بقلم علي البعزاوي
أياما قبل بداية السنة الجديدة وتحديدا يوم 27 ديسمبر 2024 توجه رئيس الدولة بكلمة مقتضبة إلى الشعب التونسي عبّر له فيها عن أطيب التمنيات راجيا أن تكون سنة ملؤها النجاح وتتجسّد فيها الحرية والكرامة والعدل وترفع فيها كل التحديات وتتحقق آماله وانتظاراته المشروعة في الشغل والحرية والكرامة الوطنية. وأضاف أن مواجهة كل أشكال التحديات في ظل الأوضاع المتقلبة في العالم يقتضي وحدة وطنية صماء تتكسر على جدارها كل المحاولات اليائسة لضرب الاستقرار.
لقد جاءت هذه الكلمة في وقت تشهد فيه البلاد أزمة خانقة اقتصادية ومالية واجتماعية وسياسية وإصرارا على المواصلة في سجن المخالفين في الرأي والمنتقدين لخيارات السلطة من سياسيين ونقابيين وصحافيين ونشطاء من النساء والرجال. فعن أيّ “وحدة وطنية صماء” يتحدث الرئيس؟ وكيف تتحقق هذه الوحدة بصورة ملموسة؟
شروط الوحدة الوطنية
لنفترض جدلا أنّ الوحدة الوطنية ضرورية ومطلوبة على اعتبار أنها تمثل أحد شروط النجاح والتقدم وتحقيق الأهداف على كل الصعد وأنها ضمانة للاستقرار الخ… فهل هي مسألة آلية تُفرض على المواطنين قسرا أم سلوك اختياري واع يُقبل عليه المواطن عن قناعة عندما يشعر بأنه حر ويتمتع بكامل حقوقه في القبول والرفض والتعبير والاحتجاج ونقد المسؤولين دون ملاحقة وعندما يتوفر له الشغل والعيش الكريم ويتمتع بالحق في الصحة الراقية والخدمات الاجتماعية ويسافر بحرية ولا يقع التنصت على هاتفه ولا يُهمّش بسبب خيارات اقتصادية واجتماعية لم يساهم فيها ولم يبد رأيه بشأنها، خيارات من شأن تكريسها على أرض الواقع أن يتسبب في تجويعه وإقصائه فيشعر بأنه مواطن من درجة ثانية.
إنّ أصل الأشياء هو التعدد والاختلاف والرأي والرأي الآخر لأن المجتمع ليس متجانسا ويتشكل من طبقات وفئات مصالحها متباينة ومتناقضة ومن الطبيعي أن تتعدد المواقف وتختلف الحلول والمقاربات والمشاريع بحسب المصالح الطبقية المختلفة. ومن حق الشعب اختيار المسؤولين في المؤسسات التمثيلية وفي السلطة التنفيذية وفي مختلف الوظائف من خلال انتخابات حرة وديمقراطية وشفافة تشرف عليها هيئة انتخابات مستقلة تقف على نفس المسافة من كل الفرقاء السياسيين والاجتماعيين وفي ظل قضاء مستقل يديره مجلس أعلى للقضاء منتخب ديمقراطيا وإعلام حر ومستقل لا يأتمر بأوامر السلطة التنفيذية ولا يتعرض للضغط والهرسلة حول ما يكتب وما لا يكتب، إعلام محكوم بأخلاقيات المهنة لا بمراسيم وقوانين تضيق على الحق في التعبير.
لقد ناضل التونسيات والتونسيون ضد مجلة الصحافة في عهد بن علي ومن أجل الحق في التنظم والتعبير والإبداع وتحملوا السجن والتنكيل من أجل فرض الحريات السياسية التي تحققت في ثورة 17 ديسمبر/14 جانفي بالدموع والدماء وظن كثيرون أنّ هذا المكسب المحقق لا يمكن التراجع عنه لأنه الشرط الضروري للتقدم والازدهار في ظل دولة قانون ومؤسسات ديمقراطية تحتضن كل التونسيات والتونسيين على اختلاف مشاربهم الفكرية والسياسية ولونهم وجنسهم. دولة يشعر فيها الجميع بالمساواة وبالمواطنة الحقيقية والانتماء لتونس قلبا وقالبا.
