الرئيسية / صوت الوطن / تونس: في ذكرى ملحمة الخبز المغمّس بالدّم
تونس: في ذكرى ملحمة الخبز المغمّس بالدّم

تونس: في ذكرى ملحمة الخبز المغمّس بالدّم

بقلم عمار عمروسية

يبدو أنّ أحكام التّاريخ ومنطق الصراع الطبقي ببلادنا قد جعلا من فصل الشتاء وتحديدا شهر جانفي المجال الزمني الأفضل لاحتضان محطّات نضالية كبيرة من تاريخ منازلات الشعب التونسي بكلّ طبقاته وفئاته التي لها مصلحة في تحرير بلادنا من الطغمة الديكتاتورية العميلة في عهدي “بورقيبة” و”بن علي”.
فالكثير من المتابعين بالدّاخل والخارج للشأن الوطني ببلادنا انتهوا إلى خلاصات تصبّ جميعها في التشديد على الدلالات الرمزية لشهر جانفي، فهو لدى البعض أمجد الشهور وهو لدى آخرين عنوانا لشتاء الغضب الساخن…

شهر جانفي هو دون شكّ أثقل الشهور على كلّ أنماط خدع التوافقات الطبقية المغشوشة وناسف جميع توازنات حيل ضوابط ما يُعرف بالسلم الاجتماعية.
فشهر جانفي على الأقلّ في العقود الأخيرة أضحى بمثابة السياق الزمني الأفضل لتتابع الاحتجاجات الاجتماعية الكبرى لضحايا سياسات التوّحش الاقتصادي. فشتاء تونس كثيرا ما بدّدت برودته الإطلالات القوية لجموع الغاضبات والغاضبين في مناطق النسيان الحكومي وأحزمة التهميش بالمدن.
في هذا السياق، وإن بحيثيات مختلفة وبأسلوب غير معهود، جاءت عملية “قفصة” المسلّحة سنة 1980 وسبقتها سنة 1978 وقائع “الخميس الدامي” وأعقبتها ملحمة الخبز والدم في 1984 التي ثبّتت كلّ الدلالات الرمزية التي تعلّقت بالشهر (جانفي) ومجمل الحراك الشعبي بما فيها انتفاضة الحوض المنجمي 2008 وثورة الحرية والكرامة 17 ديسمبر 2010 / 14 جانفي 2011.
فانتفاضة الخبز كما هو معلوم انطلقت شرارتها صبيحة 29 ديسمبر 1983 بأحد الأسواق الأسبوعية لواحدة من بلدات الدّاخل (دوز) بجنوب الإقصاء والتهميش الذي سرعان ما تلقّف نيران الحريق الاجتماعي ومهّد الطريق بسرعة غريبة إلى انتفاضة عارمة شملت مختلف جغرافيا البلد من أقصى جنوبها إلى آخر نقطة في شمالها.
فالانتفاضة كانت وفق جلّ المتابعين نقلة كبيرة قياسا بالهزّات التي سبقتها، فهي الأكثر شمولية من زاوية مجالها الجغرافي (أرياف، قرى، مدن) وهي الأكثر اتساعا من زاوية اجتذابها لأغلب الطبقات (عمال، فلاحين…) وعديد الفئات الشعبيّة (معطلين، طلاب، تلامذة، موظفين) وكانت أيضا راديكالية الأساليب النضالية وطرق الاحتجاج.
لقد نهض الجميع بتصميم كبير ووضعوا نصب أعينهم الدّفاع حتّى النهاية عن قوتهم.
فكلّ الحناجر تلهج في الميادين والسّاحات العامّة “خبز وماء ومزالي لا” في تحيين ذكيّ لشعار قديم -“خبز وماء ونويرة لا”- العائد لوقائع “الخميس الدامي” في 26 جانفي 1978.
وكلّ الجموع الغاضبة كانت مع كلّ صباح جديد منذ 29 ديسمبر موقنة بأنّ قوتها هذه المرّة له ثمن قد تكون تكاليفه دفع الحياة أو السجن الخ…
فشلت ألاعيب النظام الإعلامية والسياسية في تطويق لهيب الحريق الاجتماعي وعجزت آلة القمع الوحشية بما فيها إقحام المؤسسة العسكرية لرفد التوحش البوليسي.
أدار طالبو الحياة وجوههم عن القناة التلفزية الوحيدة التي وضعت كلّ إمكانياتها للمغالطة وتزوير الواقع بهدف تمرير وصفة صندوق النقد الدولي القائمة على خطّة تقشف مضمونها خفض الدعم على الحبوب ومشتقاته الذي مثّل وقتها 10% من الموازنة العامّة للدولة. للخبز أثمان في زمن الغضب، فسالت دماء كثيرة بجلّ المدن والبلدات التونسية وضمن دماء المواطنين العزّل تنامت فعاليات تلك الانتفاضة وقودها القهر الطبقي وحماسة الجماهير رغم رصاص العساكر والبوليس.
منازلة الغاضبين ظاهرها ثمن الخبز الذي وثب دفعة واحدة بنسبة 110% (من 70 مليم إلى 170 مليم) وباطنها، حتّى وإن كان بوعي جنيني، رفض إملاءات صندوق النقد الدولي وسياسات الخوصصة بما تعنيه من تعميق للفوارق الطبقية وإضعاف للدور الاجتماعي للدولة.
كبرت صرخة مسحوقي “دوز” ووصلت عاصمة البلاد بثقلها الشعبي ورمزيتها السياسية صبيحة 3 جانفي وقدّمت تقريبا كلّ ولايات البلاد من خيرة أبنائها جحافل الشهداء (تونس 31، صفاقس 11، قابس 6، المنستير 7، القصرين 6، مدنين 5، جندوبة 3، توزر 3، قبلي 2، قفصة 8، القيروان 2، باجة 1، سيدي بوزيد 2…).
أفاق الجميع مرّة أخرى بعد مذبحة جانفي 1978على حقيقة الأجهزة الصلبة ورياء مقولة أمن المواطن وجيش الدفاع عن الوطن فهما دوما منضبطان، وخصوصا وقت نهوض الشعب للدفاع عن حقوقه، جهازان قهريان لحماية النظام وطُغاته.
أغلق الغاضبون أيّامها آذانهم عن نشرات الأنباء الكاذبة وحذلقات رئيس الوزراء الراحل “محمد مزالي”، فكلمة السرّ بين الجموع للخبز ثمن وصل أودية من دماء حوالي 92 شهيدا وأكثر من 900 جريح زيادة عن مئات المعتقلين.
نحو كسر شوكة السلطة سارت حركة الاحتجاج رغم افتقارها لمقوّمات أساسية لتحقيق انتصارها الحاسم والنهائي على النظام البورقيبي.
فالحماسة الجماهرية واستحضار البعض من أساليب المقاومة في جانفي 1978 أمّن صمود الانتفاضة وتوسّع رقعتها وجعل نظام الحكم أمام ضرورة مراجعة خيار القوّة والعودة إلى سياسة اللين والاحتواء فكان الظهور المسرحي لرئيس الجمهورية “الحبيب بورقيبة” البارع في تدوير الزوايا والمحنّك في الخروج من المآزق فكان أن ألقى كلمة مقتضبة لم تتجاوز 6 دقائق أهمّ ما ورد بها “نرجعوا وين كنّا، ما فمّاشي، هاك متاع الزبلة (يقصد زكرياء بن مصطفى رئيس بلدية العاصمة) غلطني…”.
بتلك الكلمات وذاك الأسلوب القائم على التفصّي من المسؤولية الفردية والعامة وتقديم بعض أكباش الفداء من خلال إزاحة بعض رموز النظام أمكن للرئيس إخماد لهيب الانتفاضة وقطع الطريق أمام إمكانيات استمرارها وهو الأمر الذي اشتغلت عليه مجمل دوائر الإعلام الرجعي في محاولة متكرّرة من جهة لتمديد أنفاس أركان منظومة رجعية معادية للشعب ومن ناحية أخرى إعادة النّفخ في صورة رئيس هزمته شيخوخته وأنهكته شدّة صراعات عصابات أجنحة حكمه المتكالبة على وراثة كرسيه وصلاحياته.
وفي هذا الصدد المتعلّق بحملات التطبيل وصيانة الأصنام المهترئة نورد افتتاحيتي كلّ من جريدتي “الأنوار” و”البيان”.
فالأولى، يوم 8 جانفي 1984، جاءت تحت عنوان “قائد الشعب يحمي خبزة الشعب”، أمّا الثانية لنفس الأسبوع فوردت على هذا النحو “تكلّم بورقيبة فعاد الوعي”.
لقد جانبت الافتتاحية الأخيرة الحقيقة ذلك أنّ واحدة من النقائص الأساسية لملحمة الخبز كانت افتقارها لعنصر الوعي وتحديدا لبرنامج سياسي عامّ زيادة عن افتقارها ليس فقط لقيادة ثورية محنكة وإنما لزخم قويّ من هيئات حزبية ونقابية وجمعياتية وتكفي الإشارة إلى دور السلبي وحتّى التخريبي الذي لعبه كل من “الاتجاه الإسلامي” والقيادة البيروقراطية للاتحاد العام التونسي للشغل.
لقد كانت نتائج تلك المنازلة متواضعة قياسا بحجم التضحيات المقدّمة إلاّ أنها كانت منسجمة مع موازين القوى الطبقية القائمة آنذاك والأهمّ من ذلك ومن التعجيل بحرق ورقة “محمد مزالي” وتبديد كلّ طموحاته فإنها مثّلت حلقة محورية في الحراك الشعبي وأسهمت دون شكّ في تغذية الموروث الجمعي للجماهير.
وهو موروث استحضرت الكثير من جوانبه مختلف فعاليات النضال الشعبي لاحقا وهو ما نجد البعض من عناصره شديد البروز في الثورة التونسية.
فألعوبة “غلّطوني” التي استفاد منها بورقيبة في تهدئة الأوضاع فقدت كلّ مفاعيلها يوم 12 جانفي 2011 مع “بن علي” وأضحوكة أكباش الفداء التي خفّفت الخناق على النظام البورقيبي لم تُسِلْ لعاب شعب الثورة وقت أخرج “بن علي” ورقة “الحكومة الوطنية” وبادر بإزاحة وزير داخليته.
كلفة الخبز كانت غالية إلا أنّ دروسها كانت أثمن من زوايا مراكمة الوعي للجماهير الواسعة التي كثيرا ما تحتاج إلى تجاربها الخاصّة لتطوير قدراتها واكتشاف مكامن قوتها بالإضافة إلى تجويد طرق وأساليب نضالها.
لقد تعلّمت الحركة الاجتماعية والشعبية من معاركها مهما كانت مآلات تلك المنازلات ومن الممكن جدّا أن تكون دروس الانكسارات وحتّى الهزائم أكثر إفادة لضمان انتصارات المستقبل.

إلى الأعلى
×