الرئيسية / صوت العالم / الامبرياليّة الأمريكيّة تستأنف مشروع الشّرق الأوسط الجديد بهمجيّة أكبر
الامبرياليّة الأمريكيّة تستأنف مشروع الشّرق الأوسط الجديد بهمجيّة أكبر

الامبرياليّة الأمريكيّة تستأنف مشروع الشّرق الأوسط الجديد بهمجيّة أكبر

بقلم حبيب الزموري

جذور مشروع الشّرق الأوسط الجديد أو الكبير

تعود بداية استعمال مصطلح الشرق الأوسط في السياسة الدولية إلى خمسينات القرن الماضي في سياق مساعي القوى الامبريالية المتدخّلة في المنطقة والدّاعمة للكيان الصهيوني لتفكيك الهوية العربية للمنطقة والحدّ من إشعاع حركات التحرر الوطني ذات التوجّه القومي. وتدعّم هذا التوجّه بعيد حرب أكتوبر 1973 وبداية بروز أطروحات إمكانية التعايش السلمي مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، تلك الأطروحات التي كانت الغاية منها تهيئة الرأي العام العربي والمصري تحديدا لقبول مسارات التسوية والتطبيع.
لكن رغم انخراط النظام المصري في مسار التسوية والتطبيع منفردا فإنّ حركة التحرر الوطني العربية والحركة الوطنية الفلسطينية التي شكّلت رأس حربتها تمكنت من الإبقاء على شرارة المقاومة مشتعلة والمحافظة على أبجديات الصراع العربي-الصهيوني بوصفه صراع وجود لا صراع حدود. وكان على القوى الامبريالية مواصلة العمل على ضرب جيوب المقاومة في المنطقة بتقديم دعم لا محدود للكيان الصهيوني وبتواطؤ لا محدود من الأنظمة العربية الرجعية. لقد عملت دبابات الفكر الأمريكي اليميني المحافظ بأقصى طاقتها لرسم ملامح هذا المشروع الجغرا-سياسي منذ ثمانينات القرن العشرين قبل أن تخرجه وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كونداليزا رايس إلى العلن في مفتتح القرن العشرين ويصبح أحد مفاتيح السياسة الخارجية الأمريكية في منطقتنا العربية بدأت المخططات بالفعل. فالمشهد العراقي اليمني السوري الليبي والسوداني يشي بذلك خصوصا إذا ما نظرنا إلى المسارات المتجدّدة التي طالت بلدان الشرق الأوسط. فالتعويل على الحروب التي حصلت في المنطقة العربية، منذ حرب لبنان 2006، والحروب التي شهدتها الدول العربية، كحرب الخليج، وما تشهده الساحة الشرق أوسطية في هذه الأيام هو أكبر دليل على أنّ واشنطن و”إسرائيل” لم يغضّا الطرف عن مشروعهم الصهيو-أمريكي، فقد أشارت “رايس” حينها إلى أنّ “مشروع الشرق الأوسط الكبير” سيحقق، حسب تعبيرها، “حلا سحريا لعلاج أزمات المنطقة المزمنة”، حيث ربطت المشروع بعبارة “الفوضى الخلاقة”، وهو ما يؤدي بالتالي إلى “التدمير الخلاق” تعبيرا عن فلسفتهم الليبرالية البراغماتية.
أمّا عربيا فمن أبرز ما قيل في سياق التّبشير بالعصر العربي الجديد الذي تقوده أشدّ الأنظمة العربية رجعية وتخلّفا ما قاله رئيس لجنة الدفاع والخارجية في المجلس الوطني الاتحادي بدولة الإمارات الدكتور علي راشد النعيم “إسرائيل موجودة لتبقى، وجذور اليهود والمسيحيين، ليست في نيويورك أو باريس، بل هنا في منطقتنا… إنهم جزء من تاريخنا، ويجب أن يكونوا جزءً من مستقبلنا”.
لقد اعتمدت واشنطن في مشروعها على المشكلات القائمة في الشرق الأوسط، حيث تدّعي افتقاره إلى الديمقراطية الحقيقية، وخاصة في تلك البلدان التي لا تنصاع لمطالب واشنطن السياسية. ويدرك المتابع أنّ مظاهر التقسيم السياسي الجارية في كلّ من العراق وسوريا واليمن، يظهر استراتيجية واشنطن في المنطقة.
وما يبرز أكثر الترابط العضوي بين المشروع الامبريالي الأمريكي والمشروع الصهيوني هو تبنّي الفريق اليميني المحافظ المتطرف المحيط بالرئيس الأمريكي جورج بوش سنة 1997 للأطروحات الصهيونية حول نفس الموضوع الواردة في كتاب رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق شمعون بيريز كتابه “الشرق الأوسط الكبير” الصادر سنة 1996 والذي كان حوصلة ودعما للأطروحات التي أفرزها مؤتمر مدريد سنة 1991 ودخول القضية الفلسطينية إلى نفق التسويات لرفع الحرج عن بقية الأنظمة العربية العميلة المتعطشة للتطبيع والتخلص من عبء القضية الفلسطينية حيث تحوّل الكتاب إلى مرشد للإدارات الأمريكية المتعاقبة بمختلف تلويناتها وعوّض مصطلح الشرق الأوسط الكبير مصطلح الشرق الأوسط الجديد ومن أبرز مرتكزات مشروع بيريز:

  • الكل خاسر في الحرب
  • نظامٌ إقليمي على غرار الاتحاد الأوروبي
  • مشكلة الزراعة والمياه
  • البِنية التحتية للنقل والمواصلات، والآثار السياسية والاقتصادية المترتبة عنها
  • الدولة الفلسطينية من وجهة النظر الإسرائيلية
  • مشكلة اللاجئين: الأسباب والحلول

فبعد العراق والسودان وليبيا واليمن وصل قطار الفوضى الخلاّقة إلى محطته السورية والتي لن تكون آخر محطاته في المنطقة.
لا يمكن فهم هذا التركيز الامبريالي على الوطن العربي إلاّ في سياق الأزمة الخانقة للرأسمالية العالمية وشراسة المنافسة بين أقطابها الرئيسية فالولايات المتحدة الأمريكية تعي جيّدا أنّ عصر النفط والغاز مازال متواصلا لعقود قادمة وأنهما سيواصلان تشكيل العنصر المغذّي الرئيسي لآلة الإنتاج الرأسمالي وتحتكر هذه المنطقة لوحدها 48% من الاحتياطي النفطي العالمي وعلى 40% من الاحتياطي العالمي للغاز الطبيعي إضافة إلى الأهمية الاستراتيجية لمنطقة “الشرق الأوسط” في التجارة العالمية للنفط حيث تمرّ 20% منها عبر مضيق هرمز. وقد بلغ إجمالي واردات الولايات المتحدة الأمريكية من النفط من أربع دول عربية هي السعودية والعراق والكويت وليبيا قرابة 15.4 مليون برميل في جانفي 2024، أي ما يمثل قرابة 7.4% من إجمالي وارداتها. أمّا الصين أكبر منافس تجاري للولايات المتحدة فإنها تعتمد على منطقة الشرق الأوسط لتوفير 50% من وارداتها من النفط الخام وهو ما يبيّن أسباب تحوّل هذه المنطقة إلى ساحة رئيسية للتنافس والصراع الامبريالي العالمي، وهو صراع مرشح للتنامي ولن يقتصر فقط على السيطرة على مصادر الطاقة إذ يكفي أن نلاحظ نسق نموّ الاستثمارات الأمريكية والصينية في المنطقة لنتبيّن حدّة هذا الصراع وطبيعته الإمبريالية، إذ سجّلت الاستثمارات الأمريكية بين سنتي 2005 و2022 نموا بنسبة 279% كما شهدت الاستثمارات الصينية خلال نفس الفترة نموا بنسبة 309% وتتركز الاستثمارات الصينية في قطاع الطاقة بنسبة تتجاوز 80%.

مرتزقة المشاريع الامبرياليّة في المنطقة

نفضت الامبريالية الأمريكية يديها من الأنظمة العربية الرجعية العميلة منذ تسعينات القرن الماضي بعد نفاذ صلاحيتها كأنظمة وظيفية عميلة مكلّفة برعاية المصالح الأمريكية في المنطقة بسبب الفساد الذي أدّى إلى تفسّخها وعجزها عن الصمود أمام الهزّات الشعبية لتحوّل اهتمامها نحو فاعلين آخرين لتكوينهم ودعمهم لإكسابهم القدرة على التأثير وصناعة الرأي العام والقرار. وتتغير هوية هؤلاء الفاعلين وطبيعتهم حسب خصوصيات كل مجتمع. فمنهم جمعيات المجتمع المدني والأحزاب ومنهم القبائل ومنهم الجماعات المسلّحة… إنّ طبيعة الصراع داخل المجتمع ودرجة تطور العلاقات الاجتماعية المتعلقة بتنظيم الإنتاج هي المحدّد الرئيسي في اختيار الولايات المتحدة الأمريكية لوكلائها. ففي بلدان مثل بلدان الخليج العربي حيث تسود علاقات إنتاج متخلفة ونمط حكم ملكي عائلي مطلق ما زالت الولايات المتحدة الأمريكية تراهن على العائلة المالكة. وفي البلدان التي تسود فيها علاقات إنتاج رأسمالية تابعة لمراكز التحكم الرأسمالي العالمي، وشهدت تأسيس منظمات وأحزاب سعت إلى اختراقها وتوظيفها. وفي بلدان أخرى تحكمها أنظمة ديكتاتورية تحتكر السلطة والثروة كسوريا والسودان فإنها عملت على تشكيل عصابات مسلّحة تتبنّى ما تطلبه الجماهير من شعارات رنّانة دينية أو ديمقراطية…
أمّا بالنسبة إلى القوى الامبريالية الأخرى الصاعدة كالصين وروسيا والتي تحاول منافسة الولايات المتحدة في المنطقة والتصدي لمشروع الشرق الأوسط الكبير فإنها تواصل رهانها على الأنظمة العربية الرسمية الموالية لها رغم تساقطها كأوراق الخريف الواحد تلو الآخر، النظام البعثي في العراق فالنظام الليبي فنظام الأسد في سوريا وهي تحاول اليوم حماية آخر نقاط ارتكازها في المنطقة في إيران والجزائر.
إنّ ما حدث في العراق بعد 2003 وما حدث وما سيحدث في سوريا يُعتبر تعبيرة مكثفة عن تكتيك الفوضى الخلاّقة الذي تتبنّاه الامبريالية الأمريكية، لتصفية آخر تركات القوى الامبريالية التقليدية (إنجلترا وفرنسا) المتمثلة في تقسيم سايكس-بيكو وإعادة تشكيل المنطقة وفق الرؤية الأمريكية.
إنّ تسارع الأحداث في وطننا العربي منذ بداية القرن والانهيارات التراجيدية للأنظمة العربية الرسمية الوظيفية التي انتهت صلاحيتها بالنسبة إلى الإمبريالية الأمريكية ولا تتماشى طبيعتها مع مقتضيات وشروط العصر الامبريالي الجديد يؤكّد مرة أخرى أزمة النظام الرسمي العربي. ولكنها هذه المرة أزمة غير قابلة لإعادة الإنتاج ولم تعد هذه الأنظمة قادرة على الإنحاء أكثر أمام العواصف بعد أن مرّغت أنوفها في وحل الفساد والعمالة وقمع شعوبها ولكن خاصة بعد أن فتح قوس الثورات الشعبية في الوطن العربي بكل انكساراتها وخيباتها وانحرافاتها. ولكن الشعب العربي بصدد استيعاب الدروس الثورية بما فيها الدروس الأشد دموية ومرارة بفعل السطو على تطلعاته وتضحياته في سبيل التحرر والانعتاق السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي من قبل قوى محلية وإقليمية ودولية عملت كلّ ما في وسعها على تشويه هذه الموجة الثورية والانحراف بها عن أهدافها الوطنية والديموقراطية والشعبية. ورغم كلّ هذه الانكسارات والخيبات فإننا نستطيع القول بكل ثقة وأمل إنّ الشعب العربي قد بدأ يتلمّس طريق التحرر وخطا خطوته الأولى في مسار الثورة على واقعه السياسي والاجتماعي والثقافي المتعفن. هذا الطريق الذي كان البعض يعتقد أنه لن يتجاوز بضع خطوات ليجني ثمار الحرية والعدالة والكرامة. وكان البعض الآخر يعتقد أنه مجرّد نزهة في حديقة ياسمين. إنّ طريق الثورة والتحرر طريق شائك كله عقبات تُدمي الأقدام والقلوب وتُدمع الأعين ولا يوجد شعب قادر على وصف هذا الطريق أبلغ من الشعب الفلسطيني الباسل الذي كان بمقاومته الباسلة وبصموده الأسطوري المقاوم الأكبر للمشروع الامبريالي الأمريكي ورأس حربته دولة الاحتلال الصهيوني وملحقاته الرجعية العربية.

إلى الأعلى
×