الوحدة الوطنية المطلوبة عنوان الاستبداد
إن الدعوة إلى الوحدة الوطنية في مثل الظروف الحالية التي يعيشها التونسيات والتونسيون وفي ظل الخيارات والسياسات اللاشعبية واللاوطنية التي تخدم حصريا مصالح الأقلية الأكثر ثراء في البلاد وتستجيب لشروط المؤسسات المالية النهابة وتخدم مصالح كبرى الشركات الأجنبية وتساهم بالمقابل في تفقير الشعب وتجويعه، هي دعوة للاصطفاف والقبول قسرا بهذه الخيارات وما يترتب عنها من تكميم للأفواه وتجريم للاحتجاجات السلمية المدنية التي لا يراها الحكم إلا من زاوية ضرب “الاستقرار” و”التآمر”. إن الشعب التونسي لا يقبل خيارات التبعية والاستغلال والتهميش والتفقير ولا يمكن منطقيا أن يستجيب لدعوات الوحدة الوطنية بينما تتمتع الشعوب المتقدمة بحق الرأي والتعبير والاحتجاج وتلقى المساندة من المنظمات الحقوقية والأحزاب وعموم المواطنين وتدافع عنها في حالات القمع وتتدخل وسائل الإعلام الحرة والمنحازة لمصالح شعوبها والمنتصرة لحقها الأساسي في الحرية للتنديد والضغط على أصحاب القرار إيمانا منها بأن الوطن بحاجة إلى كل الأفكار والمواقف حتى يساهم الجميع كلّ من موقعه في إعلاء صرحه.
وحدة الشعوب لا تقهر وغير قابلة للاختراق
الأكيد أن بلادنا مستهدفة من القوى الامبريالية باعتبار موقعها الاستراتيجي ومجمل الثروات التي تحتويها والتي من شأنها إسالة لعاب الشركات العابرة للقارات وكبرى الدول التي تتصارع من أجل اقتسام وإعادة اقتسام مناطق النفوذ في العالم وفق موازين القوى الجديدة. وفي أتون هذا الصراع بين الامبرياليات تضطر الدول التابعة إلى الاصطفاف وراء هذه القوة أو تلك بحثا عن مصالح الطبقة المهيمنة في المجتمع والفوز بمشروع استثماري أو الحصول على قروض ومساعدات عادة ما تكون مشروطة وملغومة. والمعروف أن الدولة التونسية تدين بالولاء منذ 1956 إلى اليوم إلى القوى الاستعمارية الغربية (فرنسا، الاتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة الأمريكية) وأغلب معاملاتها من توريد وتصدير تتمّ مع هذه الدول التي بدورها تروّج سلعها في السوق التونسية وتقيم الشركات والمصانع في بلادنا وتستغل اليد العاملة التونسية وتحقق الأرباح الطائلة. لكنها تعيق في نفس الوقت التطور المستقل لبلادنا. وبحكم هذا الدور تسمح لنفسها بفرض مواقفها السياسية على الدولة التونسية وتمرير أجنداتها المختلفة خدمة لمصالحها المباشرة والبعيدة. ومن هذه الزاوية تصبح بلادنا رهينة لهذه الدول وعرضة للتدخلات والصراعات الأجنبية. فكل قوة استعمارية وإقليمية مثلها مثل كبار التجار تحاول التسويق لسلعها من أجل الفوز بالسوق التونسية وتوجيه صناع القرار المحلي وفق ما يخدم سياساتها ومصالحها الاستراتيجية. ويمكن لهذه الصراعات/التدخلات أن تستفيد ممّا يحدث في الداخل التونسي من صراعات سياسية وتجاذبات وأزمات، وهو ما حصل خلال ثورة الشعب التونسي حيث نجحت القوى الاستعمارية والإقليمية في مساعدة أنظمة الحكم المتعاقبة للالتفاف على الثورة وحرفها عن مسارها الطبيعي وأهدافها وفي مقدمتها الاستقلال الكامل والفعلي لتونس وسيادتها الوطنية.
إنّ وحدة الشعب التونسي بكافة طبقاته وفئاته وقواه الديمقراطية والتقدمية حول مشروع وطني ديمقراطي شعبي يكرس السيادة الوطنية والعدالة الاجتماعية ويمكّن الشعب من أن يكون سيدا على ثروات بلاده وصاحب السلطة الفعلية في دولة قانون ومؤسسات ديمقراطية مستقلة عن كل قوى الهيمنة هو البديل الحقيقي عن “الوحدة الوطنية الصماء” التي يطالب بها الحكم القائم لأنها (وحدة الشعب التونسي) وحدة واعية وقائمة على مصالح الأغلبية الشعبية لا وحدة قسرية تخدم مصالح الأقلية الكمبرادورية وكبرى الشركات والمؤسسات الاستعمارية.
هذه الوحدة الواعية والتي ينخرط فيها الشعب عن وعي وتصميم هي الصخرة الحقيقية التي تتكسر عليها كل الأطماع الإقليمية والدولية وكل محاولات الإخضاع والهيمنة والاستغلال ونهب الثروات الوطنية. والشعب التونسي بحاجة فعلا إلى هذه الوحدة لأنها صمام أمانه وشرط تحرره وانعتاقه.
السلطة للشعب من أجل الديمقراطية الشعبية والسيادة الوطنية والعدالة الاجتماعية.