذلك على صعوباته وتعقيداته هو ما يعطي للمقاومة نبلا وشرفا وهي مسوغات أساسية للانتصار الذي لن يعطيه مذاقه إلا حجم التضحيات التي يعطي الشعب الفلسطيني بصددها نموذجا حقيقا بشعب يستحق الحرية.

إلى الأعلى
×