بقلم جيلاني الهمامي
يعيش النظام الرأسمالي العالمي منذ منتصف سبعينات القرن الماضي على وقع سلسلة من الأزمات المتعاقبة والمتلاحقة، كانت أزمة خريف 2008 واحدة من أخطرها. ورغم كل المساعي والإجراءات التي اتخذتها الحكومات البرجوازية ورغم الأموال الطائلة التي ضخّتها البنوك المركزية فإنّ ذلك لم يمنع استمرار الأزمة وبلوغها في السنوات الأخيرة درجة من التعفن غير مسبوقة في كل المستويات تقريبا، الاقتصادية والمالية والنقدية والسياسية والديبلوماسية والعسكرية والاجتماعية والبيئية، الأمر الذي أذكى المجادلات الفكرية والنظرية والسياسية حول ظاهرة الأزمة في المنظومة الرأسمالية العالمية وخصائصها الراهنة والتهديدات التي تنجرّ عنها لقوى الإنتاج والشعوب والبيئة والطبيعة وحتى وجود الجنس البشري.
هل كان ماركس على حق؟
لقد احتدم الجدل حول تفسير أسباب الأزمة ودوافعها من جهة وحول سبل معالجتها والخروج منها من جهة ثانية. وفي هذا الصدد ظهرت عشرات إن لم نقل مئات المقاربات يمكن تصنيفها في معسكرين كبيرين، يرى الأوّل أنّ المضاربات المالية التي شهدت تطورات مذهلة منذ بداية الألفية الحالية هي المتسببة في الأزمة، فيما يرى المعسكر الآخر العكس تماما، مفسّرا الأزمة على النحو الذي رآه ماركس حينما قال: “تكمن الأصول النهائية لجميع الأزمات في الاقتصاد “الحقيقي” للإنتاج والتبادل”(1).
اللافت للانتباه في هذا الجدل المحتدم الذي أنتج أدبا غزيرا هو عودة كارل ماركس بقوة إلى حلبة/محور الصراع الفكري والنظري، وعودة مقولاته في تفسير أزمة النظام الرأسمالي إلى الرواج إلى درجة أن تبنّاها الكثير من خصومه مثل أتباع كينز Keynes والكينيزيون الجدد néo keynésiens وما يسمى بـ”الراديكاليين” وحتى طائفة من اقتصاديّي ما يسمى بـ”علم الاقتصاد السائد” أي علماء الاقتصاد الليبراليين والليبراليين الجدد.
صحيح أنّ تحاليل ماركس كانت تتعلق بنمط آخر من الرأسمالية – إذا صحّ التعبير – أي رأسمالية مازال الإنتاج الزراعي يتمتع فيها بقوة كبيرة ومازالت الصناعة في بداياتها والسّوق العالميّة الوليدة لم تبلغ ما بلغته اليوم العولمة من اندماج كل بلدان العالم وانصهارها في منظومة موحدة كما يقول الاقتصادي الأمريكي خوسيه تابيا في كتابه “الأزمات الست للنظام الرأسمالي”: “لدينا اليوم اقتصاد عالمي رأسمالي، اقتصاد يشمل الكرة الأرضية برمّتها،[…] يبدأ الأمر في نهاية القرن التاسع العشر، لكنها المرّة الأولى في التاريخ البشري التي يوجد فيها نظام تاريخي واحد فقط على الكوكب في وقت معيّن. وهذا يغيّر أشياء كثيرة”(2).
ولكن استيعاب ماركس للقوانين التي تحرك النظام الرأسمالي خوّل له منذ حوالي مائتي سنة تقريبا إدراك عواقب هذه القوانين إذ قال (بمعية فريديريك انجلس) في البيان الشيوعي “وفي الأزمات يتـفـشّى وباء مجتمعيّ ما كان ليبدو، في كل العصور السالفة، إلاّ مستحيلا، وهو وباء فائض الإنتاج. إنّ المجتمع يجد نفسه فجأة وقد رُدَّ إلى وضع من الهمجية المؤقتة، حتى ليُخيَّل أنّ مجاعة وحرب إبادة شاملة قد قطعتاه عن وسائل العيش؛ فتبدو الصناعة والتجارة وكأنهما أثر بعد عين، ولماذا؟ لأنّ المجتمع يملك المزيد من الحضارة، والمزيد من وسائل لعيش، والمزيد من الصناعة، والمزيد من التجارة. ولم تعد القوى المنتجة، الموجودة تحت تصرّف المجتمع، تدفع بنمو علاقات الملكية البرجوازية قُدُما، بل بخلاف ذلك، أصبحت أقوى جدا من هذه العلاقات التي باتت تعيقها؛ وكلما تغلّبت على هذا العائق جرّت المجتمع البرجوازي بأسره إلى الفوضى، وهدّدت وجود الملكية البرجوازية. فالعلاقات البرجوازية غدت أضيق من أن تستوعب الثروة، التي تُحدثها. فكيف تتغلب البرجوازية على هذه الأزمات؟ من جهة بتدمير كتلة من القوى المنتجة بالعنف، ومن جهة أخرى بغزو أسواق جديدة، وباستثمار الأسواق القديمة كليّا. وما هي عاقبة هذا الأمر؟ الإعداد لأزمات أشمل وأشدّ والتقليل من وسائل تدارُكها”(3).
