بقلم علي البعزاوي
وقّع عدد من النواب يوم الإثنين 20 جانفي الجاري على بيان بعنوان“الوحدة الوطنية هي السبيل الأنجع لمجابهة التحديات المستقبلية” وأكّدوا حرصهم على حماية البلاد من كل المخاطر الأمنية والإرهابية التي تؤشّر لها التطورات الحاصلة في المنطقة وأنّ معالجة الأزمة لا يمكن أن تكون إلا من خلال حوار عقلاني جدّي لا يستثني إلا من هم مورطون في قضايا وأنّ هذه المبادرة تندرج في إطار دعوة رئيس الجمهورية للوحدة الوطنية. وأرفق هؤلاء النواب مبادرتهم بجملة من المطالب تتمثل في تكريس استقلالية القضاء وإطلاق سراح المتتبعين في قضايا الرأي من نقابيين وإعلاميين ومدوّنين ونشطاء، وتنقيح النصوص القانونية الزجرية على غرار الفصل 24 من المرسوم 54 وإعادة تفعيل الهيئات العليا المستقلة مثل هيئة الاتصال السمعي البصري…
بعض الأحزاب دعت من جهتها، كل من موقعه، إلى “حوار وطني جاد وشامل وغير إقصائي من أجل إنقاذ تونس وفق برنامج تشاركي ديمقراطي يعالج القضايا والمشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية المطروحة بدءا بإطلاق سراح كل الموقوفين السياسيين ورفع كل التضييقات عن الأحزاب والمجتمع المدني والحريات العامة والفردية” بالنسبة لحركة النهضة، وإلى “تعزيز الجبهة الداخلية ومدّ جسور التواصل مع جميع الأحزاب والهيئات المحلية والشروع في إصلاح الإعلام وتركيز المؤسسات الدستورية على غرار المحكمة الدستورية وتعديل المرسوم 54…” بالنسبة للتيار الشعبي.
تزامنت هذه المواقف/الدعوات مع صدور تقرير نشره موقع “الحرة” الأمريكي يفيد أن الرئاسة التونسية بدأت منذ أسابيع في إجراء اتصالات غير معلنة مع عدد من الشخصيات السياسية وممثلي الأحزاب والمنظمات المدنية والحقوقية بهدف الإعداد لحوار وطني يزمع عقده خلال شهر مارس المقبل وأنّ هذا الحوار يستثني حركة النهضة وبعض القوى المتحالفة معها.
لماذا الحوار الآن؟
الأكيد أنّ التطورات الحاصلة في المنطقة وخاصة تمكن المجاميع الإرهابية والتكفيرية من السلطة في سوريا بمساعدة أمريكية صهيونية تركية كان لها وقعها على أنظمة الحكم في المنطقة ومن ضمنها تونس حيث دعا الرئيس قيس سعيد الشعب التونسي إلى “الوحدة الوطنية الصمّاء“. ومن المنتظر عقد لقاء ثلاثي يجمعه بالرئيس الجزائري ورئيس الحكومة الليبية لبحث سبل التعاون واتخاذ التدابير الضرورية لمواجهة التطوّارات المذكورة.
ثم أنّ استفحال الأزمة العميقة والشاملة على كل المستويات والعزلة التي تعيشها المنظومة الشعبوية وتصاعد وتيرة القمع وانطلاق بعض الاحتجاجات القطاعية والمحلية (المعلمون والأساتذة النواب، العاملات الفلاحيات، المعطلون عن العمل…) من شأنها أن تشكل عنصر ضغط على السلطة القائمة وتفرض عليها البحث عن حلول. لكن الجانب الأخطر والأكثر ضغطا وتهديدا للاستقرار هو بلا شك الجانب الاقتصادي. فكافة مظاهر الأزمة التي تركتها منظومة الحكم السابقة تعمّقت وتتعمّق بشكل مطّرد في ظل الحكومات المتعاقبة لقيس سعيد. وتداعياتها تبدو ثقيلة على مختلف الطبقات الكادحة والشعبية بما في ذلك الفئات الوسطى التي تشهد انهيارا مريعا. فميزانية 2025 هي ميزانية “مجبى واقتراض” (54% موارد جبائية و38% موارد متأتية من الاقتراض). وهي نسبة غير مسبوقة يضاف إليها ضعف الاستثمار للسنة الثالثة على التوالي (أقل من 6% من مجموع الميزانية). وهذا يعني أن إنتاج الثروة يكاد يكون معدوما وباب الانتداب في القطاع العمومي مسدود يضاف إليه شحّ التمويل في المرفق العمومي من صحة وتعليم ونقل… وليس هناك إجراءات جادة لوقف ارتفاع الأسعار وتحسين المقدرة الشرائية وتوفير المواد الضرورية للتونسيين من غذاء وأدوية ومواد أولية ونصف مصنعة للمؤسسات الصغرى والمتوسطة المتهاوية…
كل هذه الإجراءات التي تدخل في خانة التقشف هي تنفيذ لما تريده المؤسسات المالية الدولية وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي الذي يدعي الرئيس قيس سعيد أنه يرفض إملاءاته.
إن النتائج الكارثية لهذه السياسات القائمة على التبعية المالية والتجارية والتكنولوجية والاعتماد على القطاعات الهشة مثل السياحة وإهمال القطاعات الإنتاجية الأساسية (فلاحة، صناعة، بنية تحتية…) المنتجة للثروة والمشغّلة لليد العاملة ستزيد الأزمة الاجتماعية استفحالا من تفاقم للبطالة والفقر وتدهور للمقدرة الشرائية وندرة للمواد الضرورية أو افتقادها. في نفس الوقت ستزداد الخدمات العامة تدهورا وسيزداد المحيط تلوثا جراء انتشار وتراكم الأوساخ.
وفي هذا المناخ العام المتأزم تتفاقم الهجرة إلى الخارج سواء منها النظامية أو غير النظامية كما تتفاقم كافة أنواع الفساد والجريمة والعنف وخاصة العنف ضد النساء، ويتوسّع تناول المخدرات والاتجار بالبشر (البغاء).
هل تتطلب أوضاع البلاد حوارا وطنيا؟
الجواب على هذا السؤال يتطلّب بالضرورة تحديد أسباب الأزمة التي تزداد مع الوقت سعة وعمقا. إنّ الفشل الحقيقي هو فشل الخيارات الاقتصادية المتّبعة وليس فشل هذه الحكومة أو تلك ولا فشل هذا الوزير أو ذاك. الفشل هو فشل منوال تنموي ظل يتهاوى من مرحلة إلى أخرى إلى أن استنفذ بالكامل إمكاناته المحدودة أصلا مع المنظومة الشعبوية ودخل في مسار من الأزمات/الإخفاقات في ظل أوضاع إقليمية ودولية مضطربة.
الأمر يتعلق بنمط إنتاج استعماري جديد تابع انتهجته تونس منذ خروج المستعمر الفرنسي، وهو نمط موجه نحو الخارج وخادم حصريا لمصالح رأس المال الأجنبي والفئات الكمبرادورية التي تخدمه في الداخل. وبدل مراجعة هذا النمط كان التحالف الطبقي الاستعماري الجديد بشقيه الداخلي والخارجي يجد كل مرة متنفسا بواسطة حلول ترقيعية شكلية مع الحفاظ على جوهر الخيارات المتبعة. وكانت النتائج بثّ الوهم وتأجيل السقوط النهائي إلى أن جاءت الثورة التونسية حيث أسقط الشعب التونسي بن علي وفرض الحريات السياسية، أي تغيير شكل السلطة، لكنه لم يكن منظّما ومعبّأ وقادرا على فرض مراجعة الخيارات الاقتصادية التي باتت تكبّل البلاد وتعيق تطوّرها ونهوضها بسبب ضعف القوى الثورية والتقدمية الموكول لها منطقيا وعمليا مهمة قيادة عملية التغيير الجذري.
ومع انقلاب 25 جويلية الذي جاء لإنقاذ المنظومة استمرّ هذا النهج ووصلت البلاد اليوم إلى مأزق حقيقي حيث تفاقمت المديونية الداخلية والخارجية وتفككت مختلف منظومات الإنتاج (فلاحة، صناعة، خدمات أساسية…). إنّ الاستمرار في هذا النهج والإبقاء على نفس خيارات التبعية والاستغلال يحمل أكبر المخاطر على تونس، والحلول الترقيعية الشكلية المتمثلة في تغيير الحكومات ومحاولة إنعاش الشركات الأهلية وفتح خطوط التمويل وغيرها لن تجدي نفعا أمام تعمّق الأزمة في ظل التغيرات التي يشهدها العالم والمنطقة.
إن الخلاص من هذه التركة الثقيلة رهين إسقاط الاستبداد وإزاحة قاعدته الطبقية وإرساء نظام وطني ديمقراطي شعبي يكرّس خيارات جديدة تقطع مع منوال التنمية الاستعماري الجديد الخادم للأقلية الكمبرادورية ومشغليها من القوى الاستعمارية شركات ومؤسسات ودول. منوال تنموي جديد يكرّس السيادة الوطنية بما يعنيه من سيادة للشعب على ثروات البلاد وعلى الدولة حتى تخدم الأغلبية الشعبية وتحمي الديمقراطية الواسعة والعدالة الاجتماعية، عدالة بين الطبقات والفئات، وبين الجهات في نفس الوقت.
إن الحوار الحقيقي هو حوار مع الشعب التونسي من أجل الرفع من وعيه وتنظيمه وتوحيدة حول الخيارات الوطنية الديمقراطية الشعبية حتى يتحمّل مسؤوليته في التغيير الجذري باعتباره صاحب المصلحة في ذلك.
السلطة للشعب من أجل السيادة الوطنية والديمقراطية الشعبية والعدالة الاجتماعية.