أثارت تصريحات الرّئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب استغراب الكثير وفي نفس الوقت موجة من الاستياء والسّخرية. من هذه التّصريحات، وقد اتّسم بعضها بنوع من التّهكم، قوله “لست على يقين من أنّني لن أضمّ جزيرة قروينلاند” Groenland مضيفا في نبرة جادّة “إن امتلاك قروينلاند والتحكّم فيها ضرورة قصوى“. ومنها أيضا ما ردّده في أكثر من مرّة، مباشرة بعد الإعلان عن نجاحه في الانتخابات الرئاسيّة، بخصوص كندا التي قال بشأنها “ينبغي أن تكون الولاية 51″. وفي مناسبة أخرى لم يخف نواياه في السيطرة عسكريّا على قنال بنما الذي يمثّل شريانا هامّا للاقتصاد الأمريكي. ولم يتوقّف عند هذا الحدّ فقد امتدّت أطماعه إلى خليج المكسيك الذي قال إنّه سيغيّر اسمه ليصبح “خليج أمريكا“.
النّزعة التوسعية الاستعمارية
تعكس هذه التصريحات النزعة التوسعية التي تُحرّك الشعبوي ترامب. فككلّ الاستعماريين يستحضر في كلّ حالة جملة من “الأسباب” و“الحجج” التي تنمّ عن درجة الوقاحة التي لم تعد الامبريالية الامريكية تجد حرجا في التّعبير عنها. إنّ المصالح الأمريكية باتت تخوّل لترامب تهديد أمن البلدان والشعوب وسيادتها لإحراز السبق على المنافسين والخصوم في كل ساحات التّنافس والصّراع، اقتصاديا وتجاريا وفي مجال التسليح وحرب المعلومات والجوسسة والاستعلامات الخ… ومن المنظور الأمريكي ومنظور ترامب بالذّات فإنّ العالم قاطبة بقارّاته وبحاره ومحيطاته وأجوائه يمثّل ساحة معركة متاحة لغطرسة الرّساميل والسّاسة والعساكر الأمريكيين. لذلك فإنّ الظّرف يقتضي بالنسبة إليه السيطرة على قناة بانما Panama التي تمرّ عبرها سنويا أكثر من 200 مليون طن من البضائع الأمريكية ومراجعة التعريفات التي اعتبرها “عملية احتيال كبيرة” وذلك للحد من التمدد التجاري الصيني واستبعاد نفوذها في المنطقة وفي العالم ككل. ولم يخف ترامب تبرّمه من أن تدار، كما قال، الموانئ على ضفاف القناة من قبل شركة مقرّها في هونك كونغ. وبحسب ما كشفت عنه وسائل الاعلام فإن بعض مستشاريه بصدد التفكير الآن في حلول لاستعادة السيطرة على القناة والتراجع عن “الهدية” التي قدمها كلينتون للسلطات البانمية سنة 1999. ومن الحلول الجاري فيها البحث إدراج بانما في اتفاقيات تجارية متعددة الأطراف وتكثيف الاستثمار فيها، مقابل استئناف السّيطرة الكاملة على القناة. وهكذا فكلّما تعلّق الأمر بالمصالح والأرباح والنفوذ والهيمنة تلُغى كلّ الاعتبارات الأخرى (السيادة، القانون الدّولي…) ليحلّ محلّها منطق العجرفة.
هذا من جهة ومن جهة أخرى، وفي مشهد ساخر، نشر أريك، ابن ترامب، صورة لوالده بصدد القيام بشراء كندا عبر عملاق التجارة الالكترونية “أمازون” Amazon وكأنّ الأمر يتعلّق بمجرّد أنبوب معجون أسنان أو نظّارات شمسيّة. واتّضح مع مرّ الأيام أن الأمر يتعدّى مزاح الصورة الإشهارية وأنّ الرّجل جادّ في نواياه إذ روى لبعض رؤساء الولايات الجمهوريين في لقائه بهم يوم الخميس الماضي في مقر إقامته بفلوريدا فحوى المحادثة التي جمعته بالوزير الأوّل الكندي ترودو وقوله “إذن يجب أن تكون كندا الولاية 51″. ولم يُخف تحمّسه لتحقيق هذا الحلم قائلا “إن كندا والولايات المتحدة معا، سيكون أمرا جيّدا حقّا، تخلص من هذا الخط المرسوم بشكل مصطنع وسترى ماذا سيكون الوضع، سيكون أفضل بكثير حتى للأمن القومي“. هذه صورة أخرى عن الشعبوي المتهوّر الذي لا يتكلم إلا بلغة المضارب العقّاري وقد وجد نفسه فجأة يمتلك أكبر قوة عسكرية في العالم لدعم استراتيجيته التفاوضية أو بالأحرى استراتيجيته التوسّعية الاستعماريّة.