لقد تأكد من خلال الكثير ممّا صدر من الإنتاج الفكري والنظري في العلوم الاقتصادية أنّ الرأسمالية في عصرنا الراهن أو ما أسماه البعض بـ”رأسمالية القرن 21″ والتي جرى العمل على إبرازها كظاهرة اقتصاديّة ذات خصوصيّات مختلفة عمّا سبقها قبل التطورات العلمية والتقنية الجديدة، لا تخرج في الحقيقة مهما كانت هذه الخصائص الجديدة عن القوانين الأساسية التي توقّف عندها ماركس بالتّحليل منذ كتاباته الأولى “نظريّات فائض القيمة” (1860 – 1861) والتي أثراها لاحقا في كتابه رأس المال. وكان على منظّري الاقتصاد السياسيّ البرجوازيّ رغم كل المحاولات و”التقليعات” النّظريّة أن يعترفوا بهذه الحقيقة التي لم يتمكّنوا من دحضها.
ومن بين الذين تعمّقوا في تأكيد هذه الحقيقة العلمية، الاقتصاديان Guglielmo Carchedi وMichael Roberts صاحبا كتاب “الرأسمالية في القرن الحادي والعشرين من خلال منظور القيمة” (إلى جانب كتابات أخرى(4)) الذي بَيّنَا فيه أنّ التّطورات العلمية والتقنية الجارفة التي يعرفها مجتمع اليوم (الرقميات وعلوم الاتصال والعملة المشفّرة الخ…) والاتجاه نحو مزيد الاكتشافات والاختراعات التي من شأنها إحداث تغييرات عميقة أخرى في النشاط الاقتصادي والعلاقات الاجتماعية لا تتطلّب بالضرورة من الناحية الاقتصادية (وبالخصوص لتفسير أزمة النظام الرأسمالي) نظرية جديدة. واعتبرا أنّ نظرية القيمة التي طوّرها كارل ماركس تمثّل “الإطار التحليلي الثاقب” للتعاطي مع عديد القضايا المميزة للاقتصاد الرأسمالي العالمي الرّاهن مثل أشكال تنظيم العمل وتقنيات الإنتاج والذكاء الاصطناعي وتبعاتها على العلاقات الاجتماعية (الطبقية) وقضايا البيئة وبشكل عام التحولات التي تشهدها الرأسمالية في عصر الاحتكارات في صيغها الحالية وغيرها.
إنّ جوهر نقد ماركس لأزمة الرأسمالية ينبني على نقده للتناقض الدائم بين الطابع الاجتماعي للعمل والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج من جهة ومن جهة أخرى على نقده لنمط إنتاج فائض القيمة وسيرورة تحقيق الأرباح والتراكم الرأسمالي وميل معدّل ربح الشركات إلى الانخفاض. وهو ما باتت تقرّ به طائفة واسعة من علماء الاقتصاد في الغرب الرأسمالي ويعلنون بصوت عال “لقد كان ماركس على حق”.
أكثر من ذلك ما عاد الكثير منهم يتحرّج من الاعتراف بأنّ هذه المنظومة قد شاخت. ورغم ما يبدو عليها من مظاهر القوة والعظمة، فقد دبّت إليها الكثير من علامات الهشاشة التي تسعى البرجوازية بشكل محموم إلى التغطية عليها عبر طائفة لا محدودة من الدعايات والتنظيرات ولكن أيضا بالتلويح بـ”الحرب” والحرب النووية كآلية لتدمير فوائض الإنتاج وأجزاء كبيرة من القوى المنتجة (الشعوب) في محاولة لختم دورة من دورات التراكم والنمو وانطلاق دورة جديدة على أنقاضها يجري فيها التراكم الرأسمالي متحررا من كل العوائق والإكراهات.
تلك هي واحدة من “الحلول” الأساسية الجاري إعدادها لمعالجة الأزمة الراهنة للنظام الرأسمالي العالمي والتي تتمظهر بشكل بارز في ظاهرتين في أعلى درجات الخطورة وتذكّرنا بأكثر الفترات قتامة في تاريخ الحضارة الرأسمالية المعاصرة. ففي العشرينات من القرن الماضي وإلى غاية منتصف القرن عرفت الرأسمالية أزمة حادة (الركود الأعظم سنة 1929) الذي شكّل الحاضنة الاقتصادية والاجتماعية لتفريخ الفاشية والنازية والدافع الأساسي لاندلاع الحرب العالمية الثانية. واليوم وفي صورة مشابهة لتلك الفترة يقرّ الجميع بأنّ الأزمة الراهنة بصدد إفراز نفس الإفرازات وهي صعود اليمين المتطرّف واتّساع هيمنته على السّاحات السياسيّة في أمريكا وأوروبا وآسيا من ناحية والسعي الحثيث إلى إعداد حرب كبرى. ويتجلى ذلك في تصاعد أعمال التحرش العسكري في أكثر من مكان في العالم والتسابق الجنوني نحو التسلّح وتطوير وسائل الفتك وتقنياتها.
وهو ما سنعود إليه في الحلقة القادمة.
(يتبع)
الهوامش:
(1) كارل ماركس – رأس المال، الجزء الثالث.
(2) خوسي تابيا
Six crises de l’économie mondiale : la mondialisation et les turbulences économiques des années 1970 à la pandémie de COVID-19 | SpringerLink
(3) ماركس – انجلز: بيان الحزب الشيوعي – حزب العمال
(4) من أهمّ ما كتبا مؤلف “العالم في أزمة”:
World in crisis: A global analysis of marx’s law of profitability