بقلم منذر خلفاوي
مقدمة
شهد السنغال انتخابات رئاسية في مارس 2024 بعد أحداث دامية واحتجاجات شعبية ضدّ تأجيلها من قبل الرئيس السابق “ماكي سال” الذي كانت نيّته إعادة الترشح للمرة الثالثة رغم عدم دستورية التمديد. وكانت نسبة المشاركة مرتفعة (65 %)، خاصة في أوساط الشباب الذي يعاني من البطالة وغلاء المعيشة والقمع ومن غياب الحريات. وكان فوز “باسيرو فاي” ممثل حزب “الوطنيين الأفارقة من أجل الأخلاق والعمل” (باستيف) الذي وقع إطلاق سراحه من السجن مع رفيقه زعيم الحزب “عثمان سونكو” أيّاما فقط قبل الحملة الانتخابية، بنسبة (54,24 %) تعبيرا جماهيريا عارما عن حالة رفض الحزب الحاكم والرتابة التي أملتها النسخة السنغالية من التعددية الديمقراطية البرجوازية. لكنّ وجود أغلبية معارضة تمثل النظام القديم في المجلس النيابي عرقل مشاريع القوانين الرئاسية الشيء الذي دفع “فاي” إلى حلّ البرلمان والدعوة إلى انتخابات سابقة لأوانها بتاريخ 17 نوفبمر الفارط حيث فازت فيها قائمات رئيس الوزراء وزعيم باستيف “عثمان صونكو” بأغلبية المقاعد (130 من 165).
علاقة الحكام الجدد بالامبريالية الفرنسية
خلافا لعديد الدول غرب إفريقيا التي هزّتها عديد الانقلابات العسكرية (ثمانية منذ 2020)، فإنّ السنغال تميّز باستقرار الحكم المدني طوال 63 سنة وبالتداول على السلطة بالوسائل السلمية عن طريق الانتخابات ويعتبر “باستيف” الحزب الناشئ منذ عشرة سنوات فقط، حزبا يساريا حداثيا يعلن تبنيه طموحات الشعب السنغالي في الاستقلال والافريقانية ومكافحة الفساد… الخ.
تزامنا مع الاحتجاجات السياسية والاجتماعية التي عرفتها داكار سنة 2023 ورفعت فيها شعارات مندّدة بهيمنة المستعمر الفرنسي السابق وتدخلاته في الاقتصاد والسياسة، قرر الرئيس” فاي ” منذ أيام إنهاء وجود القواعد العسكرية الأجنبية في البلاد بداية من سنة 2025 تلبية للموجة المعادية لفرنسا بصفة خاصة، السائدة لدى شعوب بلدان غرب افريقيا والتي ترى في وجود القواعد العسكرية استمرارا للهيمنة واستنزافا للثروة، وقد أقدمت بلدان مالي وبوركينا فاسو والنيجر على الإجراء نفسه من طرف قادة الانقلابات الأخيرة، علما وأن رئيس السنغال الأسبق “عبد الله واد” (2000-2012) قد طرح نفس الفكرة سنوات حكمه وطالب فرنسا بإخلاء القواعد الموجودة في بلاده. ويسعى الرئيس المنتخب الحالي “فاي” إلى إنهاء التعامل بعملة الفرنك الأفريقي الموروثة من الاستعمار وإصدار عملة وطنية جديدة. وفي قطاع التربية، يريد تعميم تدريس اللغة الإنكليزية في بلد لا تزال اللغة الفرنسية فيه لغة رسمية.
ورغم أهمية ما أعلنه “فاي” فإنّ هذه التصريحات والخطوات لا تعني القطع الحاسم للعلاقات مع الامبريالية الفرنسية في المجالات الاقتصادية والمالية والتجارية أو التخلص من التبعية الثقافية فقد أعلن الرئيس “فاي” في نفس الوقت ما يلي “تظل فرنسا شريكا مهمّا للسنغال من ناحية مستوى الاستثمارات ووجود الشركات الفرنسية” وأيضا “أودّ أن أقول للمجتمع الدولي ولشركائنا إن السنغال ستحتفظ بمكانتها دائماً، وستظل البلد الصديق والحليف الآمن والموثوق به لأيّ شريك سينخرط معنا في تعاون شريف ومحترم ومثمر للطرفين”.
طبيعة التغيير في السنغال
إن التغيير السياسي الحاصل في السنغال هو تغيير من داخل نفس المنظومة ولم يكن تغييرا جذريا لقلب نظام الحكم برمّته بحكم طبيعة برنامج “باستيف” الاشتراكي الديمقراطي والاصلاحي إذ أنه لم يتّخذ إجراءات وطنية وشعبية عميقة مثل تأميم المصالح الأجنبية أو إعادة جدولة الديون الخارجية مع البنوك الأجنبية أو سنّ ضريبة على الثروات الكبرى للرأسمال الكمبرادوري… الخ. وبالنظر أيضا لعمق التغلغل الامبريالي الفرنسي في كافة المجالات، فباريس هي الشريك والمستثمر الأول في السنغال ولديها 250 شركة في البلاد توفر 30 ألف فرصة عمل، ولها 40% من مخزون الاستثمار الأجنبي. وتملك الشركات الفرنسية نسبة 17.5% من مجموع الواردات نحو السوق السنغالية، كما وصلت الصادرات الفرنسية إلى دكار عام 2020 حدود 900 مليون دولار، فيما لم تتجاوز الصادرات السنغالية نحو باريس 75 مليون دولار. وبالإضافة لمناهجها المعتمدة في المدارس السنغالية بنسب كبيرة، تملك فرنسا شبكة من المدارس تضم 13 مؤسسة تعليمية في السنغال وتشير أرقام الخارجية الفرنسية إلى أن الطلاب السنغاليين في فرنسا وصل عددهم عام 2020 إلى 14 ألفا، في حين أصدرت في العام نفسه ما يربو على 3 آلاف تأشيرة دراسية لطلاب من السنغال. ويعتبر المعهد الفرنسي في داكار منطلقا لدعم الفرانكفونية والترويج لثقافتها في التعليم والبحث العلمي.
إن أغلب البلدان الإفريقية التي أعلنت أو قامت بإخلاء القواعد العسكرية الفرنسية لم تقطع مع التدخلات الامبريالية المنافسة والعائدة مثل الصين وروسيا التي تسعى إلى التغلغل في هذه البلدان مزاحمة البلدان التقليدية الغربية وهو ما تجسّد في التواجد العسكري والاقتصادي لقوى أجنبية وللمؤسسات المالية الدولية. هذا ما يجب التنبيه إليه حتى لا يقع تعويض هيمنة أجنبية بأخرى. إنّ الضمان الوحيد للاستقلال الفعلي هو التعويل على قدرات الشعوب وخاصة العمال والفلاحين الفقراء وعلى طاقات الشباب والنساء بقيادة القوى الثورية من أجل القطع مع مختلف أشكال الحكم الكمبرادوري وإقامة أنظمة ديمقراطية شعبية.