كذلك الامر بالنسبة إلى جزيرة قروينلاند التي كانت على الدّوام محطّ أطماع أمريكية. فقد سبق أن عرض الرئيس الأمريكي الأسبق ترومان زمن الحرب الباردة 100 مليون دولار لشرائها. علما وأن للولايات المتحدة الأمريكية قاعدة عسكرية جنوب الجزيرة التابعة للدنمارك والتي تمتلك موارد طبيعية هائلة ومعادن نادرة مهمّة لصناعات التكنولوجيا والطاقة الخضراء وتقدّر احتياطات النّفط قبالة سواحلها بنحو 52 مليار برميل، أو 3% من الاحتياطات العالمية. ولهذه الأسباب أصبحت الجزيرة أكثر إثارة للأطماع الامريكية. وعلاوة على ذلك فإنّها تحتل مكانا استراتيجيا يكتسي أهمية خاصة من الناحية العسكرية لتعقب الغواصات والسفن الصينية والروسية. وستزداد أهميتها مع تزايد حجم حركة التنقل في تلك المنطقة في ضوء ما تتوقعه الدراسات نتيجة التغيرات القادمة وخاصة ذوبان كميات كبيرة من ثلوج القطب الشمالي. ولذلك فليس من فراغ اتجاه ترامب إلى وضع يده على هذه الجزيرة. والواضح أنه جادّ في نواياه بدليل تكرار تصريحاته بخصوصها وبدليل إيفاد نجله إلى هناك ولكن أيضا بدليل تأكيد أنه لن يستبعد استخدام القوتين العسكرية أو الاقتصادية للاستيلاء على الجزيرة. فإذا تمّت صفقة البيع والتي لن تكلّف الولايات المتحدة الامريكية حسب تقديرات مجلة “الايكونوميست” the Economist أكثر من 50 مليار دولار أي تقريبا 5 % فقط من الإنفاق الدفاعي السنوي الأمريكي، فهي لن تكون الأولى في تاريخ الولايات المتّحدة، إذ سبق لها أن اشترت الكثير من الأراضي التي أصبحت من الولايات المكونة للاتّحاد.
الاستعمار تقاليد وثقافة أيضا
إنّ تاريخ الولايات المتّحدة الامريكية حافل بمثل هذه العمليّات “التّجارية” الاستعمارية. ومن أهمها شراء جزيرة مانهاتن من “الهنود الحمر” ومساحتها حوالي 90 كيلومتر مربّع وهي اليوم مركز مدينة نيويورك. كان ذلك سنة 1626 حين اشترى حاكم مستعمرة “هولندة الجديدة” هذه الجزيرة مقابل ما قيمته 24 دولارا أمريكيا (بأسعار تلك الفترة) من الأقمشة والحلي والخرز. ومن هذه العمليات أيضا شراء ولاية لويزيانا من فرنسا عام 1803، من قبل الرئيس توماس جيفرسون مقابل 11 مليون دولار والتنازل عن 4 ملايين دولار من الديون الفرنسية المستحقّة للولايات المتّحدة. وتبلغ مساحة ولاية لويزيانا حاليا ما يزيد عن ثلثي مساحة تونس (113 ألف كيلومتر مربع) وتشتمل المنطقة التي تمّ شراؤها على ما يعرف اليوم بولايات أركانساس وميسيسيبي وأوكلاهوما والتكساس وتصل شمالا حتى حدود ولاية نبراسكا الحالية.
وفي سنة 1859، اشترت الولايات المتّحدة من إسبانيا ولاية فلوريدا بمبلغ 5 ملايين دولار، وكامل ولاية كاليفورنيا بحوالي 12 مليون دولار، وأقدمت على ضم شمال المكسيك (ولاية نيومكسيكو) بقوة السلاح ردا على رفض المكسيك بيع هذه المنطقة. وبعد سنوات قليلة من ذلك، في عهد الرئيس الأمريكي أندرو جونسون وبالتحديد سنة 1867، اشترت الولايات المتّحدة الأمريكية من روسيا القيصرية ولاية ألاسكا (أكبر ولاية الآن وتبلغ مساحتها مليون ونصف كيلومتر مربع) مقابل أكثر من سبعة ملايين دولار، وهي منطقة غنية بالثروات المعدنية وخاصة النفط والذهب. أمّا آخر الولايات التي التحقت بالاتحاد فهي ولاية هاواي Hawaï وذلك سنة 1959 وهي أرخبيل جزر في المحيط الهادي تم شراؤها منذ نهاية القرن التاسع عشر (1897). وقد كانت هذه الجزر من زمن طويل محط أطماع الأمريكان ومحل نزاع مع اليابانيين الذين أصبحوا في وقت من الأوقات يشكّلون ثلث سكان الأرخبيل. وفى سنة 1893، قام مرتزقة أميركيون وأوروبيون بثورة فى هاواي وعزلوا خلالها الملكة عن العرش، وأقاموا مكانها جمهورية وسيطروا على مقدرات البلاد وبعد أربع سنوات من ذلك دخلوا في مفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية انتهت بضم جمهورية هاواي إلى أمريكا مقابل 60 مليون دولار فسارع الأمريكان بإقامة أشهر قاعدة عسكرية بحرية على إحدى جزر الأرخبيل (قاعدة بيرل هاربر Pearl Harbor).
وفي آخر هذه السلسلة تجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة الامريكية كانت اشترت بمقتضى معاهدة باريس لسنة 1898 كلا من برتو– ريكو Porto Rico وجزيرة كوبا Cuba قبل أن تحرز استقلالها سنة 1902 وأيضا جزر الفليبين وقوام Guam في جنوب غرب المحيط الهادي. ومن خلال هذا اللمحة الموجزة نقف على تأصّل النزعة التوسعية الاستعمارية لدى الولايات المتحدة الأمريكية وسياسات النهب وعمليات الالحاق التي قامت بها وفرضتها على العديد من الشعوب بالاعتماد على قوة المال أو قوة السلاح كلما تطلب الأمر ذلك.
وهكذا فأن يهدّد الرّئيس الأمريكي الحالي دونالد ترمب باحتلال جزيرة قروينلاند أو بضمّ كندا أو بالاستيلاء على قناة بنما باستعمال “القوة الاقتصاديّة والعسكريّة عند اللّزوم” كما قال، ودون احترام سيادة هذه البلدان وكرامة شعوبها وفي استهتار تامّ بالقوانين الدّولية والمؤسّسات العالميّة (بصرف النّظر عن فاعليتها) ليس بالأمر المُستغرب من شعبوي مغامر مستهتر بكل القيم والمبادئ. ومن غير المستبعد أيضا أن يجرّ هذا الرّهط من البرجوازيين ومن غلاة الرجعية والرّوح الاستعمارية الكريهة العالم، كما جرّه من قبل هتلر، إلى حرب مدمّرة قد تنتهي هذه المرّة، بفعل وجود السّلاح النّووي، بالقضاء على الجنس البشري وتدمير الكرة الأرضية أصلا. وهو ما ينبغي أن يؤخذ مأخذ الجدّ ويستنفر كل القوى المعادية للحرب في العالم وفي مقدّمتها العمّال والكادحون والشعوب المضطهدة لتتصدّى لهذا الخطر الجدّي الزّاحف في ظلّ وضع متأزّم تشقّه صراعات ضارية بين مختلف القوى الإمبريالية الكبرى القديم منها والجديد.
جيلاني الهمامي