بقلم عادل ثابت
لئن لم تتضح بعد ملامح تركيبة حكومة فرانسوا بايرو (François Bayrou)، فإنّ برنامجها وأهدافها لن يحيد كثيرا عن سياسة حكومة سلفه ميشال بارنيي (Michel Barnier)، فهي ستولد حاملة لنفس المعوقات من ناحية ضعف التمثيلية والسند السياسي وستواجه وضعا مأزوما اقتصاديا واجتماعيا، ممّا سيضعها في مهبّ الرياح ويجعل مصيرها غير مضمون وربّما يكون مآلها السقوط مثلما سقطت الحكومة السابقة.
سقوط حكومة بارنيي الأقلية وسياساتها التقشفية
سقطت حكومة بارنيي – ماكرون، كما كان منتظرا، في امتحان مشروع قانون المالية بعد أن فشلت في تمريره بالقوّة عبر اللجوء إلى الفصل 49.3 من الدستور لتفادي عرضه على التصويت أمام الجمعية الوطنية (l’assemblée nationale). وهو ما ردّت عليه “الجبهة الشعبية الجديدة” برفع لائحة لوم في وجه الحكومة حصلت على 331 صوتا من أصل 574 نائبا (58%) في الجمعية الوطنية (مجلس النواب) وأدّت إلى إسقاطها يوم الأربعاء 4 ديسمبر. وللتذكير فإنّ حكومة بارنيي، وهو ينتمي لحزب اليمين “الجمهوريون” (Les Républicains) الذي يحوز على كتلة نيابية متواضعة العدد، جاءت في سياق انقلاب ماكرون على نتائج الانتخابات التشريعية السابقة لأوانها والتي مُنّي فيها بهزيمة كبرى، جاءت لقطع الطريق أمام تحالف “الجبهة الشعبية الجديدة” (Nouveau front populaire) الذي فاز بالمرتبة الأولى في تلك الانتخابات لتشكيل الحكومة الجديدة مثلما يفترضه احترام أصوات الناخبين وتقتضيه تقاليد وأعراف النظام السياسي الفرنسي. ورغم تحالف “الجمهوريون” مع مكونات حزام ماكرون في إطار حكومة بارنيي فإنّ الائتلاف الحاكم ظلّ أقليّا داخل الجمعية الوطنية، ولولا المساومات والمقايضة التي جرت بينهم وبين اليمين الفاشي والعنصري بقيادة “مارين لوبان” (Marine Le Pen) لما استمرّت هذه الحكومة أكثر من بضعة أيام.
وفي حقيقة الأمر، إنّ ما قاد ماكرون في تعيين بارنيي لقيادة الفريق الحكومي بالأمس، أو بايرو اليوم، لم يكن بهاجس احترام نتائج الانتخابات أو استجابة لما ترجمته من رفض واسع لسياساته اللاشعبية، بل كان أساسا محكوما بحماية مصالح الأثرياء وغلاة البرجوازية ومواصلة لسياسات حكوماته السابقة التي أغدقت عديد الامتيازات الجبائية على رأس المال والشركات. وقد تجلى ذلك من خلال إطلاق فزاعة شبح الإفلاس جرّاء ارتفاع نسبة العجز المرشحة لبلوغ 7 % من الناتج الداخلي الخام في نهاية ديسمبر 2025 في حين يفترض ألاّ يتجاوز العجز نسبة 3 % مثلما تقتضيه الضوابط المملاة من قبل الاتحاد الأوروبي. هذه الفزاعة كانت الغاية من ورائها إعداد الرأي العام لقبول الإجراءات المؤلمة التي ستمسّ بالأساس العمال والفئات الشعبية والتي تضمنتها الميزانية التقشفية التي أعدّتها حكومة بارنيي عبر الضغط على المصاريف والخدمات العمومية.
كما عادت على صعيد آخر خطابات تأجيج العداء للمهاجرين عبر الإعلان عن إعداد مشروع قانون جديد حول الهجرة، وهو ما لاقى ترحابا كبيرا من طرف اليمين الفاشي والعنصري، بغاية تمرير ما كان أسقطه المجلس الدستوري في جانفي 2024 من فصول قانون الهجرة الذي أعدّه وزير الداخلية جيرالد دارمنان (Gérald Darmanin) آنذاك. سقوط حكومة بارنيي منذ أسبوعين، مثله مثل الهزيمة التي منّي بها ماكرون في جويلية الفارط إثر مغامرة حلّ البرلمان بعد خسارته المدوّية في الانتخابات الأوروبية، ليست في الحقيقة سوى امتداد لحلقات من مسلسل الأزمة السياسية التي ما فتئ يتخبّط فيها حكمه منذ انطلاق عهدته الثانية في أفريل 2022 والتي دشّن بها مسار حكم الأقلية الذي يتواصل حتى اليوم. إنّ النظام السياسي الذي أسّس له دستور الجمهورية الفرنسية الخامسة قُدَّ لتكريس هيمنة الجهاز التنفيذي (الحكومة ورئيس الجمهورية) وفسح المجال بصفة خاصة أمام رئيس الجمهورية لبسط نفوذه وتجاهل تذمّر قطاعات شعبية واسعة ورفضها لسياساته المنحازة للأثرياء حتى ولو افتقد لأغلبية مثلما هو الحال اليوم. لذلك تعتبر الديمقراطية البرجوازية في نسختها الفرنسية متخلفة وأضيق تمثيلية من الديمقراطية البرجوازية في صيغتها البرلمانية. هذه الأخيرة ورغم طابعها الشكلي وعدم توفيرها الأسس المادية للأغلبية الكادحة حتى تمارس حقوقها وتبسط سيادتها فإنها تعتبر نسخة متقدمة من الديمقراطية البرجوازية باعتبارها تقطع مع حكم الفرد. وفي هذا السياق يمكننا فهم ما تطرحه حركة “فرنسا الأبية” وبعض الأحزاب اليسارية الإصلاحية في فرنسا من ضرورة وضع حدّ للجمهورية الخامسة والتأسيس لنظام برلماني أكثر ديمقراطية لتجنب مثل هذه الأزمات.
هل تعود الحركة الاجتماعية إلى صدارة المشهد؟
إن الأزمة السياسية الحالية ومآلاتها ليست بمعزل عن الحركة الاجتماعية والتطورات التي يمكن أن تشهدها في الفترة القادمة وما قد ينتج عنها من تحوّل في موازين القوى. فالسياق الاجتماعي العام اليوم لا يزال مطبوعا بنفس السمات العامة من تجميد للأجور وغلاء المعيشة وتراجع المرفق العمومي مقابل إغداق الإعفاءات والتسهيلات أمام الأعراف تحت غطاء الرفع من قدراتهم التنافسية في وجه منافسيهم الأجانب، وهو ما خلق حالة من الاستياء والتذمّر العام في صفوف الفئات الشعبية بالخصوص من عمال وفلاحين صغار وشباب ونساء، أي الفئات الأكثر تضررا من السياسات الحالية، كانت ترجمته نتائج الانتخابات الأخيرة. ولكنّ هذا الوضع قد يتطوّر بسرعة في الفترة القادمة خصوصا وأن بوادر ذلك بصدد التشكل على أكثر من واجهة. ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى إضراب الوظيفة العمومية (تعليم، صحة…) منذ أسبوعين يوم 5 ديسمبر وما صاحبه من تحركات احتجاجية (تجمعات، مظاهرات…) ضدّ مشروع الميزانية وللمطالبة بوقف الضغط على النفقات العمومية وتحسين خدمات المرفق العمومي وظروف العاملين فيه بما يعنيه أيضا من انتدابات ضرورية. أمّا في القطاع الخاص فقد شهدت الفترة الأخيرة انطلاق موجة تسريح مسّت الآلاف من العمال وغلق العديد من المؤسسات في قطاعات حيوية على غرار صناعة السيارات والمعادن والكيمياء والتوزيع والصناعات التحويلية للمنتوجات الفلاحية والأغذية، يجري ذلك بهدف الرفع من القدرة التنافسية للشركات عبر الضغط على تكلفة الإنتاج وبشكل خاص مكوّنها الأساسي أي الأجور لضمان مزيد من الأرباح. وهو ما قابله العمال في عدّة قطاعات وخاصة منها قطاع صناعة السيارات الذي يعرف أزمة حادة بتحركات وإضرابات هامة وصلت حدّ تحقيق انتصارات مثلما حصل في معمل Dumarey Powerglide في مدينة سترازبورغ. ولا تتوقف حالة التذمر والاحتجاج على العمال والأجراء والموظفين، بل تمسّ أيضا القطاع الفلاحي وخاصة منه صغار الفلاحين العاجزين عن تغطية نفقاتهم وضمان دخل يكفي لحفظ كرامتهم، وهم يواجهون الإفلاس جراء عدم قدرتهم على الصمود أمام المنافسة الغير مشروعة التي تشنّها شبكات التوزيع والاحتكارات العالمية المهيمنة في مجال الفلاحة والغذاء، وقد تتطوّر احتجاجاتهم في قادم الأيام في حالة غياب إجراءات تحمي صغار الفلاحين خصوصا بعد إمضاء الاتحاد الأوروبي على معاهدة التبادل الحر مع المركوسور وما تعنيه من تعزيز إضافي لسلطة الاحتكارات. وفي الختام، يمكن القول إن حكومة بايرو المرتقبة ستكون ضعيفة السند سياسيا داخل قبة الجمعية الوطنية، أمّا مصيرها فإنه سيكون محكوما بمآلات اللعبة السياسية وإعادة تشكل التحالفات وخصوصا منها مدى قدرة “الجبهة الشعبية الجديدة” على الحفاظ على وحدتها بعد أن احتدّت الخلافات داخلها في الفترة الأخيرة ومنحى أحد مكوناتها – الحزب الاشتراكي – نحو “الاعتدال” والتوافق مع الحكومة القادمة. لكنّ احتمال تطوّر الحركة الاجتماعية وعودتها إلى صدارة المشهد سيبعثر بالتأكيد كل هذه الحسابات، ولن يعصف بالحكومة فحسب بل يمكن أن يتعدّاه إلى إسقاط ماكرون نفسه رغم تشبثه بكرسي الرئاسة وتأكيد بقائه في الحكم حتى انتهاء ولايته في 2027 في خطابه الأخير بعد الإطاحة بحكومة بارنيي.