الرئيسية / الافتتاحية / هل سيكون عام 2025 موسم المحاكمات الكبرى؟
هل سيكون عام 2025 موسم المحاكمات الكبرى؟

هل سيكون عام 2025 موسم المحاكمات الكبرى؟

رفضت محكمة التعقيب يوم الثلاثاء 24 ديسمبر 2024 الطعن الذي تقدّم به المحامون في قرار دائرة الاتهام المتعلّق بما يُعرف إعلاميّا بملف “التّآمر على أمن الدولة” وهو ما يعني “تثبيت التهم” الموجّهة إلى “المتّهمين” في هذه القضية وإحالتهم على أنظار الدائرة الجنائية المختصّة بالنّظر في القضايا الإرهابية بالمحكمة الابتدائية بتونس. ومن المعلوم أنّ هذه القضية انطلقت في شهر فيفري سنة 2023 وشملت عددا من المناضلين والمناضلات السياسيّين المنتظمين وغير المنتظمين من بينهم غازي الشواشي الأمين العام السابق للتيار الديمقراطي وعصام الشابّي الأمين العام للحزب الجمهوري وخيام التركي وجوهر بن مبارك ورضا بلحاج وعبد الحميد الجلاصي وكلّهم نشطاء مستقلون وجميعهم موقوف إلى جانب شخصيات أخرى. وقد مثّلت هذه القضيّة منطلقا لحملة قمعية عامة وشاملة شنّتها سلطة الانقلاب ضدّ السياسيّين والإعلاميّين والنقابيّين والمحامين والقضاة ونشطاء من المجتمع المدني ومدوّنين ومشاركين في احتجاجات اجتماعيّة.
ولا شكّ في أنّ الهدف من هذه الحملة التي لم تتوقّف إلى حدّ الآن هو فرض الصمت على المجتمع وتصحير الحياة العامة ليحتلّها “الحاكم بأمره” ومؤيّدوه من حثالة الإعلاميّين و”الكرونيكورات” والسياسيّين الآكلين على جميع الموائد والانتهازيّين اللاهثين وراء منصب حتى لو اقتضى منهم ذلك القيام بأقذر المهمّات. وقد جنّدت سلطة الانقلاب لهذه الحملة القمعية المتواصلة ترسانة القوانين الظّالمة والفاشيّة الموروثة عن الدكتاتورية ومنها القانون المتعلق بالتآمر والإرهاب وما أضافت إليها من قوانين جديدة على غرار المرسوم 54 سيّئ الصّيت. كما جنّدت لها قضاء طيّعا بعد أن تمّ تفكيك هياكله وتصفية العديد من عناصره وإخضاع الباقي للترهيب بمقتضى مرسوم جائر يسمح للحاكم بأمره بإعفاء أيّ قاض بناء على تقرير من “الجهات المختصة” أي الأمن أو بمقتضى “مذكرات العمل” التي أصبحت، في غياب مجلس أعلى للقضاء شرعي ومستقل، الأداة التي تستعملها الوزارة بشكل تعسّفي، متى شاءت وكيفما شاءت، لنقل القضاة الذين لا يطبّقون التّعليمات. وأخيرا جنّدت لها حثالة من أشباه الإعلاميّين “القوّادين” الذين لا كرامة لهم ولا همّة لتشويه الضّحايا وتشويه كل من يقف إلى جانبهم أو حتّى يطالب باحترام حقّهم في الدّفاع عن أنفسهم.
وقد بيّن المحامون والعديد من الإعلاميّين الأحرار الطابع الملفّق لما يسمّى بملف “التآمر على أمن الدولة” وخلوّه من أيّ مستندات جدّية مثله مثل العديد من الملفّات الأخرى التي ذهب ضحيّتها سياسيّون أو إعلاميّون أو نقابيون أو نشطاء من المجتمع المدني. لقد بُني ملف “التآمر” على مواقف سياسية عبّر عنها “المتهمون” في لقاءات خاصة أو عبر وسائل الإعلام كما بُني على وشايات مضحكة/مبكية لأشخاص غير معلومين بدعوى تطبيق “قانون الإرهاب” الذي يقضي بإخفاء هوية “الواشي” حفاظا على “سلامته”. وما من شكّ في أنّ الطابع الملفّق، المضحك/المبكي لهذا الملف الذي جعل من غازي وجوهر وعصام ورضا وعبد الحميد وخيّام ورفقائهم في القضية “متآمرين” و”إرهابيّين” و”خونة” لتغطية الهدف الحقيقي من اعتقالهم أي تصفية الحساب مع خصوم سياسيّين بأساليب تعسفية لا تحترم أدنى شروط المحاكمة العادلة، هو الذي جعل قضاء التعليمات يمنع التداول فيه في وسائل الإعلام ملوّحا بتسليط العقاب على من لا يطبّق هذا القرار حتّى لا تفتضح الخروقات والتجاوزات والأباطيل والأكاذيب بل حتى لا يُفتضح الطابع الملفّق لهذه القضيّة.
وبطبيعة الحال لم يعد ثمّة هامش كبير لسلطة الانقلاب وقضائها الجائر حتّى يطيلا أمد هذه القضيّة التي انطلقت منذ حوالي العامين تعرّض خلالها المعتقلون إلى شتّى أساليب القهر والتجاوزات التي جعلت منهم في الواقع محتجزين قسريّا لا موقوفين عاديّين وفق القانون. لقد أحيل الملف على المحكمة الجنائية وهي مطالبة بتعيين تاريخ للجلسة وهو ما سيرفع المنع المضروب على التداول في هذه القضية الكبرى التي ستليها قضايا أخرى لتؤثّث السنة الجديدة. صحيح أنّ الإعلام مضروب اليوم بقطاعيه العمومي والخاص وأغلب العاملين فيه قدّموا شهادات الولاء، مثلما قدّمها أمثالهم في السابق لبن علي ليحملوا طول حياتهم وزر النذالة والانحطاط الأخلاقي، لكن سيتمكّن المعتقلون في النهاية، هم ومحاموهم، من الكلام أمام العموم ومن فضح كل الخدع وعمليات الاحتيال التي أحاطت بالقضية وهو ما سيمثّل شاهد إدانة آخر لسلطة الانقلاب وحكمها الاستبدادي الفاشي. وبطبيعة الحال فإنّ المطلوب من القوى الديمقراطية الحقيقية مواصلة الوقوف إلى جانب غازي وعصام وجوهر وبقية المعتقلين في القضية والمطالبة بإطلاق سراحهم دون قيد أو شرط في إطار المطالبة العامة بإطلاق سراح كل المعتقلين من أجل رأي أو موقف أو تدوينة أو المشاركة في احتجاج.
لقد أدان حزب العمال منذ اليوم الأوّل هذه الاعتقالات السياسية ونبّه إلى كونها تفتح مرحلة جديدة خطيرة من القمع والاستبداد التي لن تستثني أحدا. وهو ما أكّدته الوقائع إذ أنّ أبواب السجون فُتحت لتستقبل العشرات من السياسيّين والإعلاميّين والنقابيّين والمدوّنين ونشطاء المجتمع المدني، من النساء والرجال، بتهم متنوعة. وهي ما تزال حدّ الساعة تستقبل وافدين جددا فيهم المعروف لدى المنظمات الحقوقية والرأي العام وفيهم المجهول الذي لم يُعلم عنه أحد وهم عموما من المواطنين العاديّين الذي كتبوا تدوينة نقديّة أو علّقوا على خبر أو عبّروا عن استياء من سلوك الحاكم بأمره أو أحد أعوانه. وما من شك في أنّ حزب العمال إذ يقف ضد الاعتقالات والمحاكمات التعسفية مهما كان انتماء الضحيّة الفكري والسياسي فهو يقوم بذلك بشكل مبدئيّ صارم دفاعا عن قيم الحرية والديمقراطية والعدالة التي تدوسها الدكتاتورية. وهذا السلوك المبدئي هو نفسه الذي يقود حزب العمال في القضايا الأخرى التي تهمّ المحاسبة المتعلقة بالجرائم المرتكبة على حساب الشعب التونسي في مختلف المراحل التي مرّت بها بلادنا بما في ذلك بعد الثورة والتي يرفض الحزب أن تتمّ من موقع تصفية الحسابات المنقادة بعقلية التشفي أو التخلص من خصم سياسي بل لا بدّ أن تخضع بدورها لمعايير العدل الذي لا يقيمه سوى قضاء مستقل يحكم بقوانين عادلة.
وإلى الأمام، ونحن على أبواب عام جديد، إلى الأمام على درب الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية على أنقاض الاستبداد والدكتاتورية.

إلى الأعلى
×