الرئيسية / عربي / سوريا: مرحلة جديدة بتحدّيات كبيرة
سوريا: مرحلة جديدة بتحدّيات كبيرة

سوريا: مرحلة جديدة بتحدّيات كبيرة

بقلم عمار عمروسية

دخلت الشقيقة سوريا منذ اللحظات الأولى التي أعقبت الإعلان عن سقوط نظام “بشار الأسد” الديكتاتوري مرحلة جديدة فيها الكثير من التّعقيدات والمصاعب التي تنزل بأثقالها على اتّجاهات التطور المستقبلية لمسار نحت ماهية -ليس فقط النظام السياسي الجديد- وإنّما طبيعة الدولة وحدود سيطرتها الجغرافية وموقعها من مجمل المحاور الإقليمية والدولية المتصارعة على الساحات المحلية والعربية والعالمية.
فالانسحاب الجبان للديكتاتور والسقوط الدراماتيكي لنظام حكمه مكّنا الشعب السوري من تنفّس الصعداء والابتهاج المشروع بطيّ صفحة عقود طويلة من سيادة الحكم الجائر للحزب الواحد تحت قيادة متوارثة من الأب إلى الابن ضمن مملكة ينخرها الفساد ويدعمها التأطير البوليسي والاستخباراتي.
لقد عمّت مشاعر الابتهاج الأغلبية الساحقة من شعب سوريا بالدّاخل والخارج، فالكلّ عدّل مهجته على ساعة استعادة الحرية والجميع استعاد الأمل في استرجاع قيم المواطنة الحقّة تحت دولة القانون العادل والمساواة الحقيقية. بالتوازي مع تلك المشاعر التي لا يحقّ لأيّ ديموقراطي متماسك وحتّى ثوري أصيل إنكار أحقيّتها على أصحابها بدت تطفو على السطح ضمن المشهد السوري هواجس الرّيبة من القادم وحتّى الخوف من مشاريع الوافدين الجدد على الحكم.
فالحقيقة الموضوعية التي لا لبس فيها أنّ الإطاحة بنظام “الأسد” لم يكن نتيجة سيرورة حراك ثوري شعبي. بل كان محصلة ضغط ميداني واسع من قبل مجاميع إرهابية ضمن توافقات قوى دولية وإقليمية عبثت كما يحلو لها إن في ثروات البلاد أو في النسيج الاجتماعي.
فالتّهاوي السريع والسّهل لصرح الديكتاتورية الغاشمة على يد تلك الجماعات الموغلة في التطّرف والولاء للأجنبي وضع سوريا في مفترق طريق يُنذر بارتفاع المخاطر على مستقبل البلاد، الأمر الذي نغّص فرحة طيّ صفحة القهر والاستبداد وجعل قطاعات واسعة من شعب سوريا مجبرة من جديد على تعديل الأوتار ضمن ضوابط عديدة فيها أوّلا الحذر من الغد وتقلّباته وثانيا التريّث في عودة المهجّرين وثالثا وهو الأهمّ مباشرة حراك ميداني يرفع لواء الدولة العلمانية والنظام السياسي التعدّدي الديموقراطي.
فسوريا اليوم تخلّصت من قبضة نظامها الفاشستي المغلّف كذبا بشعارات العروبة والمقاومة الخ… غير أنّ حكّامها الجدد وبالأخصّ نواتها الصلبة ونعني “هيئة تحرير الشام” بالنّظر إلى خلفيّتها الفكرية والسياسية الغارقة في الظلامية والرجعية جعلت من مسار بناء المولود الجديد حاملا لجينات أوّليّة لنظام حكم شمولي قد يكون في بعض جوانبه المجتمعية أشدّ تخلّفا من سابقه.
فالقائد العام لإدارة العمليات العسكرية “محمد الجولاني” منذ اللحظة الأولى لدخوله دمشق وضع نفسه في مرتبة السلطان الأكبر، فهو يدير شؤون المرحلة الانتقالية وفق تقاليد الحكم الفردي المطلق المدفوع وفق نصائح تركية / أمريكية تقوم على تصريف خطاب تمويهي محاوِرُه الأساسية التشاركية والتسامح وقبول الأقليّات.
فحاكم سوريا “الجديد” ونعني به “الجولاني” يعمل جاهدا على طمس ماضيه الدّموي بالساحتين العراقية والسورية. فهو مرافق “الزرقاوي” في مذابح تنظيم القاعدة بالعراق وهو رأس “جبهة النصرة” الإرهابية بسوريا.
ولعلّ ثقل ذاك الإرث الدّموي هو ما دفع غرف الاستخبارات الأجنبية التي تدير أعماله إلى نصحه بخلع عباءة ذاك الموروث والتّوجه نحو تغيير اسم التّنظيم وتجميل الخطاب أوّلا لتوظيف كلّ الفصائل المسلّحة بهدف إسقاط النظام وثانيا خلق ممهّدات مشروعية شعبية بالدّاخل وثالثا فتح الطريق أمام قبول رسمي لدى دول العالم بما فيها النظام الرسمي العربي المحكوم في أغلبه بحكومات معادية للإسلام السياسي وعلى الأخصّ تياراته الأصولية.
فكلّ المؤشرات الواردة من دمشق تؤكدّ على الأقلّ حتّى يومنا هذا إتقان “الجولاني” لعبة التخفي والتمويه الذي وصل حدّ تغيير اسمه الذي أصبح بين ليلة وضحاها “أحمد الشرع” زيادة عن خلع لباسه القديم وتوضيب مظهره وفق مقتضيات الحداثة التي تليق باقتراب إخراجه مع تنظيمه من قائمات الإرهاب!!!
“جولاني” التّكفير وسطوة السّلاح حتّى مع إخوته في التنظيم وباقي الفصائل الذين أجبرهم على الخضوع والبيعة ينقلب وفق ضرورات خلق شروط التّمكين من جهة ومقتضيات الانصياع لدوائر التّشغيل يصبح “أحمد الشرع” ببغاء ترديد “كليشيهات” “الوطن لكل الأديان” و”وسوريا لكل الطوائف “و”دولتنا الجديدة لاعدوّ لها” الخ…
ينغمس “الجولاني” في مسرحيته التنكّريّه بعون إعلامي وسياسي لا حدود لهما من قبل أمريكا والغرب مضافا إليهما تركيا وجلّ أنظمة العرب. فالكلّ يمارس لعبة النفاق والرّياء ضمن مسار محموم تحكمه حسابات المصالح البعيدة كلّ البعد عن تطلّعات الطبقة العاملة السورية ومختلف الكادحين والمهمّشين. فحاكم سوريا الجديد يقدّم الدّليل تلو الآخر على نزوعه المتسارع نحو التّحكّم الانفرادي في مسار البناء الجديد. فالحكومة المؤقتة صاحبة النّفوذ الواسع على نهايات المرحلة الانتقالية ليست تقريبا سوى استجلابا للحكومة المؤقتة “لهيئة تحرير الشام” بمنطقة “إدلب”. وإعلان تلك الحكومة تمّ بشكل انفرادي وهو ما عبرّ عنه حتّى شركاء “الجولاني” في السلاح من باقي الفصائل، الأمر الذي دفع أحد الوجوه المعروفة من تلك المجموعات إلى التّعبير علنا عن امتعاضه بالقول “هي حكومة لون واحد وحقائبها أسندت وفق منطق الولاء”…
أكثر من ذلك، فالدعوة لانصهار المجموعات المسلحة لأكثر من 17 تنظيم في المؤسسة العسكرية لم تكن محلّ توافق شامل ولا نقاشات عامّة. إذ أنّ قوى مسلحة ذات وزن مهمّ رفضت هذه الخطوة وقاطعت حتّى جلسات التداول في هذا الموضوع الحسّاس.
فالأكراد وتحديدا “قوى سوريا الديموقراطية” (قسد) المدعومين أمريكيا ما زالوا بقوّة السلاح يبسطون سيطرتهم على مساحات بالشرق السوري حيث أكثر من 60٪ من النفط. أمّا ما يسمّى “الجيش الوطني الحرّ” المدعوم تركيا فهو متمسكّ بقدراته العسكرية ومناطق نفوذه المتداخلة مع “قسد”.
والوقائع تؤكدّ بأنّ جماعات أخرى رفضت الاندماج في المؤسسة العسكرية وطالبت بضمانات جدّية لقبول مثل هذه الخطوة، الأمر الذي يقيم الدّليل على مخاطر انزلاق هذه الجماعات نحو الاقتتال والتحارب إمّا نتيجة الفشل في تقاسم مغانم الحكم أو تحت منطق الانصياع لجهات التّشغيل وغرف مخابراتها.
فما هو مؤكد أنّ مستقبل سوريا لاعتبارات عديدة يشقّ طريقه ضمن مصاعب كبيرة وتعقيدات كثيرة تجعل من أوكد واجبات القوى الديموقراطية والوطنية تسريع وتائر عملها ورصّ صفوفها ضمن جبهة واسعة لغلق الطريق أمام إعادة إنتاج نظام استبدادي محافظ وعميل.
إنّ تجاوز حالة الضعف والوهن التي عليها تلك الحركة نتيجة عقود من نظام آل الأسد الديكتاتوري ليس بالأمر المستحيل كما أنّ الوقوف في وجه الجماعات المسلّحة وبطشها إن كشّرت عن أنيابها ليس مستحيلا على إمكانيات المثابرة في بناء القطب الديموقراطي الوطني الذي يضع نصب عينه تحرير الأراضي السورية من كلّ قوى الاحتلال وبناء الدولة الديموقراطية العلمانية.

إلى الأعلى